في عام 2015 فرت عائلة من دولة كيريباتي (وهي دولة جزيرة تقع في المحيط الهادئ) إلى نيوزيلاندا، جراء الكوارث البيئية المتعلقة بالتغيرات المناخية في الجزيرة، وقامت الأسرة برفع قضية إلى محكمة نيوزيلاندا العليا مطالبة بحق اللجوء، حيث إنها "اضطرت" لمغادرة الوطن بصورة قسرية لأسباب تتعلق بالتغيرات المناخية والتي هددت حياة الأسرة وبقاء السكان الآخرين، إلا أن القضية بعد المداولات والجدال انتهت برفض الدعوى، ولم تمتد الحماية القانونية أو الحقوق التي تكفلها حالة اللجوء لتلك الأسرة.
وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، منذ عام 2010، يضطر حوالي 21.5 مليون فرد سنوياً إلى مغادرة المناطق التي يعيشون فيها بسبب الكوارث المتعلقة بالتغيرات المناخية، سواء الفيضانات أو الارتفاع الكبير في درجات الحرارة، أو العواصف وغيرها من الظواهر المتعلقة بالتغيرات المناخية. ومن المتوقع أن يشهد هذا الرقم ارتفاعاً كبيراً خلال العقود القادمة، حيث تقدر بعض المراكز البحثية المتخصصة أن يصل عدد النازحين بفعل المناخ إلى 1.2 مليار فرد بحلول 2050.
وفي نهاية عام 2018 قدر البنك الدولي أن ثلاثة أقاليم أساسية؛ أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء، سوف تولد 143 مليون مهاجر بسبب المناخ بحلول 2050.
وفي عام 2020 سجل مرصد النزوح الداخلي الدولي، 40 مليون حالة نزوح جديدة، وهو أعلى رقم تم تسجيله منذ عشر سنوات، حيث تسببت الكوارث المناخية في حالات نزوح تفوق ثلاثة أضعاف النزوح الناجم عن الصراع والعنف، كما وصل عدد النازحين بسبب الكوارث المناخية من الإجمالي لحوالي 30 مليون فرد.
مهاجرون وليسوا لاجئين؟
ظهر الحديث عن "لاجئي المناخ" لأول مرة عام 1985 في أحد نقاشات برنامج الأمم المتحدة البيئي، وكان ذلك بمبادرة من رئيس البرنامج حينها، حيث تم تعريف لاجئي البيئة أو المناخ بكونهم الأفراد الذي اضطروا لمغادرة أوطانهم الاعتيادية بصورة مؤقتة أو دائمة بفعل اضطراب بيئي مؤثر. وعلى الرغم من زيادة أعداد المتضررين من الأزمات والكوارث المتصاعدة بفعل التغيرات المناخية خاصة في السنوات الأخيرة، فإن المفهوم ما زال محل جدال وخلاف.
وإلى الآن، ترفض الأمم المتحدة اعتماد مفهوم اللاجئين تلك الفئة من النازحين، وفي المقابل تصر على استخدام مصطلح "مهاجري المناخ" أو مهاجري البيئة “Climate Migrants”. وعلى الرغم من محاولات الحركات المناخية وجماعات الضغط ومؤسسات المجتمع المدني الدفع في اتجاه تضمين النازحين بفعل المناخ داخل مظلة اللاجئين، فإن الأمم المتحدة لم تحرك ساكناً بهذا الشأن. فـ"اللاجئون" هو مصطلح قانوني بالأساس، يمتد لحماية الفئات التي لديها خوف مبرر من التعرض للاضطهاد لأسباب تتعلق بالعرق أو الدين أو الجنسية أو الانتماء إلى فئة اجتماعية معينة أو رأس سياسي" وذلك وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة للاجئين لعام 1951. ولم يتم تعديل الأسباب التي نصت عليها الاتفاقية لتشمل المناخ وتداعياته.
