اقترح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على نظيره التركي رجب طيب أردوغان، تحويل تركيا إلى مركز إقليمي للغاز الطبيعي، وذلك على هامش انعقاد القمة السادسة لمؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا (سيكا)، بجمهورية كازاخستان، في 13 أكتوبر الجاري، مضيفاً أن أنقرة هي الشريك الأكثر موثوقية لتوصيل الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، في ضوء تعذر نقل الغاز باستخدام خطوط نورد ستريم من بحر البلطيق إلى البحر الأسود.
سياقات متزامنة:
يتزامن الإعلان عن المُقترح الروسي بإنشاء مركز لنقل الغاز في تركيا إلى أوروبا مع عدد من التطورات المواتية للأولى، والتي يمكن إبرازها على النحو التالي:
1- تصاعد أزمة الطاقة: تشهد أسواق الطاقة العالمية أزمة كبرى جراء تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، وما فرضته من حظر أوروبي على الإمدادات الروسية، والذي يقضي بتقليص تلك الإمدادات إلى الثلث بنهاية العام الجاري، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز إلى مستويات قياسية، وهو ما دفع بوكالة الطاقة الدولية إلى وصف تلك الأزمة بأنها "غير مسبوقة".
كما كشفت الوكالة، في تقرير لها في 3 أكتوبر الجاري، أن أوروبا ستواجه مخاطر غير مسبوقة لإمدادات الغاز الطبيعي هذا الشتاء بعد أن قطعت روسيا معظم شحنات خطوط الأنابيب، لا سيما بعد توقف شحنات الغاز الروسي عبر خطي أنابيب نورد ستريم 1 و2 بسبب العملية التخريبية التي تعرضا لها، وما قد يزيد من تلك الأزمة قرار تحالف أوبك+ في 5 أكتوبر 2022، بخفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً اعتباراً من نوفمبر المقبل، ما يدفع بمزيد من الضغط على أسعار الطاقة.
2- تحويل تركيا إلى معبر للطاقة: وجه الرئيس التركي، في اليوم التالي للقائه بوتين، وزير الطاقة في بلاده، فاتح دونماز رآه، بالعمل فوراً على تنفيذ المُقترح الروسي ببناء مركز إقليمي في تركيا يقوم بنقل الغاز الروسي إلى أوروبا من دون تأخر.
ويتلاقى هذا المُقترح مع رغبة أردوغان في تحقيق حلمه بتحويل تركيا إلى دولة عبور للطاقة إلى أوروبا، وقد سعى في السابق، إلى إقناع الجانب الإسرائيلي لاعتماد مشروع لنقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا وليس اليونان، لاسيما بعد تراجع الدعم الأمريكي لمشروع "إيست ميد"، والذي كان يهدف لنقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى أوروبا عبر قبرص واليونان، من دون المرور بتركيا، غير أن إخفاق أنقرة في هذا المسعى، حتى الآن، سوف يجعل أنقرة تدعم فكرة أن تتحول إلى مركز لنقل الغاز الروسي.
3- رفض أوروبي مبدئي: واجه المقترح الروسي اعتراضاً أوروبياً واسعاً، إذ صرّحت الرئاسة الفرنسية، في بيان لها، في 14 أكتوبر، أن المُقترح "لا معنى له"، مُضيفة "أن الاتحاد الأوروبي لن يكون أحد مستوردي الغاز الروسي عبر تركيا إن نفذ هذا المشروع". ويأتي في هذا السياق، إعلان وزراء الطاقة الأوروبيين، قبل إعلان الرئاسة الفرنسية بيوم واحد، اتخاذهم خطوات لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وهو ما يمثل تحدياً أساسياً أمام إمكانية تنفيذ المشروع.
دلالات متشابكة:
يُشير اتجاه موسكو لتحويل تركيا إلى مركز عالمي لنقل الغاز إلى أوروبا العديد من الدلالات، والتي يظهر أبرزها فيما يلي:
1- استثمار تركي: يحمل المقترح الروسي، في حال انتقاله إلى الحيز العملي، انعكاسات إيجابية على تركيا، والتي تستورد أكثر من 70% من احتياجاتها من الطاقة عموماً، وترتفع تلك النسبة إلى 99% بالنسبة للغاز الطبيعي، إذ يمنح تنفيذ هذا المقترح مزايا تفضيلية لتركيا في أسعار الغاز، فضلاً عن الاستفادة من عوائد نقل الغاز لأوروبا.
فقد أكد وزير الخزانة والمالية التركي، نور الدين نبطي، في 25 أكتوبر 2022، أن أنقرة تضغط بشدة من أجل الحصول على خصم على كمية الغاز الكبيرة التي تشتريها من موسكو، كما طلبت من "غازبروم" تأجيل المدفوعات، خاصة أن الاقتصاد التركي يمر بأزمة اقتصادية طاحنة، لاشك أن أنقرة تطمح في تأجيل مدفوعاتها من الطاقة إلى روسيا، وذلك لضمان عدم تدهور الأوضاع الاقتصادية بصورة أكبر، خاصة قبل الانتخابات المقرر لها عام 2023، خاصة أن استطلاعات الرأي تكشف عن إمكانية فوز المعارضة بهذه الانتخابات، إذا ما استمر تدهور الأوضاع الاقتصادية.
