أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

عام التأزم:

هل تنتهي أزمة الليرة التركية قريباً؟

20 أبريل، 2021


مر الاقتصاد التركي خلال العامين الماضيين بحالة عدم اتزان شديدة، تمثلت ملامحها في اضطراب سعر صرف الليرة، التي شهدت موجات هبوط حاد، وتبعتها موجات صعود في بعض الأحيان، لكنها لم تكن بنفس مقدار الهبوط، الأمر الذي دفعها لأن تصبح إحدى عملات الأسواق الناشئة الأسوأ أداءً وفق تصنيف العديد من المؤسسات المالية العالمية. وطوال تلك الفترة، لم تدخر الحكومة التركية، ممثلة في البنك المركزي، جهداً من أجل دفع الليرة إلى التماسك، فعملت على السحب من احتياطيات النقد الأجنبي، وضخه في أسواق الصرف، دفاعاً عنها.

ورغم ما بذلته الحكومة من جهد في هذا الاتجاه لكنها لم تتمكن من وقف الليرة عن التدهور، ما يطرح تساؤلات عديدة حول مستقبل أداء الليرة خلال الفترة المقبلة، وما إذا كانت ستتمكن تركيا من وقف نزيف عملتها في الأفق المنظور أم لا.

تدهور مستمر:

خسرت الليرة نحو 30% من قيمتها في عام 2020، ولم يقتصر أداؤها على التراجع فقط، بل إنها عانت من حالة من التذبذب الشديد، ما دفع وكالة بلومبيرج في مطلع أكتوبر الماضي للتعقيب على أدائها بالقول بأنها "تخالف باقي عملات الدول الناشئة الأخرى"، وقد صنفتها بأنها "صاحبة ثاني أسوأ العملات أداءً في الأسواق الناشئة بعد الريال البرازيلي". وقد استمر تراجع سعر صرف الليرة خلال عام 2021، ما أفقدها مجدداً نحو 9% من قيمتها. وأدى ذلك إلى تخطي سعر صرف الليرة حالياً (20 أبريل 2021) مستوى الـ8 ليرة لكل دولار، بعد أن افتتحت عام 2020 بسعر صرف يبلغ نحو 5.97 ليرة لكل دولار. وهذا التطور يعني أن الأتراك أصبحوا مجبرين الآن على دفع أموال تزيد بنحو 35% عما كانوا يدفعونها بداية العام الماضي لشراء نفس الاحتياجات من السلع والخدمات الأساسية، أو بمعنى آخر تأمين نفس مستوى المعيشة.

وقد استخدمت المعارضة ذلك الأمر كورقة ضغط على الحكومة خلال الشهور الماضية. وفي مواجهة الضغوط، بجانب رغبة الحكومة في تفادي حدوث المزيد من نزيف الليرة، استخدم البنك المركزي الاحتياطي من النقد الأجنبي، وقد توسع في هذا الاتجاه بشكل كبير، وتقدر بنوك عالمية عدة، بما فيها بنك "غولدمان ساكس"، أن تركيا أنفقت ما يزيد على 100 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي لديها خلال عام 2020، وبمتوسط يزيد عن 8 مليار دولار شهرياً. ومع مواصلة الليرة التراجع في عام 2021، استمر البنك المركزي في نفس النهج، فاستخدم المزيد من الاحتياطيات المتاحة، وبالتالي انخفضت احتياطيات البلاد مجدداً، بما في ذلك الذهب والعملات الأجنبية، بأكثر من 15% منذ بداية العام، لتصل إلى 89.3 مليار دولار، بعد أن كانت قيمتها تتخطى نحو 105 مليار دولار في نهاية عام 2020، وهذا يعني أن البنك سحب ما قيمته 15.7 مليار دولار من تلك الاحتياطيات خلال الفترة المنقضية من العام، وبمعدل شهري يفوق الـ5 مليار دولار تقريباً.

