أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

مستقبل المعارك:

تحديات الجيش الفرنسي في مواجهة "الحروب عالية الكثافة"

15 نوفمبر، 2023


عرض: عبدالله عيسى الشريف

دفعت الطبيعة الحادة للحرب الروسية الأوكرانية إلى الواجهة مصطلحاً عسكرياً يُسمى "الحرب عالية الكثافة"، وهو ما لجأ له الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في يناير الماضي عندما استعرض خلال خطابه بقاعدة "مون دي مارسان" الجوية زيادة الميزانية العسكرية لفرنسا في الفترة من 2024 إلى 2030 إلى 413 مليار يورو مقارنة بـ295 مليار يورو في الميزانية الحالية للفترة من 2019 إلى 2025، ما يعني ارتفاعاً بنسبة 40% في الإنفاق الدفاعي الفرنسي، ووصوله إلى 59 مليار يورو سنوياً حتى نهاية عام 2030، مقابل 42 مليار يورو في الخطة الحالية، بهدف ضمان قدرة القوات المسلحة الفرنسية على "خوض اشتباكات كبيرة ومواجهات شديدة الحدة".

في هذا الإطار، تناقش دراسة للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية "IFRI" للكاتب إيلي تينينباوم في يوليو 2023، ما يُعرف بـ"الحرب عالية الكثافة"، كأحد أبرز تحديات الحروب المستقبلية، وكذلك ما تمثله من تحديات للقوات المسلحة الفرنسية. إذ أصبح مفهوم الحدة العالية مصدراً للمناقشات وسوء الفهم داخل مجتمع الدفاع الفرنسي؛ حيث تثار أسئلة من نوعية: ما هي بالضبط المواجهة عالية الحدة؟، وعلى أي مقياس يجب أن نفهم هذا المصطلح؟، وكيف تختلف عن أية عملية قتالية كبرى؟، وما علاقتها بالردع النووي؟

يجادل الكاتب بأنه في حين من حق السياسة أن تحتفظ ببعض الغموض في توجهاتها، فإن الأمر متروك للخبير الاستراتيجي العسكري لتفسيرها أو توضيحها. وللقيام بذلك؛ فمن المهم فحص الفكرة على المستوى النظري، ثم وضعها في سياقها السياسي والاستراتيجي من خلال التمييز بين الدرجة العالية من الكثافة السياسية في الحرب، والدرجة العالية من كثافة القدرة العسكرية، مع إعادة النظر في كيفية ارتباط هذه الفكرة بالردع، واقتراح بعض السيناريوهات المُحتملة لاشتباك فرنسا، لتحديد الخصائص التكتيكية لساحة المعركة عالية الكثافة؛ بهدف استنتاج أولويات التطوير للقوات المسلحة الفرنسية.

طبيعة المفهوم وحدود تطبيقه:

يرى الكاتب أن مفهوم الكثافة العالية متعدد المعاني، إلا أنه يمكن تناوله في أكثر أشكاله واقعية؛ وهو الحجم المادي، من خلال نقل فكرة الكثافة إلى ساحة المعركة، حيث يمكن تحديد شدة المعركة (I) من خلال العلاقة بين الطاقة الحركية (EK) التي يدرج فيها أي جسم متحرك يدخل إلى ساحة المعركة على مدى حاصل ضرب حجم ساحة المعركة (V) في مدة القتال (T). وتتمتع هذه المعادلة البسيطة بجاذبية بديهية لأنها تربط الكثافة بفكرة "كثافة" الوسائل العسكرية ونوع معين من "تركيز الجهود".

ترتبط القدرة على توليد كمية كبيرة من الطاقة الحركية بنيوياً بتعقيد المعدات العسكرية وتطورها التكنولوجي، وبالتالي بكثافة رأس المال. فعلى سبيل المثال؛ يتضح أن المقاتلين المجهزين بأسلحة يتم إلقاؤها باليد (السهام والرماح) أقل قدرة من أولئك المجهزين بصواريخ مضادة للدبابات. لذا، من المنطقى أن نحكم على شدة القتال كدالة لعصر تكنولوجي معين، فربما كان الفيلق الروماني عالي الكثافة في أيامه، لكن في مواجهة معدات القرن الحادي والعشرين، فإنه سيشكل قوة منخفضة التهديد.

