توقعت مصادر تركية، في 3 يوليو 2024، أن يكون هناك لقاء يجمع الرئيسيْن التركي رجب طيب أردوغان، والسوري بشار الأسد، في أستانا عاصمة كازاخستان، على هامش قمّة قادة مُنظمة شنغهاي في اليومين المقبلين.
وعاد ملف التقارب في العلاقات بين أنقرة ودمشق إلى دائرة الاهتمام، مُجدداً، بعد أن كان قد تجمّد خلال الأشهر الماضية. وخاصة مع إعلان العراق، في الفترة الأخيرة، أن اجتماعاً سورياً تركياً مُرتقباً ستشهده بغداد، في الأيام المقبلة.
ويطرح ذلك الأمر تساؤلات عدّة حول السيناريوهات المستقبلية التي قد تحدث في مسار التقارب بين أنقرة ودمشق، بجانب الفرص والتحديات التي تنتظر هذا المسار.
مُؤشرات جديدة:
ثمّة مؤشرات تتعلق بمحاولات التقارب في العلاقات بين تركيا وسوريا، خلال الفترة الأخيرة، ويمكن تسليط الضوء على أبرزها على النحو التالي:
1. دعوات مُتبادلة للمصالحة: قال الرئيس التركي أردوغان، عقب صلاة الجمعة في 28 يونيو 2024 بإسطنبول، إن أنقرة مُنفتحة على تطبيع العلاقات مع دمشق، مُؤكداً أنه لا يوجد أي سبب لعدم إقامة علاقات بين تركيا وسوريا، مُشيراً إلى استعداد أنقرة للعمل مع دمشق على تطوير العلاقات مع سوريا تماماً كما كان في الماضي. وقد جاءت تلك الدعوات بعدما أعرب الرئيس السوري الأسد عن "انفتاحه على كل المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سوريا وتركيا، والمستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها ومحاربة الإرهاب وتنظيماته". وهي تصريحات غير مُسبوقة بين رئيسيْ البلدين، ما يؤشر على أنها قد تمثل دفعة مهمة للتقارب بين أنقرة ودمشق.
هذا إلى جانب، الدعوة التي أطلقها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في 24 يونيو الماضي، لدمشق بشأن الاستفادة من حالة الهدوء في سوريا، من أجل المصالحة بين الحكومة السورية والمعارضة المسلحة التابعة لتركيا، ومحاربة ما أسماه "إرهاب حزب العمال الكردستاني" في إشارة إلى الأكراد في شمال شرقي سوريا.
2. اجتماع حميميم: في اجتماع يُعد الأول من نوعه يتم على الأراضي السورية، كشفت وسائل إعلام تركية، عن عقد اجتماع أمني، في 11 يونيو الماضي، بين وفديْن عسكرييْن من البلدين، جرى في قاعدة حميميم الجوية التي تتخذها روسيا مقراً لها، وأفادت المصادر أن الاجتماع ركّز بشكل خاص على التطورات الأخيرة في إدلب والمناطق المحيطة بها، وذلك بعد يوم من اجتماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع وزير الخارجية التركي في العاصمة موسكو، وعلى الرغم من نفي بعض الأوساط التركية، ونفي مصادر سورية لهذا الاجتماع، فإنه لم يصدر نفي رسمي من أي من الجانبين.
3. وساطة عراقية: في أواخر شهر مايو 2024، أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، أن حكومته تعمل على القيام بوساطة نشطة للمصالحة بين تركيا وسوريا، من خلال اتصالات مُستمرة مع كلٍ من أردوغان والأسد. ويرجح البعض أن مساعي السوداني قد تفرز نتائج إيجابية، ولاسيما في ضوء أن إعلانه عن تلك الوساطة من المؤكد أنه تمّ بتنسيق مع الرئيسيْن التركي والسوري. كما كشفت وسائل إعلام عراقية، في 6 يونيو الماضي، أنباء عن حصول تقدم في هذه الوساطة، وموافقة أنقرة ودمشق على عقد لقاء في بغداد، دون تحديد موعد لهذا اللقاء حتى الآن.
وللعراق سابق خبرة في التوسط بين الأطراف الإقليمية مُتعارضة الرؤى والمصالح؛ إذ استقبل جولات مباحثات بين مسؤولين إيرانيين وسعوديين في بغداد في السابق؛ وهي المساعي التي توّجت في النهاية بتوقيع اتفاق المصالحة في 10 مارس 2023 بوساطة صينية.
محفّزات التقارب:
شهدت الفترة الأخيرة، بروز عدد من المحفزات التي قد تدفع باتجاه التقارب بين أنقرة ودمشق، ويمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:
1- دعوات تركية في الداخل: يدعو حلفاء أردوغان، إلى جانب المعارضة التركية، إلى التقارب مع دمشق؛ إذ حثّ زعيم حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزيل، حكومة أردوغان على التفاوض مع الرئيس الأسد وتعزيز السلام في سوريا، مؤكداً أنه بمجرد عودة حزبه إلى السلطة، سيتم تطبيع العلاقات مع سوريا بشكل فوري، فيما دعا زعيم حزب الحركة القومية التركي، دولت بهجلي، حليفه أردوغان إلى تعاون عسكري مع الرئيس الأسد، للقضاء على تهديد المسلحين الأكراد في سوريا.
