يبدو أن ثمة نمطًا جديدًا من التنظيمات الإرهابية بدأ يظهر على الساحة خلال الفترة الأخيرة، ويتمثل في التنظيمات التي تستند إلى ظهير عرقي، يوفر لها قاعدة بشرية لا تبدو هينة، وتسهيلات لوجيستية عابرة للحدود، في بعض الأحيان، نتيجة التمدد العرقي في بعض دول الجوار.
وتمثل "جبهة تحرير ماسينا" في مالي أحد النماذج الجديدة لهذه التنظيمات الإرهابية، التي سعت إلى استغلال انتماء معظم عناصرها إلى قومية "الفولاني" التي تتواجد في وسط مالي وتمثل نحو 9% من عدد السكان حسب بعض التقديرات، من أجل تنفيذ عمليات إرهابية نوعية وتوسيع نطاق نفوذها، وهو ما بدا جليًا في مسارعتها إلى إعلان المسئولية عن الهجوم الإرهابي على فندق "ماديسون بلو" في العاصمة المالية باماكو، في نوفمبر 2015، رغم إعلان تنظيم "المرابطون"، قبل ذلك، مسئوليته عن وقوع الهجوم.
تنسيق ملحوظ:
لكن اللافت في هذا السياق، هو أن تلك الجبهة لم تسع إلى منافسة التنظيمات الإرهابية الرئيسية الموجودة في غرب أفريقيا، بل على العكس من ذلك، اتجهت إلى التواصل ورفع مستوى التنسيق مع بعض تلك التنظيمات فضلا عن المشاركة في تنفيذ بعض العمليات الإرهابية، على غرار العملية الإرهابية التي وقعت في إحدى القواعد العسكرية في وسط مالي، في يوليو 2016، وأسفرت عن مقتل 17 جنديًا وإصابة 35 آخرين، حيث شاركت الحركة في تنفيذها إلى جانب "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" وتمثلت مهمة عناصرها في استهداف أية تعزيزات عسكرية قد تفد إلى القاعدة العسكرية التي سيطرت عليها عناصر التنظيم الأخير لفترة وجيزة.
سمات جديدة:
يمكن القول إن استناد تلك الجبهة إلى ظهير عرقي، يتمثل في قومية "الفولاني" التي تتعرض للتهميش، يخالف القواعد التقليدية التي تأسست عليها التنظيمات الإرهابية، التي كانت حريصة في المقام الأول على توسيع هامش الخيارات المتاح أمامها من أجل استقطاب أكبر عدد من المتعاطفين معها. لكن ربما تكون تلك السمة الجديدة هى العامل الرئيسي الذي مكن الحركة من تنفيذ عمليات عابرة للحدود، في ظل تمدد تلك القومية داخل العديد من دول المنطقة، حيث تشير تقديرات عديدة إلى أن تعداد تلك القومية يصل إلى نحو 18 مليون نسمة، وتتواجد في دول مثل موريتانيا وتشاد ونيجيريا وغينيا بيساو ومالي.
ورغم أن تأسيس تنظيمات عرقية مسلحة لا يمثل نمطًا جديدًا، حيث ظهرت في مالي نفسها تنظيمات عرقية مسلحة، على غرار "الجبهة الوطنية لتحرير أزواد"، إلا أن ما يميز "جبهة تحرير ماسينا" هو أنها أضفت بعدًا جهاديًا على نشاطها وعملياتها داخل مالي.
استقطاب متواصل:
وقد تأسست "جبهة تحرير ماسينا"، التي تشير التقديرات إلى أن عدد عناصرها يصل إلى نحو ثلاثة آلاف مقاتل، في بداية عام 2015. ورغم عدم ارتباطها بأي من التوجهات الفكرية الإرهابية السائدة في المنطقة، إلا أن أفكارها تبدو قريبة بشكل كبير من فكر تنظيم "القاعدة"، وهو ما يفسر أسباب اتجاهها إلى التعاون بشكل ملحوظ مع بعض المجموعات "القاعدية"، مثل "كتيبة خالد بن الوليد" التابعة لـ"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" والتي تعرف أيضًا باسم "أنصار الدين الجنوب".