هذا إلى جانب ما تشهده العلاقات الاقتصادية بين البلدين من تنامي تمثل في تدفق الاستثمارات والسياحة الروسية إلى أنقرة، وبناء محطة أكويو النووية بتكلفة 20 مليار دولار، رغم العقوبات الأمريكية المفروضة عل روسيا.
2- بديل لصادرات نورد ستريم: تسعى موسكو لاستعادة توجيه إمدادات الغاز إلى أوروبا، وعليه فقد قدم بوتين هذا المقترح، بأن تقوم تركيا بهذا الدور عوضاً عن نقل الغاز عبر خطوط أنابيب نورد ستريم، والذي تعرض لعملية تخريبية.
وفي سياق ذلك، أكد الرئيس الروسي أن إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر خطوط نورد ستريم لن تعود، كما صرّح رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، أن بلاده بإمكانها تصدير 63 مليار متر مكعب من الغاز إلى أوروبا عبر تركيا.
3- التمهيد لوساطة تركية: قد يُسهم تنفيذ المقترح الروسي في تعزيز فرص أنقرة في لعب دور أكبر في الوساطة بين موسكو والغرب، وذلك في ضوء اقتراح تركيا تنظيم مفاوضات بين موسكو وكل من واشنطن ولندن وباريس وبرلين؛ لبحث إنهاء الحرب في كييف، وهو ما يتزامن مع تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن المفاوضات بين طرفي الصراع، ضرورية، رغم كونها "ليست قريبة"، على أساس أن إيجاد مخرج لأزمة تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا سوف تساعد في تخفيف التوتر بين الجانبين الروسي والغربي.
4- عقبات تقنية ومالية: شكك وزير الطاقة التركي في إمكانية تنفيذ المشروع، إذ أكد أنه من السابق لأوانه إصدار تقييم بشأن جدوى المقترح. وتُشير التقديرات إلى أن خط السيل التركي، والذي تبلغ قدرته الإجمالية 31.5 مليار متر مكعب سنوياً، لا يكفي للإيفاء بمتطلبات المشروع، إذ إنه يكفي فقط لسد احتياجات دول شرق وجنوب أوروبا، كما أن تنفيذ المقترح سيتطلب استثمارات ضخمة، وهي الاستثمارات التي من المتوقع أن تتكفل روسيا بأغلبها.
تحديات قائمة:
على الرغم من أن تنفيذ المقترح سوف يمثل حلاً لأزمة تصدير الغاز لأوروبا، فإنه من المرجح أن يلاقي تنفيذه عدد من التحديات، والتي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
1- تصاعد التوتر مع الغرب: قد يؤدي قبول تركيا للمقترح الروسي، في ضوء رفض الغرب له، إلى تصاعد التوتر بين أنقرة والغرب، إذ يوجه الأخير انتقاده لتركيا على خلفية تعاونها مع روسيا، رغم العقوبات المفروضة على الأخيرة، وقد حذرت واشنطن شركات تركية من الاستمرار في التعامل مع روسيا، مهددة إياها بأن ستصبح في مرمى العقوبات الأمريكية، كما انتقدت المفوضية الأوروبية، في 12 أكتوبر الجاري، أي قبل اجتماع بوتين وأردوغان بيوم واحد، أنقرة من زيادة العلاقات التجارية والمالية مع موسكو، مهددة بإمكانية فرض حظر على تداول المنتجات والسلع مع تركيا، إذا استمرت الأخيرة في تعاملها مع روسيا.
2- تعاون تركي – قطري: قد يترتب على تنفيذ مقترح إنشاء مركز للغاز في تركيا الحاجة إلى الحصول على تعاون دول أخرى، مثل قطر، والتي تتمتع بخبرة في مجال تسييل الغاز. ولعل زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في 13 أكتوبر الجاري، أتت في هذا السياق، فقد اتفق وزير الخارجية التركي والقطري، في المؤتمر الصحفي الذي جمعهما على هامش الزيارة، على أهمية العمل سويةً من أجل تدشين المشروع المقترح.
3- غياب البدائل للغاز الروسي: يفترض المشروع التركي – الروسي أن بعض الدول الأوروبية ستستمر في شراء الغاز الروسي، على الرغم من طموح الاتحاد الأوروبي للتخلص التدريجي من الواردات، وزيادة الوصول إلى الغاز الطبيعي المسال من مصادر الإمداد البديلة الأخرى، غير أنه، وفقاً للحسابات الروسية، فإن هذا الأمر لن يكون خياراً متاحاً على المدى القصير، إذ إن استبدال الغاز الروسي من جانب الدول الأوروبية سوف يحتاج إلى بعض الوقت.
وفي التقدير، يمكن القول إن المقترح يمثل فرصة كبيرة بالنسبة لتركيا، إلا أن تطبيقه على أرض الواقع يصطدم بالعديد من العقبات، سواء المتعلقة بمدى قبول الطرف الأوروبي لهذا الأمر، في ضوء استمرار رفض بعض الدول الأوروبية شراء للغاز الروسي، بالإضافة إلى مدى وحدة الموقف الأوروبي، خاصة أن هناك العديد من الدول الأوروبية، مثل المجر، والتي تعارض العقوبات المفروضة ضد روسيا، على أساس أنها تضر بالاقتصادات الأوروبية، كما أن الأمر سيرتبط بشكل مباشر بمدى معاناة أوروبا خلال الشتاء المقبل، فضلاً عن إمكانية إيجاد بدائل للغاز من أطراف أخرى.