بالإضافة إلى ذلك، فإن النظر إلى المسألة من حيث كثافة رأس المال يوحي بمراجعة النهج النشط الصارم تجاه الكثافة، إذ إن التطور التكنولوجي للمعدات العسكرية يهدف جزئياً إلى زيادة القوة الحركية. فالتقدم في المواد والاتصالات ولاسيما في النطاق والدقة؛ يؤدي إلى زيادة هامشية فقط في الطاقة الحركية في ساحة المعركة، لكنه يؤدي دوراً مهماً في زيادة فعالية الأنظمة من خلال زيادة كثافة رأس المال. فالفتك هو نتيجة معروفة تمت دراستها باستفاضة عبر التاريخ العسكري، مما أدى إلى ربط الحدة العالية بالحروب الأكثر دموية. ومن المهم أن نلاحظ المفارقات التي ينطوي عليها هذا الأمر؛ فالزيادة الحادة في عدد الأسلحة الفتاكة من أسلحة الحرب في مطلع القرن العشرين أدت إلى زيادة تشتت القوات المقاتلة، مما أدى إلى تقليل الكثافة رياضياً بالنسبة لحجم ساحة المعركة، حتى مع استمرار التقدم في الكثافة التكنولوجية. وعلى أساس هذه الثلاثية المتمثلة في الطاقة والتكنولوجيا والفتك، تبرز فكرة أوسع يُطلق عليها "كثافة القدرة".

ثنائية الحروب عالية الكثافة:

إن تسليط الضوء على الظروف الدولية لنشوء صراع شديد الحدة يدفعنا إلى إعادة التفكير في علاقته بمستوى الانخراط السياسي، لأنه غالباً ما يرتبط الصراع عالي الحدة بمفهوم "العملية/ الحرب الكبرى"، باعتبارها حرباً سياسية استراتيجية على المدى الطويل، نظراً لكون المصالح الأساسية/ الحيوية لأحد طرفي الصراع على المحك، فكلما ارتفعت المخاطر، تعاظمت الكثافة السياسية، بكل ما يستتبع ذلك من تعبئة كاملة للسكان والاقتصاد وجميع جوانب حياة الأمة.

يؤكد الكاتب أن القتال التكتيكي سيصبح شديداً لأي فرد منغمس فيه، فالبنسبة للجنود الفرنسيين الذين اشتبكوا في البوسنة عام 1995 وأفغانستان عام 2009 ومالي عام 2013، يمكن القول إن كلاً من هذه الاشتباكات كانت عالية الكثافة على المستوى الفردي، خاصةً إذا ما أخذنا في الاعتبار المدة الإجمالية لهذه الصراعات والحجم المكاني الذي وقعت فيه، على الرغم من أنها صراعات على المستوى العالمي منخفضة الشدة؛ نظراً لعدم تكافؤ الوسائل بين الجانبين في هذه الصراعات. 

ففي الصراع غير المتكافئ، تكون الطاقة الحركية التي يستطيع الطرف الأضعف من الخصمين تطبيقها في المكان والزمان محدودة للغاية بمواردها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، وهذا سيدفعه إلى تعظيم عوامل أخرى مثل: التنقل والتخفي، والاعتماد على العناصر غير المادية "الأيديولوجية، علم النفس، والمعلومات"، وما إلى ذلك، من أجل متابعة استراتيجيته. 

وعليه؛ فبمجرد أن نتجاوز المستوى التكتيكي، فإن شدة قدرة الصراع تعتمد على جوانب أكثر شمولاً من توازن القوى، حيث كانت لحظة القطب الواحد الأمريكية في نهاية الحرب الباردة تعني أنه بالنسبة للقوى الغربية على الأقل، يمكن النظر إلى شبح الحروب ذات القدرة العالية على أنه احتمال غير مرجح، نظراً لتفوقها الساحق في كثير من الأحيان في المجالات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية. 

وبطبيعة الحال، لم يكن ذلك يعني نهاية الحرب، بل بداية نمط جديد من الصراع يتسم بعدم التماثل، وينعكس على القوة العسكرية الغربية. فمنذ مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بينما كانت القوى الغربية عالقة في صراعات هامشية، بدا هناك تحول عميق يحدث على الساحة العالمية؛ تمثل في ظهور الصين كقوة اقتصادية ثم تكنولوجية وعسكرية، بجانب الهند وبدرجة أقل البرازيل، وكذا الصعود الاستراتيجي لروسيا في مناطق وجودها التقليدية بجانب الشرق الأوسط وإفريقيا، فضلاً عن التحديات التي تفرضها القوى الإقليمية مثل، تركيا وإيران.

 نتج عن ذلك كله؛ تعطيل المشهد الاستراتيجي بسبب مزيج من الوسائل العسكرية المتنامية، ومحاولات العديد من الدول القوية لمراجعة النظام الدولي في فترة ما بعد الحرب الباردة، فانعكس هذا المزيج من الوسائل والنيات من جانب بعض الجهات الفاعلة على النطاق الجيوسياسي من خلال ما أصبح يُعرف بـ"المنافسة الاستراتيجية"، والتي تجلب معها عودة مُحتملة إلى الصدمات بين القوى العظمى و/أو المتوسطة، إما بشكل مباشر من خلال المواجهة العسكرية أو بشكل أكثر تكتماً من خلال تحدي قوة لأخرى بطرق تظل دون عتبة الحرب.

في هذا الصدد، فإن ثلاثية "المنافسة، النزاع، والمواجهة" لا ينبغي فهمها، كمراحل متعاقبة في النظام الدولي، وإنما كمجالات متداخلة. لذلك يمكن فهم "الحرب عالية الكثافة" على أنها واحدة من الأشكال العسكرية التي تتخذها المنافسة الاستراتيجية، كأحد وجهيها، والوجه الآخر هو الحرب الهجينة وما يسمى بعمليات المنطقة الرمادية. أخذاً في الاعتبار أن الحرب شديدة الحدة تعني التحرر الكامل من القيود المفروضة على الطرف الذي يعتقد عن حق أو خطأ أنه قادر على استيعاب هذه التكاليف والمخاطر، كما الحال بالنسبة لروسيا في أوكرانيا.

ظل الردع النووي:

يرى الكاتب أن التمييز بين الكثافة السياسية وكثافة القدرة العسكرية في حاجة إلى إعادة النظر فيه بشكل خاص في فرنسا، حيث يتم ضمان حماية المصالح الحيوية بواسطة الردع النووي، فوجود الأسلحة النووية وما تنطوي عليه من ردع قد لا يشكل ضمانة ضد خطر نشوب حرب شديدة الحدة، لكنه يضع حداً أعلى لمجال الاحتمالات. مع ذلك؛ لا يزال هناك نطاق واسع من السيناريوهات التي رغم بقائها دون عتبة المصالح الحيوية تتجاوز بكثير متطلبات القدرات المرتبطة بالحرب.

يرى الكاتب أن أي عمل عدواني أو حتى أزمة أمنية يمكن أن يؤدي إلى تفعيل عناصر أساسية ذات كثافة عالية من القدرات دون رغبة باريس، فليس من الصعب تصور تقديم طلب في سياق صراع عالي الكثافة من قِبل إحدى الدول التي أبرمت معها فرنسا اتفاقيات دفاع تحتوي على بنود مساعدة مُلزمة -كما هو الحال مع اليونان وجيبوتي- أو حتى من خلال إحدى "الشراكات الاستراتيجية". بالتالي فإن مشكلة ما يسمى بـ"الوكلاء" تشكل عاملاً مهماً في سيناريوهات المشاركة، لأن أي مواجهة مباشرة بين فرنسا وقوة نووية كبرى أخرى سوف تنطوي، في مرحلة ما من الكشف المنطقي للمعضلة الأمنية، على تفعيل قوة الردع. لهذا السبب فإن فرضية الحرب الكبرى هي أمر غالباً ما تنظر إليه فرنسا على أنه احتمال بعيد المنال.

العمل في بيئة عالية الكثافة:

ينطلق الكاتب من مقولة دونالد رامسفيلد: "أنت تخوض الحرب بالجيش الذي تملكه، وليس الجيش الذي قد تريده أو ترغب في امتلاكه مستقبلاً"، وينصح بضرورة أن يتردد صدى ذلك بقوة في أوساط دوائر الدفاع الفرنسية التي تخطط للانتقال التدريجي إلى القدرات القتالية عالية الكثافة بحلول عام 2035، لأن هذا التاريخ قد يبدو بعيداً نظراً للتقلبات اليومية في المشهد الاستراتيجي العالمي، وينبغي أن تؤدي دوراً في توجيه إعداد القوات وتطوير قدراتها بما يتماشى مع خصائص بيئة العمليات عالية الكثافة.

يجادل الكاتب بأن خطورة هذه البيئة تنبع من الاستنزاف، فمهما كانت نوعية الجيش؛ يجب أن يكون لديه الحد الأدنى من القدرة على تحمل الخسائر، خاصةً في العنصر البشري، فوجود قوات مسلحة من دون جماهير؛ يعني أن التجديد يصبح مستحيلاً، كما لو كان من الممكن نشرها مرة واحدة فقط، مما يحد بشكل كبير من خيارات السلطة السياسية ويفرض على الأرجح قراراتها، وهو ما يتضح في المجتمعات الأوروبية التي تعاني تركيبتها السكانية من الشيخوخة.

لمواجهة حالات الاستنزاف هذه، فإن البديل هو الاستثمار بشكل أكبر في القدرة على البقاء من خلال الحماية الذاتية والدروع، عبر أنظمة الحرب الإلكترونية ونظام الدفاع الجوي المتكامل متعدد الطبقات، لأنه قادر على مساعدة القوات من خلال تشكيل درع متحرك حولها. فالقدرة على الحركة والسرعة، والتخفي والسرية، والوعي الظرفي؛ كلها عوامل رئيسية في تعزيز القدرة على البقاء في البيئات الأكثر فتكاً. 

أخيراً، فالقدرة على تجديد القوة المسلحة تُعد أمراً ضرورياً ليس فقط من الناحية البشرية مع الدعم الطبي الذي يجب مراجعته في ضوء القدرة الفتاكة المتوقعة، لكن أيضاً بالنسبة للمعدات، وما يلزمها من صيانة ومركبات إنقاذ مدرعة، وقطع الغيار، مع وجود فريق من الميكانيكيين المدربين بأعداد كافية، دونما إهمال عنصر التدريب، فحتى الجيش الأكثر كفاءة يمكن أن يفقد كفاءته في غضون سنوات قليلة أو بضعة أشهر إذا لم يكن لديه دورة مناسبة من الإعداد العملياتي قادرة على جلب قوات مُعاد تدريبها بشكل مناسب إلى الجبهة.

ختاماً؛ تمثل الحرب شديدة الكثافة تحدياً كبيراً ومتعدد الأوجه للقوات المسلحة الفرنسية؛ لأنها تختبر حدود نموذج القوة الحالي الذي تم تبنيه في نهاية الحرب الباردة، فالدور الأساسي الذي تؤديه الأسلحة النووية يدفع مجتمع الدفاع الفرنسي إلى الحذر من سيناريوهات الاشتباك التي يبدو أنها تقع ضمن نطاق الحرب الكبرى. مع ذلك، فإن التمييز بين الكثافة السياسية وكثافة القدرة يجب أن يُمكّن الاستراتيجيين من توقع تشكيلات لا ترقى إلى مستوى آلية الردع، ولكنها تتجاوز إدارة الأزمات التي همينت على توظيف القوات المسلحة على مدى العقود الثلاثة الماضية. خاصةً وأن قانون البرمجة العسكرية الفرنسي الجديد للفترة من 2024 إلى 2030 والذي تضمن زيادة للإنفاق الدفاعي، يُلزم القوات المسلحة الفرنسية بالسير على طريق الحروب عالية الكثافة. باعتبار أن الأخيرة تشكل احتمالاً مهماً بالنسبة للقوات المسلحة الفرنسية، وهو احتمال لا يمكن تنحيته جانباً اتكاءً على أن فرنسا تمتلك رادعاً نووياً، فظهور عالم غير مستقر يتسم بالمنافسة الاستراتيجية متعددة الاتجاهات يدعو إلى إعادة النظر في المهام التقليدية للفرنسيين. 

فالقدرة على الانخراط في ساحة معركة شديدة الحدة، والتي قد تقع تحت عتبة المصالح الحيوية ليست مسؤولية القوات المسلحة وحدها، كما أنه يبرز الثبات الأخلاقي للأمة وقدرتها على الارتقاء إلى مستوى هذا التحدي من خلال قبول الثمن الذي يأتي مع كونها قوة كبرى مسؤولة وحليفاً داعماً، وهي المكانة التي ما تزال فرنسا تطمح إليها.

المصدر:

Élie Tenenbaum, "High-Intensity Warfare: What Challenges for the French Armed Forces?", Ifri, July 2023.