أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

معضلة حقيقية:

كيف تدير الحكومات أزمة الديون في عصر "كورونا"؟

29 يونيو، 2020


تعتبر مشكلة تفاقم الديون، الحكومية والخاصة، أحد التحديات الصعبة التي تواجه الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن، لاسيما أن الديون وصلت إلى مستويات استثنائية لم تبلغها من قبل، كما أن أزمة "كورونا" تدفعها إلى الزيادة بمعدلات مرتفعة، ما يضعها على الطريق نحو نهاية لم تصلها من قبل أيضاً.

وفي مواجهة ذلك، فإن دول العالم مطالبة بفعل الكثير، للحيلولة دون وصول مديونياتها إلى مستويات لا يمكن للاقتصادات التعايش معها، ولحماية ما أنجزه البشر من تقدم اقتصادي، قبل أن ينحدر العالم إلى أزمة مالية لا نظير لها، تأتي على تلك المكتسبات، وتدفع ملايين البشر من جديد نحو الفقر؛ مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك لن يكون قاصراً على الدول الأشد فقراً أو الفقيرة أو متوسطة الدخل، بل إنه يشمل كذلك الدول الغنية، والأكثر تقدماً.

أزمة الدين:

توقع صندوق النقد الدولي مؤخراً أن يتجاوز الدين العام العالمي مستوى 100 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، وذلك للمرة الأولى على الإطلاق. وقال الصندوق أن عبء الديون العالمية سيرتفع بنحو 19 نقطة مئوية خلال العام الجاري وحده، وهو ما يفوق حجم الزيادة المسجلة في الديون العالمية عام 2009، خلال الأزمة المالية، حيث بلغت الزيادة 10 نقاط مئوية فقط.

وتعتبر الزيادة المرجح حدوثها في الديون العالمية هذا العام مبررة إلى حد بعيد، في ظل الإنفاق الحكومي الطارئ، والواسع، الذي يهدف إلى تلافي الآثار الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن الآثار الصحية، لوباء "كورونا".

 ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي، فقد أنفقت الدول نحو 10 تريليون دولار حتى الآن، لتحقيق هذه الغاية. وبالطبع، فإن هذه النفقات مرشحة إلى الزيادة خلال الشهور المقبلة، وقد تتضاعف، في حال عودة وباء "كورونا" إلى الانتشار بمعدلات كبيرة، في موجة ثانية من الإصابات، والتي قد تكون الزيادات الأخيرة في الإصابات الجديدة في الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، وبعض الدول الأوروبية، ليست إلا بدايتها.

وما يزيد من أخطار أزمة الديون، هو أن التوجه العالمي يدفع نحو التوسع في الاستدانة، فعلى الرغم من العبء المالي المتضاعف للنفقات التي نفذتها الحكومات حول العالم منذ بداية الأزمة، فإن صندوق النقد الدولي ينصحها بعدم وقف أى برامج للدعم والتحفيز المالي للاقتصاد، ويرى أنه إذا توقفت تلك الرامج فإن ذلك سيُولِّد موجات إفلاس عالمية واسعة، وسيلحق أضراراً جسيمةً بالوظائف والدخول. ومثل هذا التوجه من شأنه أن يدفع نحو تزايد الديون العالمية بنسب ووتائر مضاعفة خلال الشهور المقبلة، لا محالة. وحسب تقارير عديدة، فإن أكثر من مائة دولة في العالم تقدمت بطلبات تمويل لصندوق النقد الدولي.

هناك وجه آخر للمشكلة، يتعلق بأن الديون تتركز بشكل واضح في الدول الغنية والمتقدمة، إذ أن الدول العشر الأولى من حيث حجم المديونية، وهى جميعها دول متقدمة وغنية، تستحوذ على نحو 61 تريليون دولار، من إجمالي الديون العالمية، التي تناهز نحو 87 تريليون دولار، وبنسبة تزيد عن 70% منها. 

وتحوذ الولايات المتحدة بمفردها على 20.41 تريليون دولار من المديونية، وبما يقارب ربع المديونية العالمية ككل، وهذا يشير إلى حجم الأعباء التي تتحملها تلك الاقتصادات لخدمة تلك الديون، والتي تمثل مشكلة بالنسبة للبعض منها بالتأكيد، ولاسيما بالنسبة لاقتصادات مثل إيطاليا وإسبانيا.