ويُضاف إلى ذلك، أن الاشتباكات التي حدثت على خلفية أعمال العنف التي استهدفت مصالح سوريين في تركيا، إثر اتهام رجل سوري بالتحرش بطفلة، مطلع يوليو الجاري، خاصة في مدينة قيصري بوسط الأناضول، وما تزامن معها من احتجاجات في مناطق حدودية أسفرت عن مقتل عدد من الأشخاص نتيجة المواجهات مع القوات التركية الموجودة في شمالي سوريا، قد يدفع بدوره إلى تسريع التقارب بين أنقرة ودمشق، بغية التوصل لحل لملف اللاجئين السوريين الضاغط على الداخل في تركيا، وتأمين عودتهم إلى موطنهم.
2- انتخابات كردية: في 20 مايو 2024، أعلنت الإدارة الذاتية التي يقودها الأكراد، والتي تُسيطر على الأجزاء الشمالية والشرقية من سوريا عن خطط لإجراء انتخابات بلدية في 11 يونيو الماضي، بعد إلغاء الموعد الأولي في 30 مايو الماضي، وكان من المقرر إجراء الانتخابات لاختيار رؤساء البلديات في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور والجزء الشرقي من محافظة حلب، لكن تم تأجيلها إلى 8 أغسطس المقبل؛ لأسباب عديدة محلية وإقليمية ودولية، منها رفض بعض الأوساط الكردية في تلك المنطقة إجراء الانتخابات، واعتراض تركيا عليها، وعدم تحمس واشنطن لها، بيد أن هذه الخطوة على ما يبدو أنها قد أسهمت في إنعاش ملف التقارب التركي السوري، على أساس أن أنقرة ودمشق متفقتان على العمل للحيلولة دون مزيد من سيطرة الأكراد على مناطق نفوذهم في شمالي سوريا؛ ومن ثم تشكيل دولة خاصة بهم.
3- أوضاع سورية مُلحّة: قد تؤدي الأوضاع الاقتصادية الصعبة في سوريا، إلى احتمالات إتمام التقارب السوري مع تركيا، الذي قد يفضي إلى تعاون اقتصادي بين البلدين المتجاوريْن. هذا إلى جانب حاجة سوريا للتوصل لحلّ لمشكلات المياه التي تصل إليها من تركيا، من خلال نهر الفرات، والتي قلت بكميات كبيرة. ومن جهة أخرى، فإن دمشق تسعى إلى تنويع شركائها التجاريين والاقتصاديين، في إطار محاولاتها التخلص من التبعية لإيران من جهة، ومن جهة أخرى فإن التباطؤ في تنفيذ ما تم الاتفاق بشأنه لعودة سوريا إلى الجامعة العربية، قد أسفر بالتبعية عن تباطؤ موازٍ في تدفق الاستثمارات العربية إلى سوريا؛ وهو ما جعل الأخيرة بحاجة إلى تنويع شركائها، للمشاركة في عمليات إعادة الإعمار.
4- تشجيع روسي: أدت روسيا دوراً في تعزيز التقارب بين تركيا وسوريا، وشاركت في المباحثات الرباعية التي كانت تحدث بين تركيا وسوريا بمشاركة إيران لبحث التقارب بين أنقرة ودمشق، واستضافت عدداً من الاجتماعات في هذا الصدد. والملاحظ أن روسيا قد عاودت الاهتمام بدفع هذا الملف، فكما ذُكر آنفاً، فإن اجتماع حميميم، قد جاء بعد يوم واحد، من لقاء بوتين مع وزير الخارجية التركي، في مؤشر على رغبة روسيا في تعزيز فرص التقارب بين البلدين.
كما قد يُسهم الهجوم الإرهابي في مركز "كروكس سيتي هول" التجاري في ضواحي موسكو؛ في ضغط موسكو على سوريا وتركيا لإتمام التقارب، وفتح الفرصة أمام تسويات سياسية أوسع بين البلدين؛ من أجل تجفيف بؤر الإرهاب الموجودة في إدلب، والتي تشكل تهديداً للطرفين، ولاسيما وأن الإعلام الروسي ركّز بعد الحادث على قدوم المهاجمين عبر تركيا.
تحديات قائمة:
ما زال هناك العديد من التحديات القائمة في وجه التقارب في العلاقات بين أنقرة ودمشق، يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- تمسك سوري بخروج القوات التركية: قد يقف تمسك دمشق بضرورة إخراج القوات التركية أولاً من شمالي سوريا، حجر عثرة أمام إتمام التقارب بين البلدين، وفي هذا السياق، أكّد وزير الخارجية السوري فيصل مقداد، خلال مؤتمر صحفي مُشترك مع القائم بأعمال وزير الخارجية الإيراني علي باقري كُني، في دمشق، في 3 يونيو، أن بلاده لن تجري حواراً مع تركيا قبل إعلانها خططاً لسحب قواتها. وربما هذا ما دفع مصادر مُقرّبة من الحكومة السورية، لنفي عقد اجتماع مع أنقرة في قاعدة حميميم في سوريا، مؤكدين أنه لم يطرأ أي تغيير في الموقف السوري تجاه شروط التقارب مع أنقرة.
