عرض: مي أسامة، معيدة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة
تُعد العبوات الناسفة يدوية الصنع، أحد أبرز الأسلحة التي تعتمد عليها الجماعات الإرهابية، خاصة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، في المواجهات المسلحة بمنطقة الشرق الأوسط، لا سيما مع رخص ثمنها، وإمكانية الحصول على مكوناتها من الأسواق المحلية، إضافةً إلى فاعليتها في إحداث الأضرار أثناء المواجهات العسكرية.
كما تُشكّل هذه العبوات عائقًا أمام عودة المدنيين النازحين إلى المناطق التي كان الإرهابيون يسيطرون عليها، كما كان الحال مع استعادة القوات العراقية والسورية لبعض المناطق، والتي كان "داعش" يسيطر عليها إبان صعوده في عام 2014.
ومن ثمّ، فإن السؤال الأهم لدى الأجهزة الأمنية والعسكرية في العديد من دول الشرق الأوسط، هو كيف يتحصل هؤلاء الإرهابيون على مكونات تلك العبوات، وذلك في مسعى لوضع حد لمصادر إمداداتهم بها؟.
تجربة استقصائية:
بذل أحد مركز دراسات الصراع الغربية (Conflict Armament Research) جهودًا استقصائية وميدانية مكثفة بالتعاون مع القوات العراقية والسورية لتعقب مصادر وطرق إمداد تنظيم "داعش" بمكونات العبوات الناسفة، خاصة ما تبقى منها في مدن مثل: كركوك، وبعض أجزاء الموصل، وتكريت، وعين العرب في سوريا. ونشر المركز تقريرًا مفصلا في عام 2016 حمل عنوان Tracing the Supply of Components Used in Islamic State IEDs.
وبرغم التغيرات اللافتة على الأوضاع الميدانية في سوريا والعراق منذ تاريخ نشر التقرير، حيث تقلص نفوذ داعش إثر تغير المواقف الإقليمية والدولية في المنطقة، إلا أن النتائج التي انطوت عليها تظل مهمة في فهم طرق إمداد الإرهابيين بسلاح العبوات الناسفة في مناطق أخرى.
التقرير ذكر بالفعل أسماء لدول وشركات في سلسلة الإمداد، إلا أنه أكد -في المقابل- أن ذلك لا يعني ثبوت تورطها عن عمد في تيسير وصول هذه المكونات إلى تنظيم الدولة الإسلامية، خاصة أن بعض تلك المكونات قد تُستخدم في الأساس لأغراض مدنية، لكن قد يوظفها الإرهابيون لاحقًا في أغراض صنع العبوات الناسفة.
سلسلة الإمداد:
في بدايته، اعتمد التقرير على محاولة تفحص طبيعة مكونات العبوات الناسفة، من حيث المركبات الكيميائية المتعددة، كاليوريا، والبنزين الأبيض، والأسلاك والموصلات، وأجهزة التفجير الكهربائي عن بعد عبر الهواتف المحمولة، ثم سعى لتعقب مصادرها.
هنا، يشير مركز Conflict Armament Research إلى أنه فحص ما يزيد عن 700 مكون لتصنيع العبوات الناسفة من قبل تنظيم "داعش"، بهدف معرفة بلد المنشأ، ورصد السلسلة الكاملة لإمدادات هذه المكونات.
ووفقًا للتقرير، فإن تداول مكونات العبوات الناسفة يتم بشكل قانوني بين الطرف المنتج، والآخر الموزع، تليه التجارة بين الشركات الموزعة (التي تمثل وسيطًا Intermediary في هذه المرحلة) وشركات تجارية صغيرة. ومن ثم، أبرز التقرير 50 شركة و20 دولة في سلسلة إمداد المكونات بالعبوات، كمنتج أو وسيط أو مستقبل لها.
ويُشير التقرير إلى أن تركيا تتصدر هذه السلسلة، حيث تم رصد 13 شركة تركية، منها 8 وسطاء يستوردون هذه المكونات المنتجة في البرازيل، والصين، والهند، وهولندا، ورومانيا، وروسيا الاتحادية. ويرجع ذلك إلى أثر التقارب الجغرافي بين مناطق داعش في سوريا والعراق والحدود التركية.
فعلى سبيل المثال، فإن نترات الأمونيوم التي ظهرت في عبوات ناسفة في العراق ترجع إلى إحدى الشركات التركية التي قال مركز Conflict Armament Research إنه راسلها دون جدوى. كما أن مكون اليوريا الذي تم رصده في عبوات ناسفة في سوريا اتضح أنه من إنتاج روسيا الاتحادية، وتقوم بتوزيعه شركات تركية.
