أحدثت موجة الانقلابات العسكرية في غرب إفريقيا منذ عام 2020 والمطالبة بانسحاب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من المنطقة، تحولاً دراماتيكياً في مقاربات حفظ السلام الدولية. ومن الواضح أن عصر بعثات حفظ السلام الكبيرة والمعقدة التابعة للأمم المتحدة في إفريقيا ربما يقترب من نهايته. في واقع الأمر قامت هذه البعثات بدور محوري في إفريقيا منذ أواخر التسعينيات، حيث ساعدت على إنهاء الحروب الأهلية، ودعم عمليات السلام، وتحقيق الاستقرار في المناطق التي مزقتها الصراعات والحروب الأهلية على مدى ستة عقود. ومع وجود أكثر من 13 بعثة تقودها الأمم المتحدة في إفريقيا ونحو 27 عملية لدعم السلام بقيادة إفريقية منذ عام 2000، فإن هذه المساعي تأتي بتكلفة كبيرة، سواءً على مستوى الموارد المالية أم الخسائر البشرية في صفوف قوات حفظ السلام. ومع ذلك، فإن التحديات التي واجهتها، بما في ذلك معضلة حماية المدنيين، وتراجع النفوذ السياسي للأمم المتحدة، وتشكك الحكومات المضيفة، أدت إلى تزايد الشكوك حول فعاليتها.
ورغم أن هذه البعثات لم تلب دائماً توقعات البلدان المضيفة بشكل كامل، فإنها كانت فعالة في منع انهيار الدولة، وخاصة في مناطق مثل الصومال، ومالي، وجمهورية الكونغو الديمقراطية. ومع ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تفي بعثات حفظ السلام هذه حقاً بولاياتها؟
انسحاب وتحديات:
تشير بعض الدراسات الكمية مثل دراسة ليز هوارد، إلى أن قوات حفظ السلام تؤدي إلى تقليل أعداد الضحايا المدنيين، في حين أن وجود المزيد من هذه القوات، ولاسيما الأكثر تنوعاً منها، يفضي إلى وجود عدد أقل من الوفيات بين كل من المدنيين والعسكريين على السواء. ومن جهة أخرى تساعد قوات حفظ السلام على احتواء العنف وتساعد على الحفاظ على السلام. وبمجرد انتهاء العنف، فإنها تساعد أيضاً على بناء مؤسسات أفضل في مرحلة ما بعد الصراع وتزيد من نشاط المجتمع المدني. وأخيراً، وجدت هوارد، أنه منذ نهاية الحرب الباردة، حققت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة معدل نجاح يبلغ الثلثين في إكمال المهام المعقدة والخروج بنجاح (اكتمال 11 من إجمالي 16 مهمة).
في مالي، أدى استمرار انعدام الأمن، ومطالب قادة المجلس العسكري الحاكم منذ 2020 إلى انسحاب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وفي شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، وعلى الرغم من وجود بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار منذ أكثر من عقدين من الزمن، فإن العنف مستمر، مما أدى إلى ظهور دعوات للانسحاب. كما واجهت بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال "أتميس" مصيراً مشابهاً بسبب مشكلات التمويل والجمود السياسي. لقد كانت الدعوات للانسحاب من هذه البلدان مدفوعة بتفاعل معقد بين الضغوط السياسية المحلية والدولية، والتوقعات الأمنية التي لم يتم تحقيقها، وتأخر التمويل من قبل الجهات المانحة. وهذا لا يتحدى مفهوم حفظ السلام في إفريقيا فحسب، بل يثير أيضاً تساؤلات حول فعالية هيكل حفظ السلام العالمي وإدارة التصورات العامة فيما يتعلق بدورها.
ومن جهة أخرى تثير العواقب المترتبة على انسحاب قوات حفظ السلام تساؤلات مهمة حول مستقبل إدارة الأمن في إفريقيا. فهل تمتلك القارة القدرة على ملء الفراغ الأمني الحتمي؟
فجوة أمنية:
تشير التطورات الأخيرة في الصومال ومالي وجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى أن سحب قوات حفظ السلام قد يؤدي إلى فجوة أمنية كبيرة، مما يؤدي إلى زيادة العنف وتدهور الأوضاع الإنسانية. وكانت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي "مينوسما"، والتي تم نشرها لأول مرة في عام 2013 بعد أن صدت فرنسا محاولة الجماعات الإرهابية العنيفة للسيطرة على مالي، تعاني دائماً من مشكلات. إذ فقدت العشرات من قوات حفظ السلام في هجمات المتمردين، وكافحت من أجل حماية المدنيين، واختلفت مع الحكومات المتعاقبة في باماكو بشأن حقوق الإنسان والإصلاحات السياسية. وشهدت البلاد انقلابين في عام 2021، ودعا المجلس العسكري مجموعة "فاغنر" الروسية لنشر قوات للعمل مع الجيش. ولكن في حين واجهت البعثة المتكاملة تحديات عميقة، واجهت البعثات الكبيرة الأخرى ذات الخوذات الزرقاء مشكلات مماثلة، سواءً على مستوى منع العنف أم الحفاظ على علاقات على المستوى العملياتي مع الحكومات المضيفة.
