أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

"تبرير الإخفاقات":

لماذا ينتشر خطاب "لوم الضحايا" في أزمات الدول العربية؟

13 أكتوبر، 2016


تمثل وسائل الإعلام عنصراً رئيسياً في إدارة الأزمات، لما لها من دور بالغ في نشر المعلومات، وبما يدرأ نشر الشائعات التي تزيد الحالة العامة تشتتاً وارتباكاً. وإلى جانب هذا الدور الوظيفي، الذي كلما اتسم بالمهنية والمسؤولية والشفافية، كلما كانت إدارة الأزمات أكثر رشادة، تمارس وسائل الإعلام دوراً تفسيرياً تقدم من خلاله رؤية ذات دلالة لأسباب الأزمة وتبعاتها والعوامل المتسببة فيها، وهو ما بات يتخذ بُعداً تبريرياً لا يخلو من إلقاء اللائمة على ضحايا تلك الكوارث أنفسهم من أجل إبراء ذمة الحكومات وتقديم فاعليها باعتبارهم يبذلون جهوداً كبرى لا يُفسدها سوى إهمال المواطنين الذين يذهبون ضحايا ما ارتكبت أيديهم.

وعلى الرغم من أن الإعلام الدولي عرف حالات عديدة لتأطير القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية بما يبرر ويدعم توجهات الدول وسياساتها الخارجية، فإن اتباع الاستراتيجية ذاتها حيال الأزمات الداخلية يحمل في طياته تداعيات كارثية تؤثر على صلب تعهدات العقد الاجتماعي الذي يمنح الحكومات شرعيتها عبر تحملها المسؤوليات العامة وقيامها بواجباتها إزاء مواطنيها، ويُرسي نهجاً تبريرياً متسلسلاً ذا تبعات مستقبلية جسيمة.

الأُطر الإعلامية وتشكيل الوعي العام

تطرح نظرية "الأُطر الخبرية" News Framing Theory مدخلاً يقوم على أن الأحداث لا تنطوي على مغزى معين في حد ذاتها، وإنما تكتسب مغزاها من خلال وضعها في إطار يحددها وينظمها ويضفي عليها قدراً من الاتساق، من خلال التركيز على بعض جوانب الموضوع وإغفال جوانب أخرى، ما يعني انتقاء متعمداً لبعض جوانب الحدث أو القضية وجعلها أكثر بروزاً في النص الإعلامي، واستخدام أسلوب محدد وهادف في توصيف المشكلة وتحديد أسبابها وتقييم أبعادها وطرح الحلول المقترحة بشأنها.

ويتم تكوين تلك الأُطر باستخدام عدة آليات رئيسية تتمثل في كتابة العناوين الرئيسية والفرعية، الصور والتعليقات عليها، والمقدمات، وانتقاء المصادر والاقتباسات، والمقولات الرئيسية التي يتم إبرازها، والشعارات، والإحصاءات والرسوم البيانية، والاستخلاصات والفقرات الختامية، وهو ما يتم استخدامه في مجموعه لتقديم القضايا في إطار يدفع بالمتلقي لفهمها على نحو مقصود ومتعمد.

فالإطار قد يتم من خلال اختيار سياقات ومفردات معينة لوصف الحدث، سواء بالتهويل أو التهوين، كما قد يتم بالإضافة، أو الحذف، أو التشويه، أو السماح بذكر تفاصيل معينة دون أخرى، وهو ما يمثل وجهة نظر محددة بالقدر الذي يجعل ما يصل من معلومات هو ما يرغب فيه القائم بالاتصال، وليس بالضرورة ما حدث بالفعل، مما قد يؤثر في فهم الجمهور لذلك الحدث وحكمه عليه.

أُطر التبرير في الأزمات العربية

تتباين أنواع الأُطر الإعلامية بين أُطر الصراع والاهتمامات الإنسانية والمسؤولية وكذلك أُطر التبرير التي تعمد إلى تبني مقولات رئيسية مفادها تقديم الذرائع التي تبرر حدوث الكارثة على الرغم من الجهود المبذولة، مع إلقاء اللوم على أطراف أخرى قد تشمل الضحايا أنفسهم، وهي الأُطر الذي أصبح يلجأ إليها بعض الخطاب الحكومي العربي لتخفيف وطأة الانتقادات المُوجهة له إبان الأزمات.

