نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب على الدين هلال، تناول فيه تداعيات الحرب الدموية الدائرة فى غزة على مكانة ودور الدول الكبرى فى عام 2024... نعرض من المقال ما يلى:
فى نهاية كل عام، عادة ما يقوم المعلقون باستخلاص أهم أحداث العام السابق واستشراف أحداث العام الذى يوشك أن يبدأ. وهناك صلة مؤكدة بين الأمرين، فالسياسات المتوقعة من أى دولة كبرى فى عام 2024 من الأرجح أن تتأثر بموقفها فى عام 2023، متأثرة فى ذلك بما حققته من مكاسب أو تعرضت له من خسائر. ولا شك فى أن الأحداث التى شهدتها غزة والضفة الغربية من يوم 7 أكتوبر الماضى والهجوم العسكرى الإسرائيلى المدمر على غزة، والاقتحامات العسكرية اليومية لمدن ومخيمات الضفة الغربية، والمواقف التى تبنتها الدول الكبرى؛ سوف تكون عاملا حاسما فى التأثير على مكانة هذه الدول ودورها فى عام 2024. فالحروب عادة ما تؤدى إلى إعادة صياغة العلاقات والأدوار.
وينبنى هذا التحليل على افتراض أن الحرب الدائرة الآن سوف تكون قد انتهت مع الأسابيع الأولى من العام الجديد أو أن تكون حدتها قد انخفضت بشكل محسوس.
إذا بدأنا بالولايات المتحدة الأمريكية، فمن الواضح أن هذه الأحداث أعادتها إلى قلب الصراع فى الشرق الأوسط، وأسقطت أى حديث عن الانسحاب الأمريكى من المنطقة. وظهر ذلك فى الدعم الأمريكى العسكرى والسياسى اللامحدود لإسرائيل، وفى استخدامها المتكرر لـ«الفيتو» فى مجلس الأمن الدولى للحيلولة دون اتخاذ قرار لوقف إطلاق النار. كما ظهر فى دعمها الوساطة المصرية القطرية للوصول إلى هدنة إنسانية مؤقتة، وفى الضغط على إسرائيل لزيادة حجم المعونات الإغاثية المسموح بها وفى إدراج الوقود ضمنها.
ومن الأرجح، أن تسعى الولايات المتحدة إلى الاستمرار فى اتباع دبلوماسية نشطة فى الشرق الأوسط عام 2024، تسعى بها إلى تحسين صورتها فى المنطقة، وذلك بإحياء مسار تسوية الصراع الإسرائيلى الفلسطينى. وإن كان من الضرورى التذكير بأن التعهد الأمريكى بإقامة الدولة الفلسطينية، لا يعنى بالضرورة أن فهمها لهذا الحل يتفق مع الفهم العربى لهذه الدولة.
إن مهمة الدبلوماسية الأمريكية فى 2024 هى ترميم العلاقات، ليس فقط مع الدول العربية، ولكن أيضا مع تركيا، التى انتقد رئيسها رجب طيب أردوغان الولايات المتحدة لأنها أعطت إسرائيل «شيكا على بياض»، وأدان تل أبيب بعبارات نارية، متعهدا بالعمل على محاكمة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، دوليا على «جرائم الحرب التى ارتكبها».
وسوف تستمر واشنطن فى اتصالاتها والحفاظ على مصالحها مع شركائها من الدول العربية حتى عندما يحدث اختلاف فى وجهات النظر معهم، وحتى مع ذات العلاقات الاستراتيجية القوية لدول مثل الجزائر مع روسيا.
يرتبط موقف الاتحاد الأوروبى بنظيره الأمريكى. فقد تقلصت مساحة الاستقلالية التى تمتع بها فى وقت سابق إلى درجة كبيرة، وإن كانت لم تنتهِ تماما. فظهرت، مثلا، فى تصويت فرنسا وإسبانيا والبرتغال والنرويج فى الموافقة على مشروع القرار العربى فى الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 27 أكتوبر الماضى. كذلك، فى تصويت فرنسا لصالح مشروع القرار الإماراتى فى مجلس الأمن يوم 8 ديسمبر، بالرغم من اعتراض الولايات المتحدة على القرارين. وتكرر ذلك فى تصويت الدول الأوروبية على قرار الجمعية العامة فى 12 ديسمبر.
ومن الأرجح أن يستمر الاتحاد الأوروبى فى دعمه لإسرائيل لتصفية حركة حماس وفى فرض عقوبات على المستوطنين المتورطين فى أعمال عنف ضد الفلسطينيين، وفى دوره كأكبر ممول لموازنة السلطة الفلسطينية فى رام الله والتى بلغت 294 مليون يورو فى عام 2022، وربما يزداد إذا ما تم تأهيل السلطة الوطنية وتطوير مؤسساتها للقيام بدور فى إدارة غزة.
انتهزت روسيا والصين مرحلة عدم الاكتراث الأمريكى بمنطقة الشرق الأوسط وأطروحة تحولها إلى آسيا، وخصوصا خلال الولاية الثانية للرئيس الأسبق، باراك لأوباما، لتعزيز مواقعهما والتوسع فى نفوذيهما فيها، واتبع البلدان سياسة براجماتية تقوم فى علاقتها بالدول الأخرى على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
وأبرمت روسيا العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية مع دول المنطقة، ونجحت فى توثيق علاقاتها معها وتجاوز العقوبات الغربية على موسكو. واستفادت روسيا من اندلاع حرب غزة، فقد أدت إلى صرف انتباه العالم عن الحرب فى أوكرانيا، وتعطيل المساعدات الأمريكية إلى كييف، وإتاحة الفرصة لتوجيه انتقادات لاذعة للولايات المتحدة التى وصفها الرئيس فلاديمير بوتين بـ«بيت العنكبوت» الذى امتدت أطرافه إلى كل شبر من أقاليم العالم مهددا السلم والأمن الدوليين.
ومن الأرجح أن تستثمر موسكو صورتها الإيجابية لدى الرأى العام فى دول المنطقة نتيجة إدانتها للعدوان الإسرائيلى على غزة، والدعوة لوقف إطلاق النار؛ وذلك من أجل تكريس دورها فى المنطقة. وسوف تستمر فى تطوير تعاونها مع دول الخليج فى إطار مجموعة «أوبك ــ بلس»، وبيع الأسلحة ونقل التكنولوجيا المتقدمة لدول المنطقة والتى لا تسمح الولايات المتحدة ببيعها لها، وطرح نفسها كلاعب فاعل فى معادلة السياسة الدولية فى الشرق الأوسط.
وسوف يتوقف ذلك على رؤية موسكو لحل الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وقدرتها على استخدام أوراقها مع الإسرائيليين والفلسطينيين، وخصوصا حماس التى حافظت على علاقاتها معها واستقبلت وفدا منها فى موسكو يوم 26 أكتوبر الماضى، وأن تقترح مسارا للتسوية يتوافق عليه الطرفان المباشران للصراع والأطراف الإقليمية المؤثرة. وعلى الرغم من أن روسيا تحتفظ بعلاقات عمل منتظمة وتنسيق مع إسرائيل فى سوريا، فإن العلاقات بينهما توترت بسبب الدعم السياسى الإسرائيلى لأوكرانيا، والدعم الروسى للموقف الفلسطينى.
تبدو الصين أيضا مستفيدة مما حدث، فقد أدت حرب غزة إلى انشغال الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، إلى جانب الحرب فى أوكرانيا، على حساب اهتمامها بموضوع تايوان، وأيضا على حساب إدارتها للصراع مع الصين فى منطقة الإندو ــ باسيفيك. كما أن حرب غزة عطلت مؤقتا تنفيذ مشروع الممر الاقتصادى الذى يربط بين الهند ــ عدوتها التقليدية ــ وإسرائيل، عبر السعودية والإمارات والأردن، ويمثل منافسا لمشروع «الحزام والطريق».
وتبنت الصين، فى البداية، سياسة حذرة ومتوازنة، ولكن مع تصاعد الأحداث أدانت العدوان الإسرائيلى على غزة، وانتقدت الموقف الغربى المؤيد لتل أبيب. وظهر الموقف الصينى فى التصويت فى مجلس الأمن لصالح مشروعات القرارات التى دعت إلى الوقف الفورى لإطلاق النار، وفى استخدامها حق «الفيتو» ــ مع روسيا ــ لوقف قرار أمريكى فى مجلس الأمن أدان حماس ولم يطالب بوقف إطلاق النار.
وتتمتع بكين بعلاقات طيبة مع الأطراف المباشرة للأزمة والأطراف العربية المؤثرة، كما تحتفظ بعلاقات وثيقة مع موسكو وطهران وأنقرة. وفى مارس الماضى، حققت الصين انتصارا دبلوماسيا بنجاح وساطتها بين السعودية وإيران، والاتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما. وفى إطار مبادرة الأمن العالمى، تطرح الصين نفسها كوسيط لحل النزاعات الإقليمية، فدعت فى عام 2023 الرئيس الفلسطينى، محمود عباس، لزيارتها وكان من المقرر أنه يتبعه نتنياهو فى نهاية أكتوبر الماضى، وهو ما لم يتحقق نتيجة نشوب الحرب فى غزة.
فهل من المتصور أن تسعى الصين لإحياء هذه المحاولة فى عام 2024؟ أم أن توتر العلاقات مع إسرائيل يضعف من هذا الاحتمال؟ سوف تستمر الصين فى سياسة عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، والتركيز على تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية مع دول المنطقة، وألا تؤدى الصراعات بين دول المنطقة إلى تهديد مصالحها الاقتصادية، خاصة وأنها الشريك التجارى الأول لكثير من الدول العربية واعتمادها فى استيراد النفط على الدول العربية وإيران.
ختاما، لا تغير الدول الكبرى سياساتها بين عام وآخر فجأة أو بدون مقدمات، وإنما تسعى للتعامل والتكيف مع الظروف المتغيرة والاستفادة منها. وسياسات هذه الدول فى عام 2024، سوف تكون نتاج تقييم ما حققته، مكسبا أو خسارة، فى العام السابق. وكما يشير هذا التحليل، فإن روسيا والصين فى موقف يسمح لهما بتطوير أدوارهما وتوسيع نفوذيهما فى المنطقة. أما الولايات المتحدة، فسوف تبذل قصارى جهدها لمنع موسكو وبكين من تحقيق هذا الهدف. وتظل واشنطن هى اللاعب الرئيسى فى المنطقة، وسوف تسعى لتعويض ما أصاب صورتها واستعادة مكانتها مرة أخرى.