ومنذ أن بدأ انسحاب بعثة "مينوسما" من مالي، تفاقمت حالة انعدام الأمن في المنطقة. وقد تجدد الصراع بين المسلحين والجيش الوطني، وتصاعدت هجمات المسلحين. ومن المحتمل أن يتراجع الوضع الأمني الهش في مالي إلى مستويات عام 2012 عندما حاول الجهاديون الاستيلاء على المدن الرئيسية. كما تتزايد الاشتباكات العنيفة أيضاً في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، إذ فقد أكثر من 600 شخص حياتهم في هجمات شنتها الجماعات المسلحة بين إبريل ويونيو 2023. وحتى مع وجود بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية ولواء التدخل التابع لقوة الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي، فإن الانتشار العسكري يُعد غير كافٍ.
وفي الصومال، كثفت حركة الشباب حملتها الإرهابية ضد المدنيين والقوات الحكومية وقوات حفظ السلام بعد انسحاب قوة "أتميس" في يونيو 2023. وتؤكد هذه التطورات ضرورة توخي الحذر في الدعوات الموجهة إلى قوات حفظ السلام للمغادرة. إذ إن هناك حاجة ملحة إلى بدائل قوية لملء الفراغ الأمني الناجم عن ذلك. ومع ذلك، فإن الجهود الوطنية والإقليمية لم تعالج بشكل كافٍ التهديدات الناشئة عن انسحاب قوات حفظ السلام.
نهج إقليمي:
ولمواجهة هذه التحديات، من الضروري اتباع نهج متعدد الأوجه. أولاً، يتعين على الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي أن ينخرطا في حوار يعترف باحتياج إفريقيا إلى زيادة القدرة على سد الثغرات الأمنية في أعقاب انسحاب قوات حفظ السلام. ولا ينبغي للدعوات المطالبة بمغادرة قوات حفظ السلام أن تؤدي إلى فك الارتباط الدولي، بل ينبغي بدلاً من ذلك أن تشجع الأساليب القارية والإقليمية المبتكرة. هناك حاجة ملحة إلى إصدار قرار إطاري من مجلس الأمن لتوجيه تمويل الأمم المتحدة لعمليات دعم السلام التي يقوم بها الاتحاد الإفريقي من خلال الاشتراكات الإلزامية المقررة للأمم المتحدة. فقد اعتمد الاتحاد الإفريقي منذ إنشاء "هيكل السلام والأمن الإفريقي" في عام 2002، في تمويل عمليات السلام التي يقرها إلى حد كبير على شركاء من خارج القارة مثل الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك ثمة تحفظات تتعلق بنوع العمليات التي يمكن تمويلها، هل هي حفظ السلام فقط أو بعثات مكافحة الإرهاب، على سبيل المثال؟ بالإضافة إلى مسألة المسؤولية الجنائية في حالة إساءة استخدام هذه البعثات لولايتها.
ثانياً، يجب أن تحظى المناقشات المفتوحة بين الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي بالأولوية، بحيث لا تشمل تمويل بعثات السلام فحسب، بل أيضاً إعادة النظر فيها للتخفيف من حدة المقاربات العسكرية التي تعتمد على القوة الصلبة في حفظ السلام. ويتعين على القوة الاحتياطية الإفريقية -التي يعطلها غياب الإرادة السياسية- أن تكون مستعدة لملء الفراغ الأمني، كما يتعين على المجتمع الدولي أن يدعم بقوة هذا التحول. وفي مشهد أمني سريع التطور، من الضروري تكييف وتطوير استراتيجيات فعالة لتحقيق السلام الدائم في إفريقيا.
ختاماً، يوجد مستقبل حفظ السلام في إفريقيا عند مفترق طرق، متأثراً بالقيود المالية، والديناميكيات الدولية المتطورة، والتحديات التي تواجه فعالية بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام في المنطقة. ومن المتوقع أن يشهد المستقبل القريب استمرار الاستخدام المتواضع لعمليات السلام الأممية، مع التركيز على المهام التقليدية التي تنطوي على أهداف محدودة، مثل التدخل ومراقبة وقف إطلاق النار. وستظل البعثات السياسية الخاصة تحظى بشعبية كبيرة بسبب فعاليتها من حيث التكلفة. ومن المرجح أن يعكس المشهد المتطور لحفظ السلام في إفريقيا تغيرات أوسع نطاقاً في النظام الدولي، مع تزايد نفوذ القوى غير الغربية مثل روسيا والصين. وسوف تؤدي الوكالة الإفريقية وقدرة المنظمات الإقليمية دوراً حاسماً في تشكيل المستقبل. وينظر إلى تقسيم العمل بين الأمم المتحدة والبعثات التي تقودها إفريقيا باعتباره وسيلة محتملة للمضي قدماً، ولكن لا بد من معالجة القيود المالية والتحديات اللوجستية لجعله حقيقة واقعة. وفي هذه البيئة المتغيرة، ستكون الشراكة بين الأمم المتحدة والجهات الفاعلة الإقليمية الإفريقية حيوية في التصدي بفعالية لتحديات السلام والأمن في القارة. فالتكيف والواقعية أمران أساسيان في تطور حفظ السلام لتلبية احتياجات عالم ديناميكي ومعقد. عندئذ يمكن للأفارقة المساهمة بفعالية في حماية أنفسهم!