قال الدكتور حمدي عبد الرحمن، أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد بالإمارات العربية المتحدة، إن أزمة الانتخابات السنغالية لم تبدأ من فراغ، وإنما سبقتها مقدمات تمثلت في محاولة الرئيس البقاء في السلطة لمدة ثالثة غير شرعية، بالإضافة إلى تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وبروز حركات الاحتجاج الشبابية.
وتطرق الأكاديمي ذاته، في مقال منشور من قبل مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بعنوان “هل انتهت الاستثنائية الديمقراطية في السنغال؟”، إلى أسباب تأجيل الانتخابات وتداعياتها، مرجحا أن تصبح السنغال مقصداً للجماعات الإرهابية الإقليمية، التي تستغل عدم الاستقرار السياسي للحصول على الدعم والتجنيد.
نص المقال:
تمثل السنغال دوماً واحة ديمقراطية في منطقة غرب إفريقيا المضطربة، إذ تجنبت منذ الاستقلال الوقوع في فخ الانقلابات العسكرية، فضلاً عن المحافظة على الانتقال السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع. بيد أن المفاهيم قد تتغير إذا استمرت مظاهر التراجع الديمقراطي.
لقد تقلصت المساحات الديمقراطية في البلاد منذ عام 2021، إذ قامت الحكومة بقمع المتظاهرين واعتقال زعماء المعارضة. ويبدو أن الأمور وصلت إلى ذروتها في يوليوز من العام الماضي عندما اندلعت احتجاجات عنيفة بعد اعتقال زعيم المعارضة البارز عثمان سونكو، واتهامه بالتخطيط لتمرد بعد أسبوع من إدانته بسلوك غير أخلاقي، والحكم عليه بالسجن لمدة عامين.
وكان رد فعل السلطات الحكومية هو إطلاق الغاز المسيل للدموع، وتعليق الوصول إلى الإنترنت، واعتقالات واسعة النطاق للمتظاهرين. ربما يشعر الشباب في السنغال أيضاً بالإحباط بسبب ارتفاع معدلات البطالة وزيادة معدلات الفقر، وهو ما يدفعهم إلى المشاركة في الاحتجاجات. ومما زاد الطين بلة أنه منذ إعلان الرئيس ماكي سال في 3 فبراير 2024 تأجيل الانتخابات، التي كان من المقرر إجراؤها يوم الأحد 25 فبراير، انزلقت البلاد إلى المجهول.
وبعد قمع المظاهرات بعنف وإبطال التأجيل من قبل المجلس الدستوري، لا يعرف السنغاليون متى سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع. ومن المقرر أن تنتهي ولاية ماكي سال في الثاني من أبريل من هذا العام.
يسعى هذا المقال إلى تحليل كافة أبعاد وتبعات المأزق الانتخابي في السنغال بعد إبطال تشريع تأجيل الانتخابات من قبل المجلس الدستوري.
جذور الأزمة
لم تبدأ أزمة الانتخابات السنغالية من فراغ، وإنما سبقتها مقدمات تمثلت في محاولة الرئيس البقاء في السلطة لمدة ثالثة غير شرعية، وهو الأمر الذي خلق مداً شعبوياً جارفاً من أجل الحفاظ على التقاليد الجمهورية، بالإضافة إلى تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وبروز حركات الاحتجاج الشبابية. وسوف نتناول كل هذه العوامل بشيء من التفصيل:
1 – المعارضة الشعبوية: في مايو 2023 دعا عثمان سونكو، مؤسس حركة الوطنيين الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة، إلى العصيان المدني ضد السلطة القضائية في البلاد. كما ندد أيضاً بالحوار الرئاسي، وبدأ من جانبه بتدشين حوار وطني مضاد. كانت هذه الدعوة التي أطلقها سونكو بمثابة حافز لموجة الاضطرابات اللاحقة التي شهدتها السنغال.
وقد اتهم الحزب الحاكم، “بينو بوك ياكار” (متحدون بالأمل)، سونكو بالرغبة في تمزيق وحدة البلاد والتستر خلف الجماهير للهروب من العدالة. وفي نهاية المطاف تم الحكم على سونكو بالسجن وحرمانه من الترشح للانتخابات. وفي نفس السياق حاول الرئيس ماكي سال الترشح لولاية ثالثة مثيرة للجدل قبل أن يضطر للتراجع تحت ضغط “حركة القوى الحية في السنغال”، وهي منظمة جامعة جديدة تضم أكثر من 170 جماعة سياسية وحقوقية.