الأمر ذاته ينطبق على مكونات أخرى في العبوات الناسفة، مثل: بخاخ البيروكسيد الذي تستورده إحدى الشركات التركية من بلجيكا، ثم تعيد تصديره لشركات عراقية. ولا يختلف ذلك في حالة الأسلاك والكابلات، إذ عدد التقرير مجموعة شركات تركية تقوم بالتصدير للعراق.
تظهر أيضًا في هذه السلسلة، شركات هندية تصدر موصلات كهربائية إلى لبنان وتركيا، ومن ثم تأخذ طريقها إلى العراق كمنتجات يوظفها الإرهابيون لاحقًا في العبوات الناسفة. حيث يذكر التقرير -مثلا- أن إحدى الشركات الهندية باعت مليونَيْ جهاز مفجر لوزارة الدفاع السورية عام 2006 من نفس النوع الذي وُجد في مدينة عين العرب التي كان داعش يسيطر عليها في سوريا.
بل إن هذه الشركة باعت كذلك 6 ملايين متر من الموصلات الكهربائية لمصنع البناء والتشييد الآلي في عامي 2009 و2010. وفي عام 2011، تم وضع هذا المصنع على قوائم العقوبات، باعتباره واجهة للحكومة السورية لاستيراد مواد خطرة.
بدورها، فإن أجهزة المحمول المستخدمة في تفجير العبوات الناسفة تأتي من الهند والصين وفيتنام، ثم تنتقل إلى الشركات العراقية أو السورية كموزع.
كما أن اليابان، وسويسرا، والولايات المتحدة، تظهر كمنتج لمواد إلكترونية في العبوات الناسفة، مثل محولات الإشارة التي تستخدم في تصنيع القنابل يدوية الصنع. وكذلك تبرز إيران في هذه السلسلة، خاصة ما يتعلق بالبنزين الأبيض الذي يُستخدم في عمليات التفجير.
معضلة الرقابة:
يلفت التقرير إلى ملاحظة أساسية تتعلق بحداثة مكونات العبوات الناسفة التي أُجري عليها البحث الميداني في سوريا والعراق. إذ يشير إلى أن تاريخ إنتاج هذه المكونات وقعت في يد "داعش" بعد فترة قصيرة من عملية الإنتاج، وتتراوح بين شهر إلى 6 أشهر، مما يدل على ضعف الدور الرقابي الممارس من قبل الحكومات والشركات، فضلا عن عدم الوعي بإمكانية استخدام هذه المواد من قبل الجماعات الإرهابية.
فعلى سبيل المثال، فإن نترات الأمونيوم التي تم رصدها في العراق في أبريل 2015 كانت من إنتاج إحدى الشركات التركية في عام 2014، وكذلك فإن مكون اليوريا المستخدم في العبوات من سبتمبر 2014 إلى يناير 2015 أنتج في روسيا ووُزع في تركيا في عام 2014.
المعضلة الأكبر -بحسب التقرير- أن تلك المكونات تأتي عملية تصديرها للعراق وسوريا في شكل سلع تجارية يتم استخدامها في التعدين والصناعة، وإن كان بعضها يخضع لحظر التصدير الحكومي.
كما أن القيود الرقابية والتنظيمية على حركة هذه السلع أقل منها على الأسلحة التقليدية، ومن ثَمَّ فحصول الشركات على ترخيص لاستيراد هذه المكونات لا يُعتبر ضمانة كافية دون إعاقة وصول هذه المكونات إلى يد تنظيم الدولة الإسلامية.
وعلى الرغم مما يذكره التقرير بأن عددًا من الشركات التركية أفادت بأن المواد المنتجة أو الموزعة بواسطتها ليس مصرحًا بتصديرها، خاصة إلى سوريا والعراق، وإنما يرخص بتداولها داخليًّا فقط في السوق التركية؛ فإن هذه المواد قد وصلت إلى هذين البلدين.
الأمر ذاته بالنسبة لبعض الشركات الهندية التي أفادت بأنها لم تُصدِّر أيًّا من هذه المنتجات إلى سوريا والعراق، بما يعني أن تلك السلع تم تهريبها عبر شبكة من الوسطاء داخل الأسواق المحلية.
ويظل في الأخير أن هذا الاستقصاء الميداني الذي أجراه Conflict Armament Research حول إمدادات العبوات الناسفة يطرح على الأجهزة الأمنية التي تكافح الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط تحديًا يتعلق بضرورة مراقبة استخدامات بعض السلع المدنية التي قد يوظفها الإرهابيون في أسلحة تفجيرية.
للمزيد من التفاصيل حول التقرير انظر المصدر الأصلي:
Tracing the Supply of Components Used in Islamic State IEDs, Conflict Armament Research, 2016