فقد عرف الإعلام الدولي تأطير الأحداث بشكل متوافق مع توجهات الدولة وسياساتها الخارجية، وهو ما يظهر بقوة في أخبار الحرب ضد الإرهاب وشن الهجمات العسكرية الخارجية، إلا أن تبني ذلك التأطير الذرائعي الذي يلوم ضحايا السياسات الحكومية يبدو مثيراً للاستغراب عند استخدامه لتفسير الأزمات الداخلية وإلقاء اللائمة على ضحاياها من المواطنين الذين تقع حمايتهم في نطاق الواجبات المباشرة للحكومة.

ففي سوريا، استخدم نظام بشار الأسد ذرائع الاتهام بالإرهاب أو على الأقل إيواء الإرهابيين لتبرير الهجمات العسكرية التي طالت مدنيين، لاسيما في حلب، لتظهر صور الأطفال والعجائز وتنتشر في وسائل الإعلام الدولي، فيما النظام السوري يصر على التأكيد على قصف مناطق الإرهاب، وتبرير قصف طائرات الجيش النظامي للمستشفيات والبنى التحتية والمباني السكنية في الأحياء الشرقية من حلب، بأنها "مجرد أخطاء فردية ترتكب في أي حرب" وفق تصريحات الرئيس السوري في مقابلة مع قناة TV2 الدنماركية في أكتوبر الجاري.

ولا يقتصر استخدام استراتيجية "لوم الضحية" على قضايا الأمن والصراع العسكري فحسب، وإنما يمتد لقضايا الخدمات العامة على غرار إرجاع الحكومة التونسية أزمة انقطاع مياه الشرب إلى تزايد الاستهلاك في أشهر الصيف بنسبة 30%، ودعت شركة المياه الحكومية المواطنين هذا العام للاقتصاد في استهلاكهم، فيما قال المرصد الوطني للمياه، منظمة غير حكومية، إن دراسات للبنك الدولي حذرت قبل سنوات من أزمة مياه في تونس بسبب التغيرات المناخية، لكن الدولة لم تضع ما يتعين من استراتيجيات تحسباً لذلك. بينما أشارت دراسات أخرى لأثر استخدام أساليب ري غير اقتصادية في الزراعة وضرورة اتجاه الحكومة لترشيد سياسات اقتصاد المياه وتعميمها، إلا أن الأخيرة لجأت إلى اتهام المواطنين بالإسراف وتبرير الأزمة بتزايد الاستهلاك في فصل الصيف، بما يُحمل المواطنين مسؤولية أزمة يعانونها وتتحمل سياسات الحكومة الجانب الأعظم منها.

وفي السودان، تعاني ولاية كسلا شرق البلاد أزمات متكررة في مياه الشرب، واجهتها الحكومة بخطاب إعلامي تبريري لا يخلو من لوم المواطنين الذين باتوا يدفعون ثمن المياه النقية في ولاية يشقها نهر القاش الموسمي، حيث بادر حاكم الولاية بعرض إنجازات مشروعات توفير المياه في الصحف، والحديث عن ترشيد المياه، فيما عربات "الكارو" تجوب أغلب أحياء وشوارع مدينة كسلا تبيع المياه للمواطنين الذين تطالبهم الحكومة بدفع رسوم المياه مقدماً.

وفي مصر، شنت بعض وسائل الإعلام في سبتمبر الماضي هجوماً عنيفاً ضد ضحايا مركب رشيد من المهاجرين غير الشرعيين باعتبارهم مخالفين للقانون وهاربين بحثاً عن الثراء، يلقون بأرواحهم في عرض البحر بدافع من الجشع والطمع، في تجاهل للأسباب التي دفعتهم لذلك المسلك.