2 – الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية: تواجه السنغال تحديات اجتماعية واقتصادية طويلة الأمد، أدت دوراً مهماً في تأجيج الاضطرابات الاجتماعية الأخيرة. وتمثل معدلات البطالة المرتفعة، وعدم المساواة في الدخل، ومحدودية الوصول إلى الخدمات الأساسية أبرز القضايا المؤثرة في المشهد السياسي في البلاد. وقد أدى تضافر هذه العوامل إلى انتشار الإحباط والسخط بين السكان، مما أسهم في نهاية المطاف في الاضطرابات التي شهدناها في الآونة الأخيرة.
أحد العوامل الرئيسية التي تؤدي إلى السخط هو الافتقار إلى الفرص الاقتصادية. إذ يواجه العديد من السنغاليين- لاسيما الشباب- صعوبة في العثور على عمل مستقر، الأمر الذي لا يؤثر فقط في أوضاعهم المالية، بل يخلق أيضاً شعوراً بالإقصاء والتهميش. ويؤدي التفاوت في توزيع الثروة إلى تفاقم الوضع، مع وجود فجوة كبيرة بين الأغنياء والفقراء. وقد تركت التفاوتات الواضحة في مستويات المعيشة والحصول على الموارد العديد من السنغاليين يشعرون بخيبة الأمل والإحباط العام إزاء الوضع الحالي.
علاوة على ذلك، أدت محدودية الوصول إلى الخدمات الأساسية إلى زيادة التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها السكان. وكانت قضايا مثل عدم كفاية الرعاية الصحية والتعليم وأنظمة الدعم الاجتماعي من المظالم العامة طويلة الأمد. وعلى سبيل المثال، فإن غياب شبكة أمان اجتماعي قوية جعل العديد من السنغاليين عرضة للصدمات والنكسات الاقتصادية، مما أدى إلى تفاقم ظروفهم المعيشية المحفوفة بالمخاطر بالفعل. وما من شك في أن عدم القدرة على الوصول إلى الخدمات الأساسية لا يؤدي إلى تقويض نوعية الحياة بشكل عام فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى إدامة دائرة الفقر والإحباط.
وقد أدى الجمع بين ارتفاع معدلات البطالة، وعدم المساواة في الدخل، ومحدودية الوصول إلى الخدمات الأساسية إلى خلق أرض خصبة للاضطرابات الاجتماعية في السنغال.
3 – دور الحركات الشبابية: برز استياء الشباب كعامل محفز كبير لتأجيج الاضطرابات في السنغال. ويلاحظ دوماً أن جيل الشباب في البلاد في طليعة المعبرين عن إحباطهم وخيبة أملهم من الظروف السائدة. لقد كانوا صريحين بشكل خاص في المطالبة بالتغيير والدعوة إلى مستقبل أفضل. ولعل أحد الجوانب الرئيسية التي تثير استياء الشباب هو محدودية فرص التعليم. إذ يواجه العديد من الشباب في السنغال تحديات في الوصول إلى التعليم الجيد، مما يعوق آفاق نموهم الشخصي والمهني.
ويؤدي الافتقار إلى الفرص التعليمية إلى خلق شعور باليأس، ويحد من قدرتهم على تأمين سبل عيش أفضل. علاوة على ذلك، غالباً ما يشعر الشباب بالتهميش السياسي، الذي يتم التعبير عنه من خلال نقص التمثيل والتأثير في عمليات صنع القرار. ويؤدي هذا الشعور بالإقصاء إلى تعميق الانفصال بين جيل الشباب والحكومة، مما يزيد من رغبتهم في التغيير وإقامة نظام سياسي أكثر شمولاً، وقد قام الشباب في السنغال، مدفوعاً بهذه المظالم، بدور نشط في قيادة الحركات والاحتجاجات، مطالبين بإصلاحات اجتماعية وسياسية ومستقبل أفضل. وقد كان لمشاركتهم النشطة وتصميمهم دور مهم في تشكيل ديناميات الاضطرابات، وحشد الدعم على نطاق أوسع، ولفت الانتباه إلى القضايا الملحة التي يواجهها جيل الشباب في البلاد.
مسارات تأجيل الانتخابات
لقد كان قرار الرئيس ماكي سال في 3 فبراير تأجيل الانتخابات، المقرر إجراؤها في 25 فبراير، مدعوماً بتشريع تم إقراره من قبل البرلمان بعد يومين فقط مجرد مناورة- في أحسن الأحوال- لتمديد فترة ولايته الرئاسية. فقد أعلن التشريع النيابي إجراء الانتخابات يوم 15 ديسمبر 2024، وهو ما يعني فعلياً تمديد رئاسة سال لمدة عام تقريباً.