ورغم أن متوسط السحب الشهري من احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك تراجع مما يزيد عن 8 مليار دولار في عام 2020، إلى أكثر من 5 مليار دولار في عام 2021، ما يعني حدوث تحسن نسبي في الأوضاع النقدية في البلاد، وكذلك تحقيق الليرة بعض التماسك مقارنة بوضعها خلال العام الماضي، لكن هذا الأمر لا يعني أن الأزمة قد انتهت، لاسيما أن الأسباب الحقيقية لتراجع قيمة الليرة، والمتمثلة في تراجع تدفقات النقد الأجنبي إلى البلاد، مازالت قائمة، في ظل استمرار التداعيات السلبية لأزمة كورونا على التجارة الخارجية للبلاد. 

وبعد أن ارتفع عجز الميزان التجاري لتركيا إلى نحو 50 مليار دولار في عام 2020، بزيادة تبلغ نحو 69% عنه في العام السابق، فقد شهدت الشهور الأولى من عام 2021 استمراراً في تسجيل أرقام مرتفعة للعجز التجاري للبلاد، حيث أشارت بيانات وزارة التجارة إلى أن هذا العجز ارتفع خلال شهري يناير وفبراير 2021 بنسبة تصل إلى 10% تقريباً مقارنة بها قبل عام. وبجانب هذه الأزمة، فمازال الاقتصاد يعاني تراجعاً في إيرادات قطاع السياحة، الذي شهد تراجعاً غير مسبوق في المؤشرات، بعد أن تسببت ظروف كورونا في تراجع عدد السائحين الوافدين إلى البلاد بنسبة 70% في عام 2020، كما تراجعت إيرادات القطاع بنسبة تبلغ نحو 65.1% مسجلة 12.1 مليار دولار، مقارنة بما يزيد عن 18 مليار دولار في عام 2019. 

ونتيجة لهذا الأمر، تعرضت معظم الشركات العاملة في القطاع لخسائر كبيرة، وأشارت جمعية مستثمري ومدراء المطاعم السياحية التركية، إلى أن نحو 7 آلاف شركة سياحية في البلاد قد أعادت هيكلة ديونها بسبب الأزمة، كما أن نحو 35 ألف شركة قد تغلق أبوابها بالقطاع، إذا استمرت ظروف أزمة كورونا لفترة أخرى في المستقبل، وهو ما سيزيد من الضغوط على الحكومة، فبجانب أن خسائر الشركات تعني المزيد من تدني مؤشرات قطاع السياحة، وبالتالي المزيد من تراجع النقد الأجنبي، فإن هذه الشركات تشغل نحو 700 ألف عامل تركي، ما يعني أن تضررها يهدد بتسريح هذه العمالة.

خيارات أقل:

تفرض هذه الأوضاع خيارات محدودة أمام الحكومة في مواجهة المشكلات المالية والنقدية، وما يزيد من حساسية الوضع أيضاً هو أن البنك المركزي لن يكون قادراً على مواصلة نفس استراتيجيته المتمثلة في السحب من الاحتياطيات النقدية، لاسيما في ظل الانتقادات الشديدة التي تواجهها هذا الاستراتيجية من قبل المعارضة، وهو ما أشار إليه محافظ البنك الجديد شهاب قاوجي أوغلو، مؤخراً، بتأكيده على أن أحزاب المعارضة صعّدت من انتقاداتها لهذه الاستراتيجية، على مدار العامين الماضيين، "باعتبارها تبذيراً". ويضاف إلى ذلك أن ما تبقى بيد الحكومة من الاحتياطيات ليس بالكثير، وبالتالي فإن مواصلة السحب منه يعني تراجع الجدارة المالية للبنك المركزي، وفقدانه القدرة على التصدي لأي أزمات نقدية غير متوقعة في المستقبل، هذا فضلاً عن تعرض تركيا لخفض تصنيفها الائتماني من قبل مؤسسات التصنيف الدولية، ومن ثم تراجع قدرتها على اللجوء لأسواق الدين العالمية لتأمين بعض الاحتياطيات من السيولة النقدية الأجنبية في أوقات اللزوم. 

ويعني ذلك أن الليرة مرشحة لكى تشهد المزيد من التذبذب المائل إلى الاضطراب في قيمتها على مدار عام 2021، ولن ينقذها من ذلك سوى حدوث تحسن حقيقي في أداء الاقتصاد، وانتهاء الأسباب المؤدية لضعف إيراداته من النقد الأجنبي، والمرتبطة في الأساس بأزمة كورونا، بجانب بعض الأسباب الداخلية الأقل أهمية في هذا الإطار.