ويرجع ذلك، لعدة أسباب أهمها افتقاد الأمم المتحدة القدرات اللازمة لتغطية احتياجات هؤلاء اللاجئين المحتملين، خاصة مع سرعة وتيرة زيادتهم. فضلاً عن التحديات التي تواجهها المفوضية للاستجابة للاجئين الحاليين الموجودين تحت مظلتها بالفعل. وعلى الجانب الآخر، لا تلقى المسألة ترحيباً دولياً في ظل صعود الحركات المعادية للاجئين بعدة دول أوروبية، وتوجهات بعض القادة نحو اللاجئين على غرار الرئيس الأمريكي السابق، ترامب.
على الجانب الآخر، لا يوجد اتفاق على الفئة الأكثر استحقاقاً للجوء، حيث تنادي المحاولات الحديثة لتعريف لاجئي المناخ بتضمين الأفراد الذين يواجهون التأثيرات بعيدة المدى أيضاً لتغير المناخ، فهي أيضاً تضطرهم لترك أوطانهم، بحيث يقتصر المفهوم على الأفراد المضطرين لمغادرة أوطانهم بفعل الكوارث الطارئة، مثل الفيضانات والأعاصير، بل أيضاً الأفراد الذين يعانون الآثار البطيئة لتغير المناخ، مثل الجفاف، وارتفاع منسوب المياه، وتحمض المحيطات وتحولات أنماط الأمطار.
في المقابل، يعرف مفهوم "هجرة المناخ"، وفقاً لمنظمة الهجرة الدولية، بكونه، حركة فرد أو مجموعة أفراد اضطروا، أو اختاروا مغادرة أماكن سكنهم المعتادة، بسبب تغيرات مفاجئة أو تدريجية في البيئة راجعة لتغير المناخ، سواء كان ذلك بصورة مؤقتة أو دائمة، وسواء داخل الدولة نفسها أو خارج حدودها . في هذا الإطار، يعتبر مفهوم "مهاجري المناخ" مصطلح وصفي وليس قانوني، لا تترتب عليه أية أبعاد قانونية، أو حقوق أو حماية.
في كل الأحوال، لم يمنع الجدال بشأن المفهوم تدفقات النزوح بسبب التغيرات المناخية، وقد تجبر أعداد المهاجرين المرتفعة المجتمع الدولي إما لإعادة تعريف اللاجئين ليتضمن الأسباب المناخية، أو وضع أطر تنظيمية جديدة.
ما قبل الفوضى:
دفعت تداعيات التغيرات المناخية إلى حالة غير مسبوقة من التحركات السكانية في عدد كبير من المناطق حول العالم، وهي حالة مستمرة، وفي تزايد متواصل، وسوف تشكل الهجرة المناخية ملامح ديموجرافية جديدة في عدة دول. ففي ظل سيناريو ارتفاع درجة الحرارة ٢ درجة مئوية، سوف يشعر 37٪ من سكان العالم بالحر الشديد، وبحلول 2050 سوف يعاني 350 مليون فرد حول العالم من ارتفاع في الحرارة لا يمكن تحمله أو النجاة منه. وتحدد السيناريوهات المختلفة أرقام الهجرة المتوقعة من 44 مليوناً إلى 216 مليوناً بحلول 2050. فسوف تتحمل المدن بحلول 2050، 2.5 مليار شخص إضافي، 90٪ من هذه الزيادة تتركز في أفريقيا وآسيا. فعلى سبيل المثال، يتوقع أن ينزح من منطقة الساحل الأفريقي فقط من 18 إلى 86 مليون فرد بحلول 2050. وذلك وفقاً لتقرير صادر عن منظمة الهجرة التابعة للأمم المتحدة. في هذا الإطار، تتصاعد المخاوف من التحركات العشوائية، حتى أن بعض التوقعات الأكثر تشاؤماً تطالب العالم بالاستعداد لسيناريو "الفوضى العظمى"، إذا أخفق المجتمع الدولي في إدارة الهجرة المناخية، وذلك بالنظر إلى الأبعاد التالية:
1- احتمالات تحول نمط النزوح: إلى الآن، ما زالت غالبية مهاجري المناخ، تنزح داخل حدود دولهم. غالباً ما يفرون من المناطق الريفية والساحلية إلى المدن، بعد تعرضهم للكوارث المناخية، مثلما شاهدنا في حالة باكستان خلال شهري أغسطس وسبتمبر من هذا العام، حيث تسببت الفيضانات في نزوح 33 مليون فرد إلى مناطق أخرى داخل الدولة. وفي إطار ما تعانيه المدن ذاتها من مشاكل أخرى مرتبطة أيضاً بالتغيرات البيئية مثل ارتفاع درجات الحرارة، أو شح المياه في عدة دول، لن يقتصر نمط النزوح على الداخل، بل يتوقع أن يمتد للخارج، مشكلاً موجات من الهجرة والتحركات السكانية الكثيفة محلياً ودولياً، بحثاً عن ملاجئ أكثر أماناً وظروف معيشية مستقرة وآمنة.