في المقابل، قرر المجلس الدستوري السنغالي يوم 15 فبراير أن تأجيل البرلمان غير المسبوق للانتخابات الرئاسية، التي كان من المقرر إجراؤها في 25 فبراير، لا يتماشى مع الدستور، مما يدفع البلاد إلى مرحلة جديدة من عدم اليقين الانتخابي. وكان مرشحو الرئاسة وأعضاء المعارضة البرلمانية قد تقدموا بعدد من الطعون القانونية على مشروع القانون الذي أدى إلى تأجيل التصويت إلى ديسمبر، ومدد ولاية الرئيس ماكي سال بحسبان أنه يمثل “انقلاباً مؤسسياً”. وقد رحبت بعض فصائل المعارضة السنغالية بقرار المجلس، لكن العملية الانتخابية والجدول الزمني لا يزالان غير واضحين، إذ طلب المجلس من الرئيس تحديد موعد معقول. وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة إلى المجلس الدستوري، فإن قراراته تظل حاسمة بالنسبة لاستقرار السنغال.
والعجيب أنه بعد انتهاء ولاية ماكي سال سيكون هناك شغور في منصب رئيس الجمهورية وفقاً للمادة 39 من الدستور السنغالي، التي تنص على أنه “في حالة الاستقالة أو العجز الدائم أو الوفاة يحل رئيس الجمعية الوطنية محل رئيس الجمهورية”، على أن يتم تنظيم الانتخابات ضمن المهل المنصوص عليها في المادة 31 (خمسة وأربعون يوماً كاملاً على الأكثر وثلاثون يوماً كاملاً على الأقل قبل تاريخ انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الحالي).
يعني ذلك أنه بعد 2 أبريل لن يعود ماكي سال رئيساً للسنغال، الأمر الذي سيفتح الطريق لجميع الخلافات، خاصة داخل المعارضة وبعض المراقبين المدافعين عن سيادة القانون. ولذلك فإن قرار ماكي سال تأجيل الانتخابات لم يستبدل إلا أزمة بأخرى، لأنه لم يفعل سوى تأجيلها.
أسباب التأجيل وتداعياته
برر ماكي سال التأجيل من خلال الاستشهاد بمزاعم الفساد الموجهة ضد اثنين من قضاة المجلس الدستوري ورئيس الوزراء أمادو با. وكان أعضاء البرلمان من الحزب الديمقراطي قد طالبوا بإجراء تحقيق برلماني في قرار المجلس بإسقاط مرشحهم الرئاسي كريم واد. ورغم أن مزاعم الحزب الديمقراطي لم تثبت صحتها بعد، فإنها قوضت مصداقية المجلس الدستوري، التي انتقدتها المعارضة في السابق.
من جهة أخرى، يرى الكثيرون أن قرار الرئيس جاء بسبب الخوف من الهزيمة الوشيكة لمرشحه في ائتلاف الحزب الحاكم. إذ يريد كسب مزيد من الوقت لتمهيد الطريق للوريث السياسي الذي يخلفه في منصبه. علاوة على ذلك فإن تأجيل الانتخابات بالنسبة للحزب الديمقراطي قد يمهد الطريق أمام كريم واد، الذي أصبح يحمل الجنسية السنغالية حصراً، للعودة إلى صناديق الاقتراع. كما أنه سيسمح للحزب الحاكم بحل الخلافات الداخلية حول ترشيح أمادو با، التي هددت الفرص الانتخابية للائتلاف.
ولعل طريقة التصويت على قانون التأجيل الانتخابي تظهر هذه النيات المستترة للتحالف الحاكم. فقد تم التصويت على قانون 5 فبراير، الذي منح التأجيل من قبل ائتلاف “بينو بوك ياكار” الحاكم والحزب الديمقراطي السنغالي، إذ يسيطر أعضاؤهما على نسبة 60 بالمئة من مقاعد الجمعية الوطنية. لقد كانت العملية فوضوية، إذ تم إخراج نواب المعارضة بالقوة من المجلس من قبل قوات الأمن، ولم يتم إجراء أي نقاش عام له مغزى.
إن الانقسامات العميقة بين الجهات السياسية الفاعلة في السنغال تعني أن دعم الوسطاء الوطنيين والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” يُعد ضرورياً لحل الأزمة. وبعد أن أبطل المجلس قانون التأجيل، على الطرفين المطالبة باحترام الحكم. ويجب عليهما أيضاً مساعدة أصحاب المصلحة الوطنيين على تنظيم انتخابات سلمية وذات مصداقية بمجرد وضوح الجدول الزمني الجديد.
من جانبها، قامت الجاليات السنغالية في الخارج بدور مهم، إذ نظمت الاحتجاجات وحملات الضغط في فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة. ومن المعروف أن المغتربين السنغاليين كانوا تاريخياً ركيزة مهمة للسياسة السنغالية. فمن خلال مناصرتهم وقوة الضغط التي يمتلكونها، يشكل هؤلاء المغتربون حارس الديمقراطية السنغالية. وفي هذه الحالة، تواصل أعضاء الجاليات السنغالية مع الكونغرس ووزارة الخارجية والبيت الأبيض لإدانة القمع وانتهاك حقوق الإنسان الأساسية في السنغال، كما احتجوا أيضاً أمام سفارات السنغال في بلدان مختلفة للتنديد بالعنف ضد المتظاهرين في السنغال. أضف إلى ذلك الدور الحاسم للمغتربين باعتبارهم الآلة المالية وراء العديد من الأحزاب السياسية.
من جهة أخرى كانت السنغال تُعد دائماً نموذجاً للديمقراطية، ولكنها أيضاً صوت قوي في الدفاع عنها في غرب إفريقيا، بعد أن قامت بدور بارز وحاسم في الإطاحة بالرئيس الغامبي السابق يحيى جامع في عام 2017. وعليه فإن عملية التراجع الديمقراطي التي شهدتها منطقة الساحل وغرب إفريقيا بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية في السنوات الأخيرة، تجعل قرار سال تأجيل الانتخابات بمثابة سابقة خطرة أخرى. وعليه فقد عمقت الأزمة المخاوف بين المواطنين السنغاليين وأصحاب المصلحة في الإقليم وخارجه بشأن التراجع الديمقراطي الواضح، وأثارت القلق بشأن الاستقرار السياسي في السنغال في منطقة تعاني من انعدام الأمن بشكل واضح.
ومن المحتمل أن تصبح السنغال مقصداً للجماعات الإرهابية الإقليمية التي تستغل عدم الاستقرار السياسي للحصول على الدعم والتجنيد. وقد يدرك تنظيم “القاعدة” أو “داعش” أن التداعيات الناجمة عن اعتقال سونكو وأزمة الانتخابات تمثل فرصة سانحة في دولة يعتبرها الغرب دعامة للاستقرار في منطقة مضطربة، فينشئ فرعاً له في البلاد.
وختاماً فإن قضايا الانقسام داخل التحالف الحاكم تجعل من مرشح المعارضة باصيرو ديوماي فاي، الذي يعتقد أنه لا يزال في السجن، منافساً كبيراً لمرشح الرئيس ماكي سال. وبالفعل حظي فاي بتأييد زعيم المعارضة البارز المسجون عثمان سونكو، الذي تم حل حزبه في يوليوز 2023. كما أن دعم فاي من قبل العديد من أحزاب المعارضة وحركات المجتمع المدني التي تدعو إلى تغيير الحكومة يجعله يقف عائقاً أساسياً أمام فوز الائتلاف الحاكم. وعلى أية حال ينبغي الآن النظر في إيجاد تسوية سياسية عند اختيار موعد جديد للانتخابات.
ستحتاج كلتا العمليتين إلى النظر في وضع الرئيس عند انتهاء فترة ولايته، وسيسمح ذلك للإدارة بالتركيز على الاستعدادات للتصويت والحملات الانتخابية. وعلى كل حال، فإن التوتر السياسي في السنغال له أسباب عميقة الجذور تتطلب فهماً شاملاً. ومن ثم، من خلال دراسة سياق احتجاجات المعارضة منذ عام 2021، والتحديات الاجتماعية والاقتصادية، وعدم الرضا عن الحكومة، واستياء الشباب، والديناميات الإقليمية، فإن المرء يكتسب نظرة ثاقبة حول الطبيعة المتعددة الأوجه للمسألة السنغالية.
ومن الأهمية بمكان لجميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك الحكومة والمجتمع المدني والمنظمات الدولية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، المشاركة في حوار هادف، ومعالجة المظالم، والعمل على إيجاد حلول مستدامة تعزز السلام والاستقرار والتنمية الاجتماعية والاقتصادية في السنغال. ولعل الدرس السنغالي يتمثل في ضرورة الالتزام بالحدود الدستورية لفترات الولاية الرئاسية، وتعزيز القيم الديمقراطية، مع ضمان الانتقال السلمي للسلطة لتعزيز الاستقرار والمساءلة والحكم الرشيد.