أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • إبراهيم الغيطاني يكتب: (النموذج النمساوي: خيارات أوروبا بعد الانقطاع الوشيك للغاز الروسي عبر أوكرانيا)

الانتقائية التنموية:

تحولات التمويل الصيني في إفريقيا بعد الجائحة

09 مارس، 2023


عادة ما يُطرح التساؤل حول آثار جائحة "كوفيد19" العالمية على سياسات التمويل التنموية للصين في إفريقيا. فقد كانت يد الصين السخية سباقة في تمويل المشروعات الكبرى في البلدان الإفريقية ولاسيما في دول مثل أنغولا وإثيوبيا وغانا. ووفقاً لتقرير صادر عن مبادرة الأبحاث الصينية الإفريقية بجامعة جونز هوبكنز، فإن قروض الصين للبلدان الإفريقية قد ازدادت في السنوات الأخيرة، حيث تم تقديم نحو 143 مليار دولار في شكل قروض وخطوط ائتمان إلى البلدان الإفريقية خلال الفترة بين عامي 2000 و2018. وقد تم استخدام القروض لتمويل مشاريع البنية التحتية مثل الطرق والسكك الحديدية والموانئ ومحطات الطاقة. كما وجد تقرير آخر صادر عن مركز التنمية العالمية، وهو مركز أبحاث مقره في واشنطن، أن الصين قدمت قروضاً بقيمة 14 مليار دولار إلى البلدان الإفريقية بين عامي 2014 و2018، حيث ذهبت غالبية القروض إلى مشاريع البنية التحتية وقطاع النفط والغاز. ومع ذلك فقد اتخذت سياسات التمويل التنموية الدولية للصين منحى آخر خلال سنوات الجائحة الصحية.  يأتي ذلك في وقت تُعد فيه محاولة إعادة تشكيل المؤسسات والمعايير العالمية لتعكس وجهات النظر الصينية أمراً محورياً لنهج الصين في المنافسة الجيوستراتيجية. وتحاول الصين الاعتماد على دعم الحكومات الإفريقية، على الرغم من أن هذا غالباً ما يتعارض مع مصالح المواطنين الأفارقة. وتلك هي المعضلة التي نحاول إلقاء الضوء عليها في هذا المقال.

تراجع التدفقات الصينية

وفقاً لدراسة جديدة من مركز سياسات التنمية العالمية في جامعة بوسطن، لا تزال التدفقات المالية للتنمية الخارجية للصين تتضاءل في حقبة ما بعد الجائحة، ولا يخفى أن لهذا الاتجاه تداعيات ملموسة على إفريقيا، حيث تعتمد الصين على مشاريع أصغر وأكثر فعالية بينما تحول انتباهها بعيداً عن النفط والغاز لصالح قطاعات الاتصالات والنقل والطاقة. 

وقد نظرت الدراسة في مؤسستين رئيسيتين لتمويل التنمية في الصين، وهما بنك التنمية الصيني وبنك التصدير والاستيراد الصيني. ويتبين من خلال قاعدة البيانات الخاصة بتمويل التنمية الخارجية للصين وجود 28 التزاماً جديداً بقروض صينية في عامي 2020 و2021 بقيمة إجمالية قدرها 10.5 مليار دولار، وهي تعد الأدنى في السنوات الأخيرة. وطبقاً للجدول أدناه كان نصيب الدول الإفريقية عشرة التزامات بقروض خلال نفس الفترة بقيمة تصل إلى نحو 1.5 مليار دولار أمريكي.

ويلاحظ أن هذا المبلغ الصغير، الذي لم نشهده منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي، انخفض بنسبة 77% عن عام 2019، عندما وقع الصينيون 32 اتفاقية قروض بقيمة 8.2 مليار دولار. بشكل عام، تُقدر البيانات المتاحة أن الممولين الصينيين وقعوا 1188 تعهد بقرض بقيمة 160 مليار دولار مع 49 حكومة إفريقية، والشركات المملوكة للدولة وخمس منظمات إقليمية متعددة الأطراف خلال الفترة بين عامي 2000 و2020. ويمكن تفسير هذا التوجه الجديد بفعل ثلاثة عوامل هي:

1- تحول الصين من مشاريع البنية التحتية الضخمة إلى مشاريع أصغر ولكنها مربحة في إطار مبادرة الحزام والطريق. هذا التوجه أقل خطورة بالنسبة للمستثمرين، وخاصة رواد الأعمال من القطاع الخاص ذوي الموارد المحدودة.

2- تحول أولويات سياسة الصين إلى الداخل استجابة للجائحة وتأثيرها الاقتصادي.

3- تراجع قدرة المقترضين في إفريقيا على تحمل ديون إضافية، بسبب الأزمة متعددة الأوجه والمتمثلة في عدم الاستقرار المالي وتغير المناخ والأوبئة.


فجوات التمويل الخارجي

يتجه تمويل التنمية الصيني، أكثر من مخصصات المساعدة الإنمائية الرسمية التقليدية، إلى البنية التحتية للنقل والاتصالات والطاقة. ومع ذلك، فإن هذا لم يحسن بشكل كبير عناصر النقل والطاقة في مؤشر القدرات الإنتاجية لإفريقيا على المستوى الإقليمي أو القطري. إذ أنه لا يمكن لمجمل الاستثمار الصيني أو تمويل التنمية وحده سد الفجوة الهائلة في تمويل البنية التحتية في إفريقيا. ولعل ذلك يوضح أيضاً أن الفوائد من زيادة الاستثمار في البنية التحتية المادية وحدها يمكن أن تكون قصيرة الأجل. وهكذا هو الحال بشكل خاص إذا لم يتم إيلاء اهتمام مماثل لقطاعات الإنتاج في الاقتصاد لاسيما الصناعة والزراعة، وكذلك تنويع الصادرات. 

في الواقع، لم يكن تخصيص التمويل الخارجي لقطاعات الإنتاج في إفريقيا، بما في ذلك الصناعة والزراعة، من جميع المصادر محورياً خلال السنوات الماضية. ويرجع ذلك بشكل خاص إلى السياسات التي تتبعها العديد من البلدان الإفريقية، ولاسيما تحت وطأة برامج التكيف الهيكلي ومبادرات استراتيجية الحد من الفقر. فقد أدت هذه السياسات المفروضة من الخارج إلى تقليص دور الدولة في التنمية الصناعية بشكل كبير. وبالتالي، أدى الدور المتناقص للاستثمار العام في قطاع الصناعة إلى تراجع التصنيع المبكر في إفريقيا، كما يتضح من عدم وجود تحسن في القيمة المضافة للصناعات التحويلية، ومكون التغيير الهيكلي لمؤشر القدرات الإنتاجية.

وعلى الرغم من تنوع وتعقد التحديات التي تواجه إفريقيا في سياقات التجارة والاستثمار وتدفقات المساعدة الإنمائية الرسمية فإن هناك اتجاهاً مثيراً للاهتمام يبدو أنه ظهر في العلاقات التجارية والاقتصادية للمنطقة مع الصين وثالوث المانحين التقليديين (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية واليابان). وهذا يعني أن العلاقات المتزايدة بين الدول الإفريقية والصين استفادت من انخفاض تدفقات المساعدة الإنمائية الرسمية المشتركة لمنظمة التعاون والتنمية في السنوات الأخيرة. 

علاوة على ذلك، يكشف التحليل عن اتجاه ناشئ "للتخصص" في تقديم تمويل التنمية إلى دول إفريقيا. إذ نلاحظ أن الصين والهند بحاجة إلى مواصلة التركيز على القطاعات الاقتصادية لاسيما التصنيع والطاقة والبنية التحتية للنقل؛ بينما تركز اليابان على الزراعة وتكنولوجيا الاتصالات؛ أما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية فيركزان على القطاعات الاجتماعية. هذا الاتجاه من التخصص مفيد لإفريقيا وشركاء التنمية على حد سواء في شحذ مجالات التركيز ضمن سرديات التنمية السياسية أو المفاهيمية الخاصة بهم والعلاقات مع البلدان المستفيدة. ويُظهر هذا أيضاً التكامل وليس المنافسة، لاسيما بين الصين ومجتمع التنمية التقليدي الأكبر لدعم بلدان إفريقيا. 

بينما تواصل الصين والدول الأخرى غير الأعضاء في لجنة المساعدة الإنمائية تحسين تخصيصها للقطاعات الاقتصادية، يركز الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية على القطاعات الاجتماعية. وعليه يجب على كل من الدول غير الأعضاء في لجنة المساعدة الإنمائية أن تنظر إلى أدوار كل منها على أنها مكملة على عكس النظرة الواسعة الانتشار الحالية للوكالات والقوى المتنافسة من أجل الهيمنة الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية في إفريقيا. ومع ذلك، ينبغي أن يكون التوجه الإنمائي العام لبلدان إفريقيا هو الانسحاب التدريجي والاستراتيجي من الاعتماد الشديد الحالي على المصادر الخارجية لتمويل التنمية. إذ أن الاعتماد المتزايد لإفريقيا على التمويل الخارجي للتنمية سوف يستمر في تقويض إمكانية التنبؤ واستدامة التدخلات السياسية مما يجعل التقدم الاجتماعي والاقتصادي غير مستقر وعرضة لمختلف الصدمات السلبية. 

 تحدي المركزية الصينية

يرتبط بالصعود الصيني في إفريقيا تحدٍ آخر تعكسه قضية المركزية الصينية في النظام الدولي البديل. وتشير المركزية الصينية إلى الإيمان بالتفوق الثقافي والسياسي للصين، والفكرة القائلة إن هذا التفوق يجب أن يكون عالمياً. ويمكن إرجاع هذه النظرة للعالم إلى العصر الإمبراطوري، عندما اعتقدت الصين أن نظامها الإمبراطوري وأيديولوجيتها الكونفوشيوسية تفوق تلك الموجودة في البلدان الأخرى. وتنعكس المركزية الصينية في العلاقات الخارجية للصين، حيث ترى نفسها في كثير من الأحيان أنها القائد والشريك الأفضل في التفاعلات مع الدول الأخرى.

أحد الأمثلة على المركزية الصينية في العلاقات الخارجية للصين هو مفهوم "تيانشيا"، والذي يعني "كل ما تحت السماء" ويشير إلى نظام هرمي تقبل فيه الدول الصغيرة على أطراف الصين التفوق الثقافي والأخلاقي الصيني في مقابل الفوائد الاقتصادية والاستقلال السياسي. مثال آخر هو الدعاية الرسمية للصين، التي تؤكد نضالات الصين التاريخية وتطلعاتها التنموية من أجل خلق تضامن متخيل مع البلدان النامية الأخرى، لاسيما في إفريقيا. ويعمل هذا على إعادة تأكيد تصور الصين المرغوب فيه لنفسها على أنها الشريك الأفضل في هذه العلاقات. 

وعادة ما يستخدم المفاوضون الصينيون "دبلوماسية الاستضافة" لكسب الدعم من الشركاء الأفارقة، والتي تتضمن استخدام مساحات اجتماعات متقنة، وجولات ثقافية، ومشاركة الطعام لخلق ظروف ودية وجعل الزوار الأفارقة أكثر عرضة للتأثير الصيني. بالإضافة إلى ذلك، يُقال إن الصين تستخدم الإغراءات الاقتصادية لجذب الشركاء الأفارقة "إلى المدار الصيني" وقد تقلل من كثافة أو اتساع العلاقة إذا لم يف الشريك الإفريقي بالتزاماته المتبادلة. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى استخدام الصين النفوذ للضغط على شريك إفريقي في شكل تهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية كما حدث مع زامبيا في عام 2006. 

وفي عام 2011، لم تستخدم الصين حق النقض ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أدى في النهاية إلى الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا بعد أن استضاف الأخير بشكل مفاجئ رئيس تايوان آنذاك تشين شويبيان. كما التزمت بكين الصمت بشأن مصير رئيس ليبيريا السابق، تشارلز تيلور، الشريك الدبلوماسي السابق لتايبيه والذي أدين بارتكاب جرائم حرب من قبل محكمة دولية في لاهاي في عام 2012. وقد ظهر مثال آخر في عام 2018، عندما هدد السفير لي زوهانغ بفرض عقوبات تجارية وخفض التمويل عن سكة حديد ستاندرد جيج، وهي مشروع البنية التحتية الرئيسي في كينيا، بعد أن نظرت الحكومة الكينية آنذاك في حظر واردات الأسماك الصينية.

خلاصة القول، ينبغي على الدول الإفريقية في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها النظام الدولي أن تركز جهودها على تعزيز القدرات الإنتاجية والتحول الاقتصادي الهيكلي، بهدف تحقيق النمو الشامل وتحويل الإنتاج واستدامته وكذلك الابتعاد عن الاعتماد على المعونات الخارجية. ولقد أظهرت كثير من الدراسات أن البلدان الأكثر اعتماداً على المساعدات في إفريقيا هي الأقل أداءً من حيث النمو الاقتصادي. وبالمثل، فإن تجارب التنمية في شرق آسيا وفيتنام على سبيل المثال تشير بوضوح إلى أن النمو المستدام مدفوع بعوامل النمو الداخلية، على الرغم من أن العوامل الخارجية المواتية يمكن أن تقوم بدور تكميلي في تسهيل النمو الاقتصادي وتحول الإنتاج. وهذا يعني ضرورة قيام البلدان الإفريقية بتنفيذ سياسات وطنية تسعى إلى حلول خاصة بكل بلد، وتناسب في الوقت نفسه تحديات التنمية التي تواجه كل بلد من بلدان المنطقة، وذلك من خلال الاستفادة من فرص التجارة والاستثمار العالمية. ولا ينبغي لإفريقيا الصاعدة في القرن الحادي والعشرين أن تستبدل مركزية أوروبية بأخرى صينية. وفي هذا السياق تشير أطروحات "أفروتوبيا" الخاصة بالمستقبل الإفريقي إلى إمكانية تحقيق الحلم الإفريقي بأفرقة النظام العالمي قيد التشكيل.