أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

توظيف ملغوم:

انعكاسات انخراط المقاتلين الأجانب في الحرب الأوكرانية

09 مارس، 2022


أعلن وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، في 6 مارس 2022، تجاوز أعداد المتطوعين الأجانب للقتال بجانب بلاده الـ 20 ألف مقاتل، وتوافد المتطوعين من نحو 52 دولة؛ تلبية لدعوة الرئيس فولوديمير زيلينسكي للالتحاق بـ "الفيلق الدولي" بقوات الدفاع الإقليمي الأوكرانية. ويعد هذا التطور بالغ الخطورة؛ في ظل تبني الأطراف كافة سياسات حافة الهاوية، وتلويح موسكو باستخدام القوة النووية بالمواجهات الجارية. وهذا ما يستدعي البحث في خلفية وأبعاد إشراك العناصر الخارجية بالحرب الراهنة في أوكرانيا، وانعكاسات انخراط المقاتلين الأجانب في هذه الحرب على المشهد الدولي والإقليمي.

خلفية الانخراط:

اكتسب المقاتلون الأجانب، لاسيما أصحاب التوجهات القومية واليمينية المتطرفة، ثقلاً مُتعدد الأبعاد بالمواجهات بين روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة، حيث تم تكوين تشكيلات قتالية عوضت انكسار الجيش الأوكراني بجبهات إقليم "دونباس" إبان أزمة شرق أوكرانيا في عام 2014. وتشير التقديرات إلى بلوغهم في حينها قُرابة الـ 17 ألف مقاتل، بينهم 15 ألف من بيلاروسيا، والبقية أتوا من نحو 54 دولة حول العالم. وبعد التوافق على اتفاقيات وقف إطلاق النار "مينسك-2"، شرعت كييف في إدماج تلك الكتائب - شبه العسكرية- بوزارتي الدفاع والداخلية، وأسست كياناً رديفاً لإلحاقها بالقوات المسلحة الأوكرانية يُسمى "قوات الدفاع الإقليمي".

ومع تصاعد مؤشرات عسكرة الأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا في العام الجاري، اتخذت السلطات الأوكرانية خطوات تشريعية وتنظيمية تؤسس لإلحاق مقاتلين أجانب جدد بالجيش الأوكراني والقوات الرديفة له؛ حيث تم إصدار قانون "أُسس المقاومة الوطنية" في 27 يناير2022، والذي أجاز تطوع الأجانب وعديمي الجنسية بـ "قوات الدفاع الإقليمي". ودعا الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، للتطوع والالتحاق بصفوف "الفيلق الدولي"، وأعلنت السفارات والبعثات الدبلوماسية الأوكرانية استقبالها الراغبين في الانضمام لقواتها حول العالم، بالإضافة إلى فتح موقع إلكتروني لتلقي طلبات التطوع. 

مجموعات المقاتلين:

في ضوء التطورات الجارية، يمكن تصنيف المقاتلين الأجانب المُرشحين لدعم أوكرانيا ضد التدخل العسكري الروسي، إلى أربع مجموعات، وهي كالتالي:


1- الشركات العسكرية الخاصة: تنشط عناصر هذه الشركات في الأزمة الأوكرانية منذ سنوات، ولديها القدرة على مُضاعفة عناصرها في المواجهات بشكل سريع. وسبق أن تبادلت أطراف الأزمة الحالية الاتهامات بتوظيف تلك الشركات في المعارك الجارية؛ حيث تداولت تقارير غربية نقل نحو 4000 من عناصر شركة "فاجنر" الروسية من أفريقيا إلى الأراضي الأوكرانية، وكشفت مصادر أوكرانية وجود نحو 400 من عناصر "فاجنر" بالعاصمة كييف لتنفيذ سلسلة اغتيالات لمسؤولين بارزين، على رأسهم الرئيس الأوكراني الحالي ورئيس وزرائه. فيما تتهم موسكو الشركات العسكرية الغربية، لاسيما الأمريكية، بتأجيج المواجهات عبر الدفع بعناصر وخبراء عسكريين لدعم القوات الأوكرانية، والتي تمارس تكتيكات تخريبية في نطاق المدن التي تحاصرها القوات الروسية.

2- التنظيمات اليمينية المتطرفة: يمثل المسرح الأوكراني بيئة جاذبة لعناصر وتنظيمات اليمين المتطرف، والمعروف بـ "الإرهاب الأبيض"، وتحتفظ الفيالق والكتائب اليمينية الفاعلة في المشهد الأوكراني بروابط شبكية مع تنظيمات اليمين المتطرف والمجموعات القومية المتشددة بالعديد من الدول الغربية، وهو ما يجعلهم أكثر المُرجح قيامهم بعمليات تجنيد للمقاتلين الأجانب، وتوجيههم للانضمام إليهم بخطوط المواجهة مع روسيا في أوكرانيا. ومن أبرز الجماعات اليمينة الفاعلة بالحالة الأوكرانية، كتيبة "آزوف" وهي تشكيل شبه عسكري قوامه عناصر أوكرانية وأجنبية، ويمتلك علاقات قوية بمجموعات اليمين المتطرف الأوروبية والأمريكية، ونجح خلال الأعوام الماضية في تعزيز سيطرته ميدانياً وسياسياً بمناطق نشاطه في أوكرانيا.

3- التنظيمات الإرهابية: تداولت تقارير روسية عمليات إعداد وتجهيز عناصر التنظيمات الإرهابية للالتحاق بصفوف القوات الأوكرانية، مؤكدة أن الاستخبارات المركزية وقيادة العمليات الخاصة الأمريكية تجري عمليات تدريب وتجهيز لعناصر تنتمي لتنظيم داعش، بينهم مواطنون روس ومن بلدان رابطة الدول المستقلة سبق تحريرهم خلال اقتحام سجون سورية في عام 2021، وأن التدريبات تُعقد في قاعدة "التنف" بسوريا تمهيداً لإرسالهم إلى ميادين المواجهة بأوكرانيا. 

4- الفواعل المسلحة الأخرى: كشفت التحركات الروسية - الغربية عن اتجاه متصاعد لاستثمار المجموعات المسلحة - غير الجهادية أو القومية - في المواجهات العسكرية الدائرة بالساحة الأوكرانية. فبينما تشير تقارير سورية إلى عمليات حصر وتوزيع مسودات عقود على الراغبين من عناصر الفصائل المتحالفة مع روسيا للانتقال إلى أوكرانيا لدعم جبهتها، يُرجح أن يحظى الفواعل المسلحون الموالون لدول "الناتو" بذات الفرصة، حال استدعت معادلة الاشتباك ذلك، ويُعتقد أن تكون المجموعات التركمانية في الشمال السوري الأكثر قُرباً لتحقيق ذلك. 

أبعاد التوظيف:

تطرح الدعوة التي أطلقها الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، يوم 27 فبراير 2022، لتطوع المقاتلين الأجانب لمواجهة الروس، وما اقترن بها من ردود فعل مناقضة للمواقف الأوروبية والأمريكية من تلك الظاهرة؛ جُملةً من التساؤلات حول ما تستهدفه القوى الغربية عبر دعمها - بدرجة أو أخرى- لتلك الدعوة الأوكرانية، وهو ما يتجلى في التالي: 


1- إظهار الدعم الغربي لأوكرانيا: تسعى الدول الغربية بشكل عام، وحلف "الناتو" تحديداً، لتدعيم جبهة كييف في المعارك العسكرية الجارية مع روسيا، وإظهار هذه الدول أنها لم تتخل عن أوكرانيا أمام التقدم العسكري الروسي، لاسيما مع تقييد "الناتو" لمشاركته عسكرياً بشكل مباشر؛ تلافياً لسيناريو الحرب العالمية الشاملة. لذلك، ترغب الدول الغربية في التلويح بقبولها ودعمها لانخراط المتطوعين الأجانب بـ "الفيلق الدولي"، رغم ما يمثله هذا الاتجاه من ارتداد عن مواقفها الرافضة لانتقال المقاتلين بحالات أخرى، وأن تشريعاتها تحظر على مواطنيها الانخراط بالقتال في الخارج.  

2- التحول إلى نموذج الحرب الهجينة "حروب العصابات": تدرك أوكرانيا أنها لن تتمكن من صد الهجوم الروسي تقليدياً، خصوصاً مع رفض دول "الناتو" إرسال قوات عسكرية إليها، ما حفزها لموازنة التقدم الروسي عبر التحول لنموذج "حروب العصابات"، وهو التكتيك الذي أثبت فعاليته في إقليم "دونباس" منذ عام 2014. وعليه، فإن تشكيل قوة شبه عسكرية أجنبية، يُرجَح أن يكون قوامه الرئيسي عسكريون سابقون، ربما يعزز من حظوظ أوكرانيا في استعادة التوازن على جبهات القتال، والتصدي لمخطط موسكو الرامي لمحاصرة المدن وإسقاطها؛ وذلك من خلال استنزاف القوات الروسية بتكتيكات هجينة "غير نمطية".

3- مأسسة انخراط المقاتلين الأجانب في الحرب: تتجاوز دعوة الرئيس الأوكراني حدود استدعاء المقاتلين الأجانب لتدعيم جبهته العسكرية، حيث ترقى إلى مأسسة وتقنين الأنشطة والأدوار التي ستلعبها تلك العناصر في المعارك المُقبلة. إذ إن تدشين "الفيلق الدولي" وإصدار التشريعات المُنظمة لـ "المقاومة الوطنية"، تمثل محاولة لشرعنة تلك التحركات؛ لتلافي الإشكاليات القانونية التي ستنتجها مشاركتهم بصراع خارجي، أي نفي كونهم "مُرتزقة" وتحويلهم إلى جنود عاملين بالقوات الأوكرانية عبر إبرام عقود تطوع معهم، وهو ما يهدف أيضاً إلى رفع الحرج الداخلي عن الحكومات الغربية التي يحمل تلك العناصر جنسياتها في حال مقتلهم أو اعتقالهم خلال العمليات العسكرية الجارية.

4- تقويض مُرتكزات الأمن الروسي: أدركت الكتلة الغربية ضرورة إعادة النظر في استراتيجياتها المُركزة على تطويق الصعود الصيني؛ حيث أظهرت المواجهات الجارية أن موسكو مازالت خطراً على مصالح أوروبا والولايات المتحدة. وهذا ما دفع الغرب إلى إشغال روسيا - داخلياً وخارجياً- عن تقويض تلك المصالح، إذ تبنى حزمة من العقوبات الرامية لتأجيج الصعوبات الاقتصادية في الداخل الروسي، مثل استبعادها من نظام "سويفت" المالي، وفرض عقوبات اقتصادية عليها. كما سيقود توظيف المقاتلين الأجانب في الجبهة الأوكرانية، إلى تشتيت جهود موسكو الأمنية والعسكرية، وقد يدفعها للتصدي إلى المخاطر الناشئة في مجالها الحيوي.

انعكاسات خطيرة:

استناداً للخبرات الأوكرانية - الروسية فيما يتعلق بإدارة ملف المقاتلين الأجانب بساحات المواجهة، يمكن الإشارة إلى العديد من الانعكاسات والتداعيات المُرجح أن تسفر عنها دعوة الرئيس زيلينسكي لتشكيل "الفيلق الدولي" بالمعارك الجارية مع القوات الروسية، ومن أبرزها الآتي:


1- إطالة أمد النزاع الحالي: سيعطل دخول مجموعات المقاتلين الأجانب أية مساعي لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا؛ كونها ستستهدف إشعال المواجهات واستدامة الحرب لحصد أكبر مكاسب ممكنة. ومع صعوبة ضبط تحركات وأنشطة تلك المجموعات، ستظهر انتهاكات جسيمة تعرقل الوصول لصيغة تنهي الحرب. كما يُعتقد أن تتحرك تلك المجموعات القتالية لإسقاط التفاهمات المُبرمة بين موسكو وكييف، إذا اشتملت على بنود تخفض من مزاياها أو تقيدها، وهو ما حدث بالسابق حينما جرى توقيع صيغة "مينسك-2" ورفضت بعض الكتائب الترتيبات المتعلقة بفصل خطوط الاشتباك بين الطرفين.

2- تمدد خطر اليمين المتطرف: ستحصد جماعات اليمين المتطرف نفوذاً متصاعداً، يُضاف إلى ما حققته خلال الأعوام الماضية، وستصبح أكثر جاذبية للراغبين في ممارسة العنف والإرهاب حول العالم، مع ضمانة الإفلات من الملاحقة. وهذا ما سيعزز من تأثير خطابات الكراهية ضد الأقليات، وسيجعل تلك الجماعات قادرة على توسيع قواعدها ونشر أفكارها المتطرفة، ما يعني تمدد "الإرهاب الأبيض" في المجال الحيوي الأوكراني، ودول تلك العناصر عند عودتهم إليها مجدداً.

3- إحياء التنظيمات الراديكالية: ستجد التنظيمات الجهادية فرصة لإعادة تنظيم صفوفها؛ سواء عبر انخراطها في المواجهات العسكرية بأوكرانيا، أو بالترويج لتصديها للاضطهاد الذي ستمارسه جماعات اليمين المتطرف ضد الأقليات المسلمة. وستصبح هذه التنظيمات أكثر قُدرة على تجنيد المزيد من المقاتلين واستجلابهم إلى خطوط المواجهة، وهو ما ستكون له تداعياته على أمن المناطق التي تنشط فيها تلك التنظيمات تقليدياً، وفي مقدمتها الشرق الأوسط، مع ترقب اشتعال موجات إرهابية جديدة بعد عودة هؤلاء المقاتلين من أوكرانيا.

4- خلق إشكاليات أمنية مُزمنة: سينتج توظيف المقاتلين الأجانب، وفقاً للطرح الأوكراني، إشكاليات أمنية عالمية مستدامة، على غرار تنامي الاتجاه لشرعنة توظيف المقاتلين الأجانب والمرتزقة في الصراعات المسلحة، وتشكيل كيانات متطرفة شديدة الخطورة على الأمن والسلم الدوليين. ولن يكون من اليسير التصدي للتهديدات الناشئة عن هكذا اتجاه، ما سيضع المجتمع الدولي أمام تهديدات غير نمطية متصاعدة الخطورة، وربما جولة أكثر وطأة من العنف والتطرف، والتي يُعتقد أن تتجاوز في تداعياتها ما حدث بالعقود الماضية.

إجمالاً، يمكن القول إن تدشين أوكرانيا "الفيلق الدولي" بقوات الدفاع الإقليمي، يُمثل توظيفاً ملغوماً لأحد أبرز العوامل المقوضة للأمن والسلم الدوليين، وستكون الحرب الروسية في أوكرانيا بداية لفصل جديد في تاريخ الصراعات الدولية، يُرجح أن يصبح توظيف "الحروب الهجينة" ومأسسة أدوار المقاتلين الأجانب والمرتزقة سمات أساسية فيه، وربما يُعاد في سياقها تأطير نموذج المواجهة الغربية للصعود الصيني والصدام الروسي مستقبلاً.