أسفرت وفاة الفتاة الإيرانية، مهسا أميني، في 16 سبتمبر 2022، عقب توقيفها من قبل شرطة الأخلاق بحجة ارتداء ملابس غير ملائمة، أثناء زيارة لأقاربها في طهران، عن اندلاع تظاهرات حاشدة في عّدة مدن إيرانية. ونفى وزير الداخلية الإيراني أحمد وحيدي أي مسؤولية عن وفاة أميني، مشيراً إلى أنها كانت تعاني تاريخاً مرضياً، وهو الأمر الذي نفته أسرة الفتاة بشدة.
ويأتي هذا التطور على خلفية توقيع الحكومة الإيرانية، في 15 أغسطس الماضي، قانون "الحجاب والعفة"، وهو القانون الذي يجدد إلزامية وضع قيود على ملابس المرأة ومظهرها الخارجي في الأماكن العامة، ومقرات العمل، ويستخدم في ذلك التقنيات الحديثة للتأكد من ارتداء النساء "الحجاب الجيد".
التعامل الأمني للنظام:
تبنت السلطات الإيرانية عدداً من الوسائل والآليات لتحجيم الاحتجاجات والتظاهرات في الشارع الإيراني، والتي يمكن استعراضها على النحو التالي:
1- توظيف الخيار القمعي: انتهج النظام الإيراني أسلوباً عنيفاً في التعامل مع التظاهرات التي خرجت في أعقاب وفاة مهسا أميني، إذ استخدمت العناصر الأمنية الغاز المسيّل للدموع والهراوات وبنادق الصيد والخراطيش لتفريق المتظاهرين، فضلاً عن القيام بحملة اعتقالات واسعة ضد المحتجين، ووصل الأمر بعد اتساع نطاق التظاهرات إلى استخدام الذخيرة الحية، الأمر الذي أسفر عن سقوط 7 قتلى من بين المتظاهرين، وأربعة من عناصر الأمن الإيرانية، وفق إحصائية نشرت في 22 سبتمبر الجاري، الأمر الذي يؤشر إلى زيادة السخط الشعبي.
ومن جهة أخرى، دعت دوائر إيرانية رسمية بشكل صريح لقمع الاحتجاجات، إذ طالب رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف، في مستهل جلسة، في 20 سبتمبر الجاري، بمواجهة حازمة لإخماد التظاهرات، فيما وصفت صحيفة كيهان، التابعة للمرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، المحتجين بالداعشيين والمجرمين، داعية إلى عدم تراخي السلطات في قمعهم.
2- تدخل الحرس الثوري الإيراني: دخل الحرس الثوري الإيراني على خط الأزمة، منذ بدايتها، إذ شاركت قوات الباسيج مع عناصر الشرطة الإيرانية في إخماد الاحتجاجات، وأشارت المصادر إلى مقتل أربعة أفراد من الباسيج خلال المواجهات مع المتظاهرين في عدّة مدن مختلفة.
هذا إلى جانب دعوة الحرس الثوري السلطات الإيرانية للتعامل بحسم مع التظاهرات الحالية، حيث طالب، في بيان له، السلطة القضائية بالكشف عن مروجي الشائعات والأكاذيب، في قضية وفاة أميني، وتقديمهم للمحاكمة، في مسعى من جانبه لتخويف المتظاهرين لردعهم عن النزول للشارع، والحد من توسع رقعة الاحتجاجات وإخمادها.
3- قطع خدمات الإنترنت: عمدت الحكومة الإيرانية إلى قطع الإنترنت لمنع تدفق المعلومات بشأن التظاهرات، والتنسيق بين المتظاهرين في مواجهة تحركات الأجهزة الأمنية، وكذلك التكتم على ممارساتها بحق المحتجين.
كما أصدر مجلس الأمن القومي الإيراني قراراً يحد من قدرة المستخدمين على الوصول إلى تطبيق إنستجرام، وهو أحد أخطر منصات التواصل الاجتماعي المتاحة في إيران، بالإضافة إلى تطبيق واتساب و خدمات المحمول الأخرى كافة، وذلك في مدن إيرانية عدّة مثل طهران وكرج وكرمنشاه وسنندج وأورمية وسقز.
4- تخوين المتظاهرين: لجأت السلطات الإيرانية إلى اتهام المحتجين بأنهم منفذون لأجندات معادية لإيران، في محاولة للالتفاف حول الأسباب الحقيقية للتظاهرات، والمنددة بسياسات النظام القمعية ضد حقوق الإنسان والمرأة في إيران، حيث أشار رئيس البرلمان الإيراني إلى "أن البعض في الداخل يتحرك في إطار ما يريده الأعداء في الخارج"، هذا إلى جانب قيام السلطات الإيرانية باعتقال 3 أجانب في العاصمة طهران على خلفية الاحتجاجات، في مسعى للتأكيد على وجود أطراف أجنبية تهدف لإثارة غضب الشارع الإيراني.
احتجاجات شعبية متصاعدة:
تتعدد الأبعاد التي تأخذها هذه الاحتجاجات، ويمكن الوقوف على أبرزها على النحو التالي:
1- اتساع نطاق التظاهرات ومطالبها: تتواصل الاحتجاجات على وفاة أميني، حيث شملت أكثر من 50 مدينة إيرانية، من بينها مدن رئيسية، مثل طهران وكردستان ومشهد وتبريز وشيراز وكرمنشاه وإيلام وسبزوار وقزوين وقم وزنجان وكرمان وغيرها. وأسفر التعامل العنيف لقوات الأمن الإيرانية عن مقتل 11 وإصابة العشرات.
واللافت في هذه التظاهرات، هو المشاركة الواسعة من قبل قطاعات نسائية وطلاب الجامعات في إيران، إذ قامت بعض الفتيات بخلع حجابهن وحرق أوشحتهن تعبيراً عن الاحتجاج على سياسات النظام الإيراني القمعية والخاصة بفرض الحجاب الإجباري، وكذلك التنديد بمقتل مهسا أميني، كما شارك طلاب الجامعات الإيرانية، مثل جامعة طهران وجامعة الزهراء وجامعة آزاد، في تلك التظاهرات مرددين هتافات "سأقتل.. من قتل أختي".
وتصاعدت هتافات المتظاهرين من التنديد بمقتل أميني، إلى المطالبة برحيل النظام، إذ ردد المