أشارت تقارير غربية إلى أن رئيس جهاز المخابرات العسكرية الفرنسية، جاك لانغليد دي مونتغروس، أجرى زيارة إلى رواندا، في نهاية نوفمبر 2022، وذلك بعد نحو أسبوعين فقط من إعلان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن ملامح استراتيجية باريس الجديدة تجاه القارة الأفريقية.
تعاون استخباراتي متنامٍ:
أشارت العديد من التقارير الغربية إلى وجود تحركات مكثفة غير معلنة بين باريس وكيجالي بغية تعزيز التعاون الاستخباراتي بين البلدين، وذلك منذ الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي ماكرون إلى رواندا، في مايو 2021، ويمكن عرض مؤشرات هذا التعاون المتنامي على النحو التالي:
1- لقاءات موسعة: عقد جاك لانغليد دي مونتغروس، خلال زيارته إلى كيجالي، لقاءات موسعة مع نظيره الرواندي، فينسينت نياكاروندي، ورئيس هيئة الأركان، الجنرال جان بوسكو كازورا. وتجدر الإشارة إلى أن مونتغروس، والذي تم تعيينه في فبراير 2022 في رئاسة جهاز المخابرات العسكرية الفرنسية، كان يترأس قبلها بعثة الاتحاد الأوروبي التدريبة في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث يرتبط بشبكة علاقات واسعة مع رواندا، التي كانت قد أرسلت قوات عسكرية إلى بانجي لدعم جهود مكافحة الجماعات الإرهابية هناك.
2- زيارة وفد عسكري رواندي رفيع إلى فرنسا: قام وفد عسكري رواندي رفيع، برئاسة رئيس هيئة الأركان، الجنرال جان بوسكو كازورا، بزيارة إلى باريس، منتصف مارس 2022، حيث تضمن الوفد المرافق لكازورا في هذه الزيارة كلاً من رئيس الاستخبارات العسكرية الرواندي، الجنرال فنسنت نياكاروندي، إلى جانب رئيس التعاون العسكري الدولي، ورئيس العمليات والتدريب بالجيش الرواندي.
3- تحول في الموقف الفرنسي: يعود التعاون الاستخباراتي بين باريس وكيجالي إلى فترة زيارة ماكرون إلى رواندا العام الماضي، بيد أن باريس ترددت في البداية في التعاون مع رواندا، قبل أن تتجه في النهاية لتعزيز التعاون معها، في ظل التراجع الملحوظ في النفوذ الفرنسي في الساحل وغرب أفريقيا، وحاجة باريس للتعاون مع كيجالي لاستعادة دورها المتراجع في القارة الأفريقية.
دوافع فرنسية متعددة:
يمكن إرجاع زيارة رئيس جهاز المخابرات العسكرية الفرنسية، جاك لانغليد دي مونتغروس، إلى رواندا، للأسباب التالية:
1- تنفيذ الاستراتيجية الجديدة: أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في 9 نوفمبر الماضي، إنهاء عملية برخان العسكرية في الساحل الأفريقي، وكشف ماكرون عن سعيه لإعداد استراتيجية جديدة تجاه القارة الأفريقية خلال ستة أشهر، وأنه يجري حالياً التشاور بشأنها مع شركاء باريس الأوروبيين والأفارقة.
ولذلك لا يمكن استبعاد أن يتضمن أحد جوانب زيارة رئيس جهاز المخابرات العسكرية الفرنسية إلى رواندا بحث ملامح الاستراتيجية الفرنسية الجديدة مع كيجالي، خاصة أن الاستراتيجية الفرنسية تتضمن تقليل الاعتماد على القوات الفرنسية والاعتماد بدلاً من ذلك على القوات المحلية وحلفائها في القارة. وتشكل رواندا في هذا الصدد إحدى أبرز الركائز التي تعول عليها باريس في تنفيذ هذه الاستراتيجية، لذا يستهدف ماكرون تعزيز التعاون وتقديم الدعم العسكري والاستخباراتي للدول الأفريقية القريبة من فرنسا، والعمل على توسيع الشراكات العسكرية والاستراتيجية.
ويرتبط ذلك بدخول بنين في مفاوضات مع رواندا منذ سبتمبر 2022، لتوفير الدعم اللوجستي والعسكري في مواجهة التهديدات الإرهابية المتنامية، حيث تستعد رواندا لنشر حوالي 250 جندياً في بنين، وهو ما أرجعته تقديرات لتنسيق فرنسي مع الطرفين، خاصةً أن زيارة ماكرون الأخيرة إلى بنين، في أغسطس 2022، تضمنت تعزيز التعاون العسكري مع بنين. كما قدمت باريس في نهاية نوفمبر الماضي عشرات المركبات العسكرية للحكومة البنينية لدعم جهودها في مكافحة الإرهاب. ويبدو أن باريس ستعتمد على القوات الرواندية كبديل لدعم بنين، بما يخفف من وطأة الانتقادات للدور العسكري الفرنسي في أفريقيا.
2- الوساطة بين رواندا والكونغو: تتصاعد التوترات بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، على خلفية توسع مناطق سيطرة حركة "23 مارس" المتمردة في إقليم كيفو الشمالية، واتهام كينشاسا كيجالي بدعم هذه الحركة. وفي الأسابيع الأخيرة دخلت باريس على خط الوساطة بين رواندا والكونغو، لتسوية الصراع، وتنظيم مباحثات مباشرة بينهما، وذلك بعد البيان الأخير الصادر عن فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وبلجيكا، والذي أدان تقدم عناصر الحركة المتمردة في شرق الكونغو، ودعوتها للانسحاب الفوري من الأراضي التي تسيطر عليها ووقف الأعمال العدائية.
وأعلن وزير الخارجية الأنغولي، تيتي انطونيو، في 25 نوفمبر 2022، عن التوصل إلى اتفاق بين كينشاسا وكيجالي لوقف إطلاق النار في شرق الكونغو، وذلك بعد الاتفاق على مطالبة حركة "23 مارس" بالانسحاب الفوري من المناطق التي تسيطر عليها، وهو الشرط الرئيسي الذي حددته كينشاسا لقبول فكرة التفاوض المباشر مع الحركة.
3- تسوية التوترات في البحيرات العظمى: باتت منطقة البحيرات العظمى تشكل أهمية خاصة بالنسبة لباريس، حيث تسعى الأخيرة لتجنب تصاعد وتيرة التوترات بين دول المنطقة، لحماية المصالح الفرنسية هناك، لاسيما في ظل حالة التنافس الإقليمي الحاد في هذه المنطقة، وما يتمخض عنها من تهديدات عسكرية واقتصادية هائلة.
ولعل الأزمة الحالية في شرق الكونغو تعكس أحد ملامح هذا التنافس بين دول المنطقة، والذي تتداخل فيه إلى جانب الكونغو رواندا وأوغندا، إذ إنه في أعقاب الاتفاق الذي أجرته الكونغو وأوغندا، في نوفمبر 2021، والذي بموجبه قامت الأخيرة بنشر قواتها في كينشاسا، من دون التنسيق مع كيجالي، عمدت الأخيرة إلى إعادة تنشيط التهديدات المتعلقة بحركة "23 مارس"، والتي ظلت خامدة لنحو عقد كامل.
4- سعي رواندا لتطوير الطاقة النووية: يتطلع الرئيس الرواندي، بول كاغامي، لتطوير الطاقة النووية المدنية لبلاده، حيث يسعى إلى أن تصبح بلاده رائدة في هذا القطاع بحلول عام 2050. وفي ظل الخبرة التي تمتلكها باريس في هذا المجال، يتوقع أن تستهدف رواندا الحصول على دعم باريس في هذا الأمر.
5- تنسيق التدخل الرواندي في موزمبيق: كانت رواندا تستعد للحصول على 20 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي لتمويل تدخلها العسكري في موزمبيق، منذ يونيو 2021، لمكافحة المتمردين الذين كانوا قد سيطروا على مقاطعة "كابو ديلجادو". وأشارت بعض التقارير إلى اتجاه بروكسل لتأجيل حزمة المساعدات المقررة لكيجالي لعدة أسابيع.
وتتخوف باريس من تأثير ذلك على الأوضاع الأمنية في موزمبيق، لاسيما في ظل وجود استثمارات تصل لحوالي 20 مليار دولار لشركة توتال إنيرجيز الفرنسية، وبالتالي تأتي زيارة رئيس جهاز المخابرات العسكرية الفرنسية إلى كيجالي لمحاولة تنسيق الدور العسكري لرواندا في موزمبيق.
