أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تعافٍ أم حمائية:

دوافع الحملة الصينية لفرض قيود على القطاع الخاص

20 سبتمبر، 2021


تبنت السلطات الصينية خطاباً هجومياً، فيما يبدو، تجاه القطاع الخاص منذ سبتمبر 2020، وتبين ذلك جلياً في دعوة أعضاء الحزب الشيوعي إلى تثقيف رجال الأعمال بمبادئ الحزب الشيوعي الصيني، وتسليح عقولهم بالأيديولوجية الاشتراكية. ودعا الرئيس الصيني، شي جين بينغ، أيضاً إلى أن ينضم القطاع الخاص إلى "الجبهة المتحدة" United Front، وهي تحالف من الأفراد والمنظمات المكلفة بتنفيذ أجندة الحزب الشيوعي. وبمعنى آخر، كأن الرئيس الصيني يوجه رسالة إلى شركات القطاع الخاص مفادها أنه يمكنهم السعي للربح، ولكن في إطار القواعد التي يضعها الرئيس والحزب الشيوعي. وكانت تلك التصريحات بمنزلة إنذار لصدور قرارات تنظيمية صارمة لكبح جماح القطاع الخاص في الصين، ولا يُعرف مداها الزمني وحدودها النهائية.

حملة تنظيمية:

أقرت السلطات الصينية منذ أواخر عام 2020 قيوداً تنظيمية على الشركات الخاصة العاملة في مجالات، مثل التجارة الإلكترونية، والاتصالات، والخدمات التعليمية الخاصة، والتطوير العقاري، وحتى شركات توصيل الأطعمة الجاهزة. ويمكن التمييز بين 3 أنواع رئيسية من هذه القيود، سيتم استعراضها كما يلي: 

1- قيود مالية وهيكلية: أوقفت الحكومة الصينية، في نوفمبر 2020، خطة شركة (Ant Group)، التي تعمل في مجال الإقراض المالي، والتابعة لشركة "علي بابا" (AliBaba)، لطرح أول أسهمها في بورصة شنغهاي والمُقدر قيمتها المحتملة بــ 37 مليار دولار، وتم تحويلها إلى شركة مالية قابضة تحت إشراف البنك المركزي الصيني.

وفي خطوة أخرى، تم فرض غرامة على الشركة الأم (Alibaba)، المملوكة للملياردير الصيني الشهير جاك ما، بقيمة 2.8 مليار دولار، وذلك تحت دعوى محاربة الممارسات الاحتكارية للشركة، إذ تتهمها الحكومة الصينية بإجبار شركائها التجاريين على العمل معها بشكل حصري. 

وهنا ثمة تكهنات بأن تلك الحملة التي تستهدف شركة (AliBaba) لا يتمثل دافعها الرئيسي في مكافحة الاحتكار أو حتى تحسين الوضع الهيكلي للشركات العاملة في مجال الإقراض المالي، بل بغرض معاقبة جاك ما لتوجيهه انتقادات للنظام الصيني. 

على صعيد آخر، كان الخاسر الأكبر من القيود الهيكلية التي فرضتها بكين على القطاع الخاص، الشركات التعليمية التي تقدم الدروس الخصوصية والخدمات التعليمية الخاصة، والتي يبلغ حجم استثماراتها بالسوق المحلي نحو 100 مليار دولار. وقد فرضت الحكومة الصينية، في أغسطس الماضي، على هذه الشركات ضرورة تكييف وضعها القانوني لكي تتحول إلى مؤسسات غير ربحية، على نحو يحظر الاستثمارات في إحدى الصناعات الأسرع نمواً.

2- قيود لحماية البيانات: بموجب القانون الجديد لحماية المعلومات الشخصية في الصين، والذي سيدخل حيز النفاذ في نوفمبر المقبل، ستواجه الشركات الصينية إجراءات تنظيمية جديدة في مجال حماية خصوصية البيانات للمستهلكين الصينيين. وطبقاً لهذا القانون، يتعين على شركات الاتصالات الحصول على موافقة المستخدمين قبل جمع معلوماتهم، وكذلك يمكن للمستخدمين إلغاء هذه الموافقة متى شاؤوا. ويُلزم القانون أيضاً شركات الاتصالات بالحصول على موافقة الحكومة الصينية قبل استخدام بيانات المواطنين الصينيين من دول أجنبية.

وعلى خلفية تلك اللوائح الجديدة، تم إلغاء تطبيق Didi Chuxing، وهو التطبيق الصيني المنافس لنظيره الغربي "أوبر"، من متاجر تطبيقات الهواتف المحمولة في يوليو 2021؛ جراء مخاوف تتعلق بانتهاك بيانات مستخدمي التطبيق. وكان من نتائج هذه الخطوة أن خسرت الشركة حوالي 5.3% من قيمها أسهمها خلال يوليو الماضي.  

كما علقت شركة الإنترنت الصينية "تينسنت" (Tencent) قبول شبكتها الاجتماعية الشهيرة "وي شات" WeChat مشتركين جدد لحين توفيق الشركة أوضاعها التنظيمية وفقاً للوائح الجديدة، ما تسبب في تراجع أسهم الشركة في الربع الثاني من العام الجاري بنسبة 19%، وهو أسوأ هبوط لها منذ 10 سنوات.

3- قيود لحماية العمال: أصدرت وزارة الموارد البشرية والضمان الاجتماعي الصينية في الفترة الأخيرة، عدداً من المبادئ التوجيهية بشأن حماية حقوق العمال في مختلف الأنشطة. وأقرت الحكومة الصينية، على وجه خاص، بضرورة توفير الحد الأدنى من الأجور والضمان الاجتماعي، مثل المعاشات، والرعاية الطبية للعاملين بشركات توصيل الطعام، والنقل. وأدت هذه التوجيهات إلى خسارة شركة (Meituan) نحو نصف قيمتها السوقية منذ بداية العام. 

مبررات رسمية:

أكد الخطاب الرسمي الصيني أن القيود المفروضة على القطاع الخاص تستهدف تحسين حياة العمالة، وتضييق فجوة الثروة، والحفاظ على توسع رأس المال من أجل تحقيق الرخاء المشترك. ولا يمكن الجزم هنا بأن هذه القيود سوف تساهم وحدها في تقليص الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين مختلف الطبقات الصينية، دونما تبني تدابير أخرى، مثل فرض ضرائب تصاعدية. 

ويُرجح أن تلك القيود التي فرضها الحزب الشيوعي جاءت بعدما شعر الأخير بالتهديد من وجود أذرع اقتصادية لا تتسق مع أهداف الحزب. ولذا تم فرض القيود الجديدة بشكل صارم ومفاجئ للتأكيد على قوة الحزب الحاكم وقدرته على بسط سيطرته على أنشطة الاقتصاد الصيني.

ومن زاوية اقتصادية بحتة، فإن القطاع الخاص يمثل ركناً أساسياً في اقتصاد الصين، حيث يوجد أكثر من 30 مليون شركة خاصة تساهم بأكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وتمثل الضرائب التي تدفعها هذه الشركات أكثر من نصف الإيرادات الحكومية، فضلاً عن أن القطاع الخاص يقوم بتوظيف أكثر من 80% من العمال في الصين. 

وفي ضوء ذلك، يبدو أن الرئيس الصيني يسعى إلى محاولة فرض سيطرة ورقابة صارمة على تلك الشركات والتأكد من مساندتها لجهود الحزب الشيوعي في التعافي الاقتصادي من جائحة كورونا، والتي تأتي وسط تضرر الاقتصاد الصيني من العقوبات الأمريكية التي ألحقت خسائر بعدد كبير من الشركات المملوكة للدولة ومنها شركتي "هواوي"، وByteDance المالكة لتطبيق "تيك توك" TikTok.

ومن ثم، الأرجح أن النظام الصيني يسعى لتوحيد كافة الكيانات الاقتصادية، بما فيها شركات القطاع الخاص، تحت لواء الحزب الشيوعي لقيادة جهود إنعاش الاقتصاد الصيني، بالإضافة إلى إعادة توجيه رؤوس الأموال نحو القطاعات ذات الأولية مثل الصناعات التقنية والطاقة النظيفة والتكنولوجيا العالية وغيرها.

كما تعكس تلك القيود سياسة بكين التي تعتبر حماية أمن البيانات جزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي، حيث ترغب السلطات في التأكد من عدم وصول القوى الخارجية لاسيما الولايات المتحدة لبيانات المواطنين الصينيين، وهذا ما قد يفسر استهداف تطبيق Didi Chuxing بعد عدة أيام من طرح الشركة لأسهمها في بورصة نيويورك بقيمة 4.4 مليار دولار، وهو قرار عارضته السلطات الصينية إلا أن الشركة مضت قُدماً في عملية الطرح. 

تداعيات مُحتملة:

تفرض القيود التنظيمية على القطاع الخاص الصيني، تداعيات بعضها إيجابي والآخر سلبي على صعيد الوضع الداخلي والدولي لبكين، ويتضح ذلك على النحو التالي:

1- الاستثمار في الأنشطة ذات الأولوية: ربما ليس هناك مفر أمام الشركات الصينية سوى الالتزام بالقواعد الحكومية الجديدة، وإعطاء أولوية لأجندة الاستثمارات الحكومية في الأنشطة ذات الاهتمام، مثل الاقتصاد الأخضر، والصناعات عالية التقنية التي تسعى الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي فيها في ظل نزاعها المستمر مع الولايات المتحدة.

2- ارتفاع القيمة السوقية للشركات التكنولوجية: كانت أصداء التوجيهات الجديدة للحكومة الصينية، إيجابية على القيمة السوقية للشركات التكنولوجية، حيث ارتفع مؤشر Shanghai Star 50، والذي يضم شركات عاملة في مجالات تصنيع أشباه الموصلات والطاقة المتجددة وشركات التصنيع العالية التقنية، بنسبة 7.5% منذ بداية العام الحالي. 

كما ارتفع مؤشر شركة Shanghai Bright Power Semiconductor، العاملة في مجال أشباه الموصلات، بنسبة 162% هذا العام. في حين قفزت أسهم شركة Trina Solar، العاملة في مجال الطاقة الشمسية، بنحو 130%. بيد أن ذلك لا ينفي أن الشركات الخاصة بالقطاعات الأخرى تعرضت لخسائر في قيمتها السوقية بقيمة قاربت تريليون دولار.

3- مناخ أفضل للشركات الصغيرة والمتوسطة: من المتوقع أن يسهم القضاء على الاحتكار في خلق مجال جيد للأعمال، خاصة بالنسبة للشركات الصغيرة والمتوسطة والتي تعد مصدراً رئيسياً للعمالة المحلية.

4- هز الثقة في السوق الصيني: من المحتمل أن تؤدي الطريقة المفاجئة لفرض القيود التنظيمية، إلى اهتزاز ثقة المستثمرين الأجانب في السوق الصيني، وهو ما قد يقوض طموح بكين لتدويل أسواق العملات والأصول، وهي المجالات التي حققت تقدماً ثابتاً في السنوات الأخيرة من خلال إدراج الأصول الصينية في المؤشرات العالمية وزيادة مشاركة المستثمرين الأجانب في أسواق رأس المال المحلية في البلاد.

5- مخاوف الشركات المبتكرة: تطمح الصين لأن تصبح قوة عظمى في مجال التكنولوجيا المرتكزة على الابتكار والإبداع، ولكن يمكن أن تؤدي تلك القيود إلى الحد من شهية الشركات في تعزيز عمليات الابتكار، في ظل تخوفات المستثمرين الصينيين والأجانب من حدوث تغيرات مفاجئة في بيئة الاستثمار بشكل سريع في المستقبل. إذ إنه لا يوجد ضمان بألا تقوم الحكومة الصينية بتطبيق قيود أكثر صرامة حتى على المستثمرين الذين يعملون بشكل متسق مع أهداف الحزب الشيوعي.  


استنتاجات جوهرية:

من الواضح أن القيادة الصينية تسعى بشكل حثيث لإعادة ترتيب نمط العلاقة بين الدولة وشركات القطاع الخاص العملاقة. ولكن في الوقت ذاته، لا يمكن القول إن الصين ستتحول إلى بيئة طاردة لشركات القطاع الخاص، فالقادة الصينيون يدركون أن القطاع الخاص محرك حيوي للتنمية، وأنه حال حدوث نزوح جماعي لرأس المال الأجنبي من أسواق المال الصينية، فإن ذلك سيؤدي إلى موجة من عدم الاستقرار السياسي. 

وقد انعكس إدراك القيادة الصينية لهذا الأمر في تصريح "ليو هي"، كبير المستشارين الاقتصاديين للرئيس الصيني، في 6 سبتمبر الجاري، بأنه "لا توجد تغييرات في المبادئ والسياسات لدعم تنمية الاقتصاد الخاص". وأضاف "يجب تقديم دعم قوي للشركات الخاصة حتى تتمكن من لعب دور أكثر أهمية في تنمية الاقتصاد الصيني، وخلق فرص العمل وتعميق الابتكار التكنولوجي".

لذا يبدو أن جٌل ما يحدث هو أن الدولة الصينية على استعداد لدعم الشركات الخاصة شريطة أن تلتزم بتعليمات وتوجيهات الحزب الشيوعي. وهذا سلاح ذو حدين؛ فهو نهج قد يؤتي ثماره على المدى القصير، إلا أن الاستمرار في اتباع ذات النهج على المدى الطويل قد يمثل خطراً لاسيما إذا ما تمادى الحزب الشيوعي في فرض مزيد من القيود التنظيمية على الشركات الخاصة في المستقبل.