عرض: منى أسامة
منذ بداية القرن الواحد والعشرين، اهتمت روسيا بإظهار قوتها العسكرية عن طريق المناورات والتدريبات العسكرية، علاوةً على استخدام القوة القسرية أكثر من مرة داخل بعض الدول المجاورة مثل أوكرانيا وجورجيا وكازاخستان وغيرها، بالإضافة إلى قيامها أحياناً باعتراض تدريبات الولايات المتحدة وحلف الناتو على مقربة من حدودها، وعادةً ما تكون هذه الأنشطة العسكرية الروسية محدودة، باستثناء الحرب الأوكرانية الأخيرة في عام 2022، حتى وإن تسببت في مخاطر تصعيدية.
بناءً عليه، أصدر مركز راند الدولي لسياسات الأمن والدفاع مؤخراً تقريراً بعنوان "فهم الإشارات الروسية القسرية" لمجموعة مؤلفين عملوا على تحليل الأنشطة العسكرية الروسية على مدار السنوات الأخيرة لتوفير فهم أفضل لدوافع سلوك موسكو والمبادئ التوجيهية العملية لتقييم الأحداث المستقبلية.
طرح المؤلفون عِدة فرضيات تتعلق بالدوافع الروسية وقاموا بتقييمها اعتماداً على ثلاث وسائل، هي: فحص الكتابة الاستراتيجية الروسية وبيانات القيادة، والاستعانة بالنماذج الكمية (يتضمن التقرير أكثر من 1000 حادث لإشارات قسرية روسية بين عامي 2010 و2018)، ودراسات الحالة النوعية لحوادث محددة والتي تتعلق بالتفاعلات بين القوات الأمريكية والروسية.
ماهية الإشارات القسرية؟
"الإشارات" - وفقاً لتقرير راند - هي البيانات أو الأفعال التي تتبناها الدولة بقصد التأثير على الطرف مستقبِل الإشارة، والذي يقوم بتحليل هذه الإشارات لتحديد النية أو الدافع الخاص بمرسل الإشارة. وعادةً ما يكون الدافع من إرسال الإشارات هو التأكيد على وضع الدولة المرسِلة، ومكانتها المتصورة في النظام الدولي. والجدير بالذكر أن الإشارات قد تكون سلمية مثل، تقديم المساعدات إلى الدول أخرى وإظهار التفوق التكنولوجي كتطوير البرنامج الفضائي للدولة، أو قسرية مثل الأعمال العسكرية المحدودة التي لا ترقى إلى استخدام القوة.
في هذا السياق، يُعرف التقرير "الإشارات القسرية الروسية" بأنها أنشطة عسكرية مرئية بدرجة كافية بحيث يكون التهديد واضحاً للدولة المستهدفة، كالتدريبات العسكرية واسعة النطاق داخل الأراضي الروسية، حتى وإن كانت هذه التدريبات ليست قريبة من أراضي أو قوات الدولة الأخرى، ويستبعد هذا التعريف العدوان أو أي نشاط حركي آخر للقوات العسكرية الهادف إلى إجبار الخصم أو ردعه أو مواجهته عبر التهديد.
تاريخياً، يشير التقرير إلى حدوث العديد من الإشارات الأمريكية والسوفييتية خلال الحرب الباردة مثل، قيام سفن الصيد السوفييتية بجمع المعلومات الاستخباراتية ومراقبة السفن والغواصات والموانئ التابعة للبحرية الأمريكية خلال ستينيات القرن العشرين. ترتب على هذه الإشارات وغيرها، توقيع اتفاقية لمنع الحوادث في أعالي البحار وعبرها (INCSEA) في عام 1972 بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت؛ مما أدى إلى تراجع عدد الحوادث بشكلٍ كبير.
وتدعو الاتفاقية إلى الامتناع عن أي عمليات عدوانية عند العمل على مقربة من بعضهما البعض. وفي عام 1989، وقَّع المفاوضون الأمريكيون والسوفييت على اتفاقية لمنع الأنشطة العسكرية الخطرة (PDMA)، والجدير بالذكر، أن هذه الاتفاقيات لم تضع حداً للحوادث بين الجيوش الأمريكية والسوفييتية أو الروسية، لكنها وضعت معايير مهمة متفقاً عليها للتمييز بين السلوك المقبول وغير المقبول في المواجهات العسكرية بينهما، بناءً عليه، يفترض هذا التقرير أن انتهاك هذه المعايير المتفق عليها بمنزلة إشارة قوية.
ولوحظ منذ العام 2014 أن هناك سلوكاً عسكرياً عدوانياً متصاعداً من قبل الجانب الروسي، فعلى سبيل المثال، أسقط سلاح الجو التركي طائرة روسية من طراز (Su-24) كانت محلقة فوق سوريا في نوفمبر 2015. هذا علاوة على المخاطر التي كانت متوقعة من عدم التنسيق بين القوات الجوية الأمريكية والروسية في المجال الجوي السوري خلال الحرب الأهلية السورية. وفي إطار متصل، أدى فقدان موسكو لمدخل بري إلى موقع كالينينجراد، والذي يضم أسطول البلطيق والعديد من المرافق العسكرية الأخرى، إلى خلق ظروف خاصة في بحر البلطيق تسببت في انتهاكات غير مقصودة للمجال الجوي لمناطق تابعة لحلف الناتو من قبل روسيا، وبناءً عليه، تكون الأنشطة الروسية ليست بالدرجة نفسها أو التهديد أو الدافع.
دوافع استراتيجية روسية:
يفترض التقرير أن الاستراتيجية الروسية التقليدية لا يُمكنها تفسير دوافع موسكو وراء استخدام قواتها العسكرية في إرسال الإشارات، بل أن مصطلح "الإشارات" نفسه هو بالأساس مصطلح غربي، ومع ذلك، هناك بعض المفاهيم ذات الصِلة في الاستراتيجية الروسية الواردة في إصدارات وزارة الدفاع والخبراء العسكريين الروس، والتي تتمثل في:
1) الكبح أو الاحتواء الاستراتيجي، والذي يتضمن مجموعة من الإجراءات القسرية أو غير القسرية الهادفة إلى إجبار الخصم على التحلي بضبط النفس وكبح جماحه عن القيام بأي أعمال قسرية محتملة، علماً بأنها إجراءات مستمرة في السلم والحرب. ومن إجراءات الكبح أو الاحتواء الاستراتيجي التعبئة وإظهار الوجود العسكري والقدرات الروسية، وهو ما يعتبره التقرير "إشارة".
2) الإجراءات الرادعة: تتضمن إظهار التغييرات للخصم في حالة استعداد القوة، أي أنها تتم بشكل علني.
3) الإجراءات التوضيحية: تهدف إلى إبراز الاستعداد العسكري للقوات الروسية، كإجراء التدريبات وغيرها لإثبات القدرات القتالية العالية أو الكشف عن أسلحة جديدة أو قاذفات صواريخ، أو الحفاظ على وجود عسكري أمامي بالقرب من الحدود البرية والبحرية للاتحاد الروسي، ويرى التقرير أن هذه الإجراءات تجمع بين الإجبار والجهود الدبلوماسية، حيث يتم استخدام الجيش من دون عنف مسلح.
4) الإكراه: يشير إلى التعليمات الخاصة باستخدام القوة العسكرية لفرض تغيير فوري على سلوك الخصم، مثل إجبار طائرة معادية على الهبوط أو منع سفينة معادية من اختراق الحدود البحرية للاتحاد الروسي.
استكمالاً للفكر الروسي بشأن الإشارات العسكرية، يصف المسؤولون الروس قواتهم بأنها تتصرف بمهنية وبشكلٍ مناسب رداً على أنشطة الإشارات الاستفزازية أو العدائية التي تقوم بها الولايات المتحدة أو حلف الناتو، إذ تعتبر روسيا أن الرحلات الجوية الأمريكية أو عمليات الملاحة أو رحلات الاستطلاع التابعة لحلف الناتو بالقرب من روسيا "معادية واستفزازية".
من ناحية أخرى، يضع هذا التقرير عِدة فرضيات لدوافع تبني الإشارات القسرية من أجل استخلاص الدوافع الروسية لتبني أنشطة عسكرية محدودة:
1) الرغبة في فرض تغيير على السلوك المستمر للولايات المتحدة أو أحد حلفائها، وتتضمن إجبار الخصم على تغيير سلوك عسكري مستمر، وعرقلة سلوك مستقبلي مشابه للإجراء القائم من الخصم، وبدء أو تحسين الموقف التفاوضي.
2) ردع العدوان المحتمل، أي إثناء الخصم عن فعل لم يفعله بعد.
3) إجبار الخصم على الاعتراف بمكانة روسيا (مرسل الإشارة) في النظام الدولي.
في سياق متصل، يشير التقرير إلى التصرفات غير المهنية أو القرارات التي تتم من قبل المشغلين الروسيين من دون إذن، وذلك نتيجة سوء التدريب أو عدم الإلمام بالإجراءات المتفق عليها. وأيضاً، هناك دوافع أخرى محتملة مثل تحسين القدرات العسكرية الروسية، أو تأجيج المشاعر القومية وتعزيز الشرعية الداخلية عن طريق خلق صراع دائم مع الأعداء الخارجيين، أو إثارة رد عسكري أمريكي لجمع معلومات استخباراتية حول قدرات الولايات المتحدة.
ويرى التقرير أن المفهوم الاستراتيجي الروسي للكبح أو الاحتواء الاستراتيجي أقرب إلى افتراضات منع السلوك المشابه مستقبلاً من قبل الخصم، ومنع السلوك المتوقع، وهو نفسه ما يتعلق بالإجراءات الرادعة، علاوةً على ربط الإجبار بالعمليات الدبلوماسية كما هو في الفرضية الأولى والمتعلقة ببدء أو تحسين الموقف التفاوضي. أما الإكراه فيفترض التقرير أنه يتم لاستخدام الإشارات القسرية كوسيلة لإجبار القوات العسكرية للعدو على تغيير سلوك مستمر.