6- قلق رواندا من تنامي الانتقادات الغربية: تزايد القلق الرواندي في الآونة الأخيرة إزاء تنامي الإدانات الدولية لدعم كيجالي لحركة 23 مارس المتمردة، لاسيما من قبل واشنطن، وبالتالي تستهدف زيارة مونتغروس إلى كيجالي محاولة طمأنة الأخيرة وتجنب أي توترات في علاقتها بالغرب بشكل عام، وباريس بشكل خاص، خاصةً في ظل الأهمية الكبيرة التي باتت تشكلها رواندا بالنسبة لحماية النفوذ الغربي في أفريقيا.
7- مواجهة الخطاب العدائي ضد فرنسا: يتصاعد السخط الشعبي في دول غرب أفريقيا ضد الوجود الفرنسي خلال السنوات الأخيرة، وتتهم باريس روسيا بتعمد نشر السرديات العدائية المضادة لفرنسا في هذه المنطقة، بما يقوض الحضور الفرنسي ويهدد مصالحها هناك.
وتسعى باريس لمواجهة الدعاية الروسية الموجهة ضدها، ويبدو أن فرنسا تستهدف توظيف رواندا لتحقيق هذه التطلعات، لاسيما في ظل الصورة الإيجابية التي تحظى بها عمليات الجيش الرواندي في عدد من الدول الأفريقية، أبرزها أفريقيا الوسطى وموزمبيق، حيث لم يتم رصد أي اتهامات للعناصر الرواندية بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين على غرار غالبية عمليات التدخل العسكري التي تشهدها القارة.
ارتدادات أوروبية وأفريقية:
يلاحظ أن هناك عدداً من التأثيرات المحتملة للتحركات الفرنسية، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- محاولة صياغة توافقات أوروبية: يسعى مسؤولون ألمان وفرنسيون لعقد لقاء في برلين، مطلع ديسمبر 2022، لتعزيز شراكتهم العسكرية في الساحل وغرب أفريقيا، وتنسيق التحركات الأوروبية هناك، وذلك للحفاظ على الحضور الأوروبي في غرب ووسط أفريقيا، وهو ما انعكس في اتجاه باريس لتعيين مبعوث خاص جديد لها لمنطقة الساحل، بديلاً عن المبعوث الحالي، فريدريك بونتمس.
ويبدو أن ثمة انزعاج غربي متنامٍ من النفوذ الروسي المتزايد في القارة الأفريقية، ولم يعد هذا الانزعاج يقتصر فقط على باريس، بل امتد ليشمل بقية القوى الأوروبية الأخرى الفاعلة في القارة الأفريقية، على غرار إيطاليا وألمانيا، وهو ما انعكس في المشاورات التي أجرتها روما وبرلين لمواجهة الدعاية الروسية في الساحل.
2- تشكيل تكتلات إقليمية جديدة: تعمل باريس حالياً على دعم تشكيل تكتلات جديدة في غرب ووسط أفريقيا، سواء من خلال دعم إعادة هيكلة قوات مجموعة دول الساحل الخمس، من خلال تحركات الرئيس الموريتاني، محمد ولد الغزواني، ومحاولة نقل رئاسة المنظمة من تشاد إلى النيجر، أو من خلال تعزيز التعاون والتنسيق مع مبادرة "أكرا"، والتي تضم بنين وغانا وتوغو وكوت ديفوار وبوركينا فاسو، بالإضافة إلى كل من مالي والنيجر، وهو ما انعكس في المؤتمر الذي استضافته أكرا، في 23 نوفمبر الماضي، لرؤساء دول وحكومات المجموعة، حيث تم التعهد بتخصيص الموارد اللازمة كافة لتشغيل المهمة العسكرية متعددة الجنسيات لمبادرة "أكرا" خلال شهر.
وفي الختام، تسعى فرنسا حالياً إلى بلورة شراكة واسعة مع حلفائها الأوروبيين، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، من أجل دعم جهودها لاستعادة نفوذها في القارة الأفريقية، لاسيما أن باريس لطالما مثلت الوكيل الغربي الرئيسي في غرب أفريقيا، لكن لاتزال فرص نجاح هذه المساعي الغربية محل شكل، خاصةً في ظل تضارب المصالح الواضح بينها، لكن يبدو أن أزمة الطاقة الحادة التي تعانيها أوروبا حالياً ربما تدفع الدول الأوروبية لتجاوز خلافاتها.