وإذا كانت اقتصادات الدول المتقدمة والغنية تتحمل العبء الأكبر من المديونية على هذا النحو، لكنها في الوقت نفسه أيضاً تظل عرضة للمخاطر المرتبطة بديون الدول الفقيرة والأشد فقراً. فالدول المتقدمة والغنية هى نفسها أكبر الدائنين للدول الفقيرة والأشد فقراً، سواءً كان من خلال حكوماتها أو عبر المؤسسات المالية، أو حتى من خلال مساهماتها في المؤسسات الدولية، وبالتالي، فإنه في حال إفلاس عدد من الدول الفقيرة، فإن ذلك سيفقد اقتصادات الدول الدائنة الكثير من أموالها.

 إذ أنها ستكون في هذه الحالة مضطرة للتنازل عن بعض أو كل ديون الدول المفلسة. وقد شهدت الشهور الأخيرة مبادرات عالمية تدعو إلى ذلك، كالمبادرة التي تتبناها دول مجموعة العشرين بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتي تسعى إلى تأجيل أقساط ديون الدول الأشد فقراً، أو التنازل عن جزء منها، كآلية لدعم هذه الدول في مواجهة تداعيات "كورونا".

 

المصدر: البنك الدولي.

آليات المواجهة:

إذا كانت الدول والحكومات مطالبة بالمزيد من الإنفاق لدعم وتحفيز الاقتصاد في مواجهة "كورونا"، وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية، فإنها لابد أن تعي أن الاعتماد على الاستدانة لتأمين الأموال اللازمة لذلك يجب أن يكون هو خيارها الأخير. وقبل أن تفكر الحكومات، ولاسيما في الدول ذات الهوامش المالية الضيقة، في الحصول على قروض جديدة، من الخارج أو الداخل، فإنها مطالبة بالقيام بالعديد من الخطوات قبل ذلك، للحد من فرص تضخم مديونياتها بشكل مبالغ فيه. 

أولى هذه الخطوات تتمثل في مراجعة أولويات الإنفاق، والعمل بمشروعات مؤقتة للموازنات، تتناسب وطبيعة المرحلة، يكون تركيزها الأساسي منصباً على تسطيح منحنى الأزمات الاقتصادية، والحد من التسريح المبالغ فيه للعمالة، ومساعدة الفئات الاجتماعية الأشد فقراً؛ كما أن الدول ملزمة بسد القنوات التي تتسرب إليها الأموال، ولاسيما الفساد المالي، الذي يستهلك معظم ميزانيات المشروعات في العديد من البلدان.

ويأتي تعزيز المصادر البديلة للدخل والإيرادات، كإحدى الخطوات المهمة التي يجب الاضطلاع بها من قبل الدول، لاسيما بعد أن انقطعت أو تراجعت إيراداتها من الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالعالم الخارجي. 

كما يبرز في هذا السياق أيضاً، دور صناديق الثروة السيادية ذات رؤوس الأموال الكبيرة، وذات النشاط الدولي الواسع، حيث تستطيع الدول التي تمتلك تلك الصناديق دفعها إلى زيادة المكون المحلي في حافظاتها الاستثمارية، بما يحقق لها عوائد استثمارية جيدة، كونها ستشتري الأصول المحلية بقيم منخفضة في وقت الأزمة؛ وبما يساعد في الوقت ذاته، الاقتصاد الوطني على التعافي بأسرع من المتوقع، وأسرع منه في حال اعتمد فقط على الأموال التي تنفقها الحكومات بشكل مباشر.

وفي حال استنفدت الدول الوسائل والآليات المتاحة لتعظيم الاستفادة مما لديها من موارد مالية، ومازال لديها احتياج للاقتراض، فلابد من أن تجتهد في تأمين القروض الميسرة، سواءً من حيث أسعار الفائدة أو فترات السماح أو حتى آجال السداد. 

كما أنها مطالبة في الوقت ذاته بإنفاق أموال القروض التي تحصل عليها- ليس في معالجة مشكلات مزمنة في الاقتصاد- بل في التركيز على تلبية الاحتياجات الطارئة والنابعة من ظروف الأزمة، بما يمكنها من منع تفاقم المشكلات المالية والاقتصادية، إلى أن تنتهي الأزمة، ويعود الاقتصاد إلى النمو، بالشكل الذي كان عليه في سنوات ما قبل الأزمة. 

وفي كل الأحوال، فإن جميع الدول في حاجة إلى تبني سياسات مالية منضبطة وفعالة، تساعد على تجنب الاضطرابات الشديدة في الدورات الاقتصادية مهما كانت الظروف.