ووفقًا لاتجاهات عديدة، فقد نشأت "ماسينا" كحركة تهدف إلى الدفاع عن قومية "الفولاني" التي عانت من سياسات التهميش والإقصاء، ليس في مالي فقط، وإنما في دول أخرى مثل السنغال والنيجر وموريتانيا. وقد استغلت الجبهة التدخل العسكري الفرنسي في شمال مالي في عام 2013، والذي أدى إلى تشتت مقاتلي حركة "أنصار الدين"، في استقطاب المقاتلين الذين ينتمون لقومية "الفولاني" وكانوا في صفوف الحركة الأخيرة، حيث استفادت، إلى حد ما، من خبراتهم التنظيمية والعسكرية، بشكل مكنها من تنفيذ العديد من العمليات الإرهابية.
تداعيات مختلفة:
ربما يفرض ظهور "جبهة تحرير ماسينا" وتصاعد نشاطها تداعيات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- تهديد أمن ومصالح دول الجوار: تسعى الجبهة، حسب تقارير عديدة، إلى إعادة تأسيس ما يسمى بـ"الإمبراطورية الفولانية" من جديد والتي تعود إلى القرن التاسع عشر، ولكن من خلال تبني فكر "قاعدي" عنيف، وعبر محاولة استقطاب عناصر قومية "الفولاني" في دول مثل السنغال والنيجر وموريتانيا، إضافة إلى مالي.
ومن دون شك، فإن تركيز الجبهة على المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه تلك القومية في هذه الدول، يمكن أن يدعم جهودها في هذا الصدد، إذ ربما يدفع ذلك بعض عناصر تلك القومية إما إلى الانضمام للجبهة الرئيسية في مالي، أو إلى تبني السياسة نفسها من خلال تأسيس تنظيم جهادي محلي في إحدى دول الجوار، بكل ما يفرضه ذلك من تهديد لأمن ومصالح تلك الدول.
2- تصعيد حدة الصراعات العرقية: ربما يؤدي اتساع نطاق العمليات الإرهابية التي تقوم الجبهة بتنفيذها إلى تفاقم الصراعات العرقية التي تُعاني منها البلاد، نظرًا للطابع العرقي الذي يتسم به نشاط الجبهة؛ والذي يمكن أن يدفع قوميات أخرى إلى تأسيس أجنحة مسلحة بهدف مواجهة الجبهة وتقليص نفوذها.
3- تهديد المصالح الغربية: تبدي الجبهة أهمية خاصة لاستهداف القوات الفرنسية الموجودة في شمال مالي، حيث تعتبرها الخصم الثاني بعد القوات المالية، خاصةً أن العديد من مقاتلي الجبهة كانوا قد انضموا من قبل إلى حركة "أنصار الدين" التي نجحت القوات الفرنسية في إخراجها من شمال مالي.
4- تكوين شبكة قاعدية: تشير اتجاهات عديدة إلى احتمال انضمام الجبهة للمجموعة التي يقودها أبو بكر شيكاو بعد انفصالها عن حركة "بوكو حرام" النيجيرية التي بايعت تنظيم "داعش" في مارس 2015، بعد إقدام الأخير على إقالة شيكاو وتنصيب أبو مصعب البرناوي قائدًا جديدًا للحركة نتيجة اتساع نطاق الخلافات فيما بينهما، بشكل دفعه إلى العودة من جديد إلى النهج "القاعدي"، والتخلي عن الفكر "الداعشي" الذي تبنته الحركة بعد مبايعة "داعش".
وبالطبع، فإن ما يدعم هذا الاحتمال هو أن توجهات جبهة "ماسينا" تبدو أقرب إلى الفكر "القاعدي"، وهو ما يمكن أن يحولها إلى محور التواصل بين تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" ومجموعة شيكاو في نيجيريا، بما يعني تأسيس شبكة قاعدية ممتدة من شمال إفريقيا إلى نيجيريا.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن تصاعد نشاط "جبهة تحرير ماسينا" سوف يؤدي، في الغالب، إلى تفاقم الأوضاع الأمنية المنهارة في مالي، خاصةً أن نشاطها يدفع في اتجاه تصعيد حدة الصراع العرقي، بشكل بات يفرض على دول تلك المنطقة فضلا عن القوى الدولية المعنية بأزماتها رفع مستوى التنسيق فيما بينها لمواجهة التهديدات التي تفرضها تلك الجبهة إلى جانب التنظيمات الإرهابية، قبل أن تتمكن من توسيع نطاق نشاطها ومده إلى بعض دول الجوار التي تعاني بدورها من أزمات لا تبدو هينة.