مُحفزات ومخاطر

يعد استخدام أُطر التبرير في تفسير أسباب الأزمات بعدد من البلدان العربية، واتباع أساليب تهاجم ضحايا الكوارث، وسيلة سهلة لدرء الفشل عن الحكومات. ومع ذلك، فإن هذا الأمر، في المقابل، يحمل تبعات كارثية تخلق سلسلة من الأزمات والظواهر المجتمعية. إذ إن تبني هذا النهج يولد حالة من الكراهية والحنق واللامبالاة بالمجموع وضعف الانتماء، مع عدم الثقة في نفاذ القانون ونزاهة أدوات المحاسبة العامة، وهي الأمور التي تؤثر على الدعائم الرئيسية للدولة وأسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

وعلى الرغم من وضوح تداعيات تبني تلك الأساليب، فإن الواقع في بعض الدول العربية يشير إلى وجود عوامل تحفز إنتاج وقبول هذه الأُطر الإعلامية التبريرية التي تتبناها فئة من الحكومات، وأهمها ما يلي:

1- تماهي الخطابين الحكومي والإعلامي، والذي يرتبط بدرجة تطابق التفسيرات التي تصدرها الجهات المسؤولة وتلك التي تتبناها وسائل الإعلام سواء بإعادة ترديد المقولات ذاتها أو إعادة إنتاجها وتقديمها باعتبارها رؤية خبيرة وليست تبرير حكومي، أو على العكس تفنيد تلك المقولات ودحضها وتقديم مقولات مضادة، وهي الاتجاهات التي ترتبط إلى حد كبير بطبيعة النظام الإعلامي السائد ودرجة تنوعه من حيث الملكية والانتماء والتوجه، وكذلك الأُطر التشريعية الحاكمة لممارساته ومستوى الحرية التي يتمتع بها.

وفي الحالة العربية، تتباين النظم الإعلامية من حيث درجات التنوع والحريات إلا أن أغلبها يميل إلى الاتجاه الذي تسيطر فيه الحكومات بشكل مباشر أو غير مباشر على الخطاب الإعلامي السائد، وهو ما يعني الميل العام لإعادة إنتاج مقولات التبرير التي تطلقها الحكومة لإبراء ساحتها.

2- حالة الاستقطاب المجتمعي، التي أصبحت تسيطر على المنطقة عقب أحداث ما يسمى بـ"الربيع العربي"، لاسيما في بلدانه، حيث باتت سمات الانشقاق والانقسام تسيطر على المناخ السائد وتجعل الرأي العام أكثر قبولاً لتبني مقولات تفسيرية تلقي اللائمة على الآخر، لاسيما إذا كان في المعسكر المضاد، ما يجعل الخطاب التبريري الذي تتبناه بعض الحكومات ويُعاد إنتاجه عبر وسائل تمتلكها أو تتحالف معها بشكل مباشر أو غير مباشر أكثر قبولاً لدى الفريق المؤيد للحكومة حتى وإن تضمن الأمر مهاجمة ضحايا أو حتى قتلى فقدوا أرواحهم.

3- تصاعد مخاوف الانهيار، إذ إن حالة الاضطراب العام التي شهدتها بعض البلدان العربية في السنوات الأخيرة، وتجارب الانهيار التي عصفت بدول مثل سوريا واليمن وليبيا، خلقت حالة من الهلع العام في البلدان الأفضل حالاً من أن تؤول إلى المصير نفسه حال الاعتراض أو الانتقاد أو المطالبة بالتغيير. وباتت تلك المخاوف تدفع الجمهور العام إلى تقبل السيئ خوفاً من الأسوأ، والسكوت عن الذرائع الحكومية بل والدفاع عنها خوفاً من مصير مظلم.

4- غياب المعلومات، إذ إن تفنيد المقولات الحكومية ودحض تبريرات المسؤولين والدفاع عن حقوق الضحايا يتطلب معلومات كافية عن حجم الكارثة أو الأزمة وأبعادها وسوابقها ومدى وجود أو غياب خطط مسبقة لمواجهتها، وغيرها من البيانات اللازمة للرد والنقد والتفنيد.

وعلى الرغم من تلك العوامل التي تحفز انتشار الخطاب الذرائعي لتبرير سوء تعامل بعض الحكومات مع الأزمات، فإن التجربة أثبتت بدائية مثل هذه الأساليب وفشلها، بل وإثارتها رأياً عاماً مضاداً غاضباً، خاصةً مع انتشار وسائط الإعلام الجديد التي ساهمت في خلق مساحات للنقاش المجتمعي البديل بعيداً عن عوامل الملكية والانتماء التي تحدد سياسة وخطاب وسائل الإعلام التقليدية المؤسسية وتدفع بها إلى الترويج لخطاب "لوم الضحايا" وإعادة إنتاج مقولاته.