وما يضاعف من وتيرة الهجرة المناخية، الزيادة السكانية التي يشهدها العالم، حيث يتوقع أن يصل عدد سكان العالم بحلول 2060 إلى 10 مليارات نسمة، غالبيتهم يتركز في المناطق الاستوائية التي تشهد أقصى تغيرات المناخ، وهو ما سيدفع الأفراد إلى الانتقال نحو الشمال في الغالب.
2- عدم الالتفات للنازحين جراء "التغيرات البطيئة": فالجهود الدولية تأخذ في الغالب شكل "إغاثة" الفارين من الكوارث البيئية باعتبارهم الفئة الأكثر وضوحاً وارتباطها بالمناخ. مثل الفارين من الفيضانات أو الأعاصير أو الحرائق. بينما يتم إغفال الآخرين الذين تركوا أراضيهم لتداعيات المناخ البطيئة مثل الجفاف، والتصحر ...، ولا يتم الالتفات لهم بالسهولة نفسها مثل الآخرين. ولا تتلقى هذه الفئة دعماً أو مساعدات تعينها على تحمل تكلفة إعادة الاستقرار في مجتمعات بديلة، وبالتالي تكون أكثر عرضة للاستغلال من قبل الجماعات المسلحة والعصابات كما هي الحال في عدة دول في أمريكا اللاتينية، حيث يترك المتضررون من الآثار البطيئة أراضيهم في حالة من الفقر والهشاشة، ولا يتم إدراجهم في أي من برامج الحماية التي تقدم للنازحين بفعل الكوارث المفاجئة. وتلتقطهم العصابات الإجرامية والجماعات المسلحة.
3- التغيرات المناخية تحفز الصراعات: تتصاعد أعداد الفارين من العنف المسلح الناتج عن عدم الاستقرار وسيطرة الجماعات المتطرفة والعصابات. ومن الصعب حالياً الفصل بين العوامل الجذرية للجوء وتداعيات التغير المناخي، حتى وإن كان النازحون بفعل الكوارث لا يدرجون مباشرة تحت مظلة اللجوء. فوفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 90٪ من اللاجئين الحاليين الواقعين تحت حمايتها القانونية، قادمون من دول "الخطوط الأمامية لحالة الطوارئ المناخية" (on the front lines of the climate emergency).
وعلى الجانب الآخر، تزيد الشواهد على وجود ارتباط قوي بين التغيرات المناخية والهجرة والصراعات. ويبدو ذلك بوضوح في السياق الأفريقي، وأيضاً أشارت بعض التحليلات إلى ارتباط النزوح الداخلي في سوريا بالتوترات التي أدت إلى أحداث 2011 وما تلاها. فارتفاع موجات الهجرة من المناطق الريفية إلى المدن بفعل التغيرات البيئية للأراضي الزراعية، واختلال الظروف المعيشية للسكان بتلك المناطق، أدى إلى الضغط على المدن بصورة غير مسبوقة من جانب، وخلق حالة من عدم الاستقرار جعلت الظروف مواتية لاندلاع الاضطرابات والنزاعات المسلحة.
4- التجاهل الدولي لـ"المحاصرين": على الجانب الآخر، لازال العديد من الأفراد غير قادرين على الهجرة. حيث لا تعد الهجرة خياراً يسيراً على الجميع، بل تحتاج لبعض القدرات الاقتصادية وشبكات معارف وغيرها.. ففي مقابل الهجرة، ستشهد بعض المناطق "جموداً" سكانياً لبعض الفئات، وهم غالباً الأكثر فقراً. في هذا الإطار، تجدر الإشارة أيضاً إلى مفهوم مهم، لا تتم الإشارة له كثيراً، وهو السكان المحاصرون (Trapped populations) والذي يشير إلى السكان الذين لم يهاجروا، ولكنهم موجودون في المناطق الخطرة تحت تهديد تحولهم لمحاصرين أو أن يعيشوا خلف الركاب، ويكونوا أكثر عرضة للصدمات البيئية والفقر.
مداخل المعالجة:
تزايد أعداد المهاجرين بفعل تداعيات تغير المناخ ليست قضية مستقبلية تحتمل الجدل بشأنها، بل واقعية وفي تزايد مستمر، كما تظهر الأرقام، بل أنها ظاهرة فرضت نفسها على أجندة حوارات مؤتمرات المناخ المتعاقبة منذ 2016 أو ما قبل ذلك، ولذلك فالخطاب الدولي بشأن هذه المسألة يجب أن يركز على "إدارة الهجرة المناخية" وليس على "منعها".
فالجهود الدولية تحاول التعامل مع الجذور، مثل دعم المجتمعات الهشة وغير ذلك والتي تستهدف التعامل غير المباشر مع هجرة المناخ. في محاولة ضمنية لوقف موجات الهجرة، بينما لا توجد سياسات وأهداف واضحة للتعامل المباشر مع قضية الهجرة المناخية وإدارتها، سواء على مستوى النزوح الداخلي، أو الدولي. وحتى الآن، لا توجد مظلة دولية للتعامل مع مهاجري المناخ، حتى الإطار القانوني الذي نشرته مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في أكتوبر 2020 يراه البعض أنه يفتح الباب للنظر في حالة المهاجرين بفعل المناخ، حيث أشار الدليل إلى أن التغيرات المناخية يجب أخذها في الاعتبار في بعض السيناريوهات عندما ترتبط بالعنف، غير أن هذا لم يمتد إلى تعديل اتفاقية 1951. في المقابل، لا يمكن إنكار بعض التحركات الفردية والإقليمية للتعامل مع الهجرة المناخية فعلى سبيل المثال تدرس فنلندا قبول اللاجئين على أساس التغيرات المناخية. وفيما يلي بعض النماذج لتحركات بعض الدول:
1- رفع الاستعداد المحلي: اتخذت بعض الدول آليات غير مباشرة للتعامل مع المهاجرين المحتملين، أو فئة المحاصرين، ومنها بنجلاديش، والتي تعد من الدول الأكثر عرضة لمخاطر تغير المناخ، حيث تقوم الآن بجهود كبيرة في تحديد خريطة "المدن المقاومة للمناخ" (climate-resilient towns)، حيث يمكن للنازحين بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر وتآكل الأنهار والعواصف الإعصارية، الانتقال إلى العمل فيها، وفي المقابل مساعدة مواقعهم الجديدة اقتصادياً.
2- حلول إقليمية: على الجانب الآخر اتخذت بعض الدول مبادرات إقليمية لمساعدة النازحين بفعل المناخ، فعلى سبيل المثال، استحدثت الارجنتين تأشيرة دخول استثنائية تحت مسمى "التأشيرة الإنسانية" والتي تسمح بدخول النازحين من المكسيك وأمريكا الوسطى، والكريبي جراء الكوارث الطبيعية، والبقاء لمدة ٣ سنوات. كما وضعت أستراليا مقترحاً سيسهل على سكان جزر المحيط الهادئ - الأكثر عرضة لتغير المناخ - الذهاب إليها للعمل الموسمي.
ختاماً، في إطار أن الهجرة المناخية ستشكل العادي الجديد في السنوات القادمة، بدأ ظهور أصوات تنادي بالبدء في تغيير اتجاهات الأفراد لتبني مشاعر مرنة نحو الانتماء إلى الأرض، بحيث يكونوا أكثر تقبلا للتحرك وترك مناطقهم التي اعتادوا عليها، والانفتاح على أفكار غير تقليدية من قبيل الاندماج في مجتمعات متنوعة، والعيش في مدن قطبية جديدة والبدء في تعميرها، بحيث يشهد العالم مرحلة من "العمران الجديد"، وهي المسألة التي تحتاج مزيد من النقاشات حولها، وقد تكون موضوعا لمؤتمرات المناخ القادمة.