عرقلة ضغوط الخصم:
إحدى الوسائل التي اعتمد عليها تقرير "راند" هي التحليل الإحصائي لعدة أنواع من الأنشطة الروسية التي قد توصف بأنها إشارات قسرية، مثل اعتراض طائرات أمريكية، ونشاط الطائرات الروسية بالقرب من المجال الجوي للولايات المتحدة أو الحلفاء، والحوادث التي تنطوي على سفن أمريكية أو حليفة وطائرات أو سفن روسية، والتدريبات الروسية في الفترة من 2010 إلى 2018.
ومن نتائج التحليل الإحصائي أن افتراض (عرقلة سلوك مستقبلي محدد مشابه للإجراء الذي تستجيب له) هو الدافع الأكثر اتساقاً مع السلوك الروسي العسكري، إذ تعمل موسكو على ردع السلوك غير المرغوب فيه من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في المستقبل عن طريق زيادة التكاليف وزيادة المخاطر المرتبطة به، ورفع احتمالية وقوع الحوادث التي يمكن أن تؤدي إلى دوامة تصعيدية، وبالمثل هناك دلائل على انخراط روسيا في أنشطة الردع الكلاسيكية، وقد استعرض التقرير الحالات الآتية فيما يتعلق بالإشارات الروسية:
1) تحليق الطائرة المقاتلة الروسية Su-24 على مقربة من السفينة الأمريكية US Donald Cook في أبريل 2014، مما تسبب في تعطيل رادارات السفينة، والتي عجزت عن رصد الطائرة. ويرى التقرير أن الحادثة أكثر اتساقاً مع دافع وفرضية إجبار الولايات المتحدة على عدم إرسال سفن مماثلة إلى تلك المنطقة في المستقبل.
2) تحليق مقاتلتين روسيتين من طراز Su-24 على مقربة من السفينة الأمريكيةDonald أثناء تدريبات السفينة في بحر البلطيق في أبريل 2016، ويرى التقرير أن الحادثة يُمكن فهمها بشكلٍ أفضل من خلال الفرضية الأولى، حيث تضمنت إجبار الولايات المتحدة على إيقاف التدريب.
3) اقتراب السفينة الأمريكية Chancellorsville من المدمرة الروسية Admiral Vinogradov في بحر الصين الشرقي في يونيو 2019، ثم تجنب تصادم وشيك بينهما، وكذلك اقتراب سفينة الاستطلاع الروسية Ivan Khurs من المدمرة الأمريكية Farragut في يناير 2020 في شمال بحر العرب، ثم تجنب تصادم وشيك بينهما أيضاً. ويرى التقرير أن الحادثتيّن متسقتان مع الفرضية الأول، إذ تصرف قباطنة السفن من تلقاء أنفسهم، هذا بالإضافة إلى توافق الإجراءات الروسية في الحالتين مع الفرضية الثالثة، وهي إظهار مكانة روسيا وتأكيد استيائها من المواقف الأمريكية بشكل عام.
4) في أغسطس 2020، أجرت قوات الناتو مناورات جوية تضمنت تحليق قاذفات أمريكية من طراز B-52، ومن جانبها، اعترضت مقاتلات روسية من طراز Su-27 القاذفات الأمريكية مرتين إحداهما فوق البحر الأسود والأخرى فوق بحر البلطيق، ويرى التقرير أن الفرضية الأولى المتمثلة في إجبار الخصم على تغيير سلوك عسكري مستمر توفر أفضل تفسير للسلوك الروسي في حادثة البحر الأسود، إذ اعتبرت روسيا أن مسار الطائرة الأمريكية قريب بشكل غير مقبول من المجال الجوي الروسي، وبالتالي أُمر الطيارون بإجبارها على تغيير مسارها. أما حادثة بحر البلطيق، فأقرب -وفقاً للتقرير- إلى الفرضية الأولى، إذ أرادت روسيا إرسال إشارة إلى الولايات المتحدة بأن رحلات القاذفات إلى بحر البلطيق في المستقبل ستؤدي إلى تصعيد روسي.
أخيراً، أظهر التقرير أن النشاط الروسي عادةً ما يكون ردة فعل وليس استباقياً، أي ترتبط الإشارات الروسية في الغالب بأنشطة معينة للولايات المتحدة وحلفائها، كما يضيف التقرير أن البحرية الروسية منخرطة في إرسال إشارات خارج المحيط المباشر لروسيا، وغالباً ما يكون قرار القباطنة دون إذن. هذا، ويرى التقرير أن الإشارات الروسية في الغالب لا تشكل مخاوف تتعلق بالسلامة.
المصدر:
Samuel Charp, Andrew Stravers, John J. Drennan, and others, Understanding Russian Coercive Signaling, RAND Corporation, 2022.