2- رفع سقف الشروط التركية: كانت أنقرة تشترط في مُحادثاتها مع الحكومة السورية، التعاون ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد"؛ التي تعتبرها تركيا امتداداً لحزب العمّال الكردستاني، إلى جانب ضمان عودة اللاجئين السوريين، ولكن مؤخراً رفع وزير الدفاع التركي يشار غولر، سقف شروط بلاده لقبول الحوار مع دمشق، محدداً إياها في إجراء النظام لانتخابات مُستقلة، داعياً الحكومة السورية للقبول بوضع دستور جديد وإقامة انتخابات حرة ومُستقلة، فيما أكّد وزير الخارجية التركي، أن لدى بلاده جملة من المطالب التي تريدها من دمشق، قبل إطلاق الحوار معها، واستئناف مساعي التقارب، أبرزها حل المشكلات الدستورية، وتحقيق السلام مع المعارضة السورية، تلك الشروط التي يرى البعض بأنها مُستحيلة القبول والتحقيق من قبل الحكومة السورية، وهذا يُضعف فرص التقارب بين الجانبين.
سيناريوهات مُحتملة:
في ضوء ما يحيط بمسار التقارب التركي السوري، من فرص وتحديات، يمكن الوقوف على أبرز السيناريوهات المتعلقة به على النحو التالي:
1- السيناريو الأول: إتمام التقارب: يرى هذا السيناريو أن العلاقات بين أنقرة ودمشق قد تسير في اتجاه إتمام التطبيع، ويستند هذا السيناريو ليس فقط للعوامل المُحفّزة، بل لبعض العوامل الأخرى التي أبرزها إعلان استبدال الجيش التركي بعضاً من قواته الموجودة في قواعدها داخل محافظة إدلب شمال غربي سوريا، مطلع شهر يوليو الجاري، بقوات أخرى مُعززة بالأسلحة الثقيلة والمعدات اللوجستية، وذهبت الاتجاهات ما بين أن هذا التبديل روتيني، وما بين إنه قد يكون مقدمة لأن تقوم الحكومة السورية بعملية عسكرية واسعة في إدلب. كما قد يُسفر اللقاء الذي سيجمع بين أردوغان والأسد في أستانا، في حال حدوثه، عن تفاهم بين الرئيسين، يدفع باتجاه التقارب بين البلدين.
2- السيناريو الثاني: تقارب حذر: يرجح هذا السيناريو؛ أن تفرز المرحلة المُقبلة تقارباً حَذِراً بين أنقرة ودمشق، وذلك تحقيقاً للمصالح المتبادلة بينهما، والتي من بينها محاولة فتح طريق خط ترانزيت من إعزاز باتجاه نصيب في درعا، والذي قد يحقق مكاسب اقتصادية مشتركة للبلدين، كما قد يعزز تعهد مسؤولين أتراك، في مايو الماضي، بمواصلة العمليات العسكرية والقتال ضد "قسد" في شرق سوريا، بالتنسيق مع نظام الأسد، تحقيق التقارب بينهما.
3- السيناريو الثالث: عملية عسكرية تركية: يرجح هذا السيناريو، أن تلجأ أنقرة لإطلاق عملية عسكرية واسعة في سوريا، حال مضت الإدارة الذاتية التي يقودها الأكراد في خططها لإجراء انتخابات محلية في المنطقة، مستنداً إلى تهديد أروغان، في 15 يونيو الماضي باتخاذ كل ما هو ضروري لوقف إجراء تلك الانتخابات، فضلاً عن أن بعض التقديرات ترى أن اللقاء المرتقب بين أردوغان وبوتين، في أستانا على هامش اجتماعات منظمة شنغهاي للتعاون يومي 3 و4 يوليو 2024، ما هو إلا محاولة لحصول أنقرة على ضوء أخضر روسي بشن عمليات عسكرية في شمال وشرق سوريا.
وفي التقدير، في ضوء معطيات الموقف الراهن بين أنقرة ودمشق، وما سيؤول إليه مسار التطبيع بينهما في المرحلة المقبلة، من المرجح أن تشهد الأيام والأسابيع المقبلة اختباراً حقيقياً لمدى رغبة تركيا في المضي قدماً في إتمام التفاهمات والتقارب مع دمشق، كما أنه من المتوقع أن تستمر موسكو وبغداد في مساعيهما لعقد الاجتماع الدوري المقبل بين وفديْ تركيا وسوريا، وذلك لما في التقارب في العلاقات بين البلدين من مصالح ليس فقط لهما بل للمنطقة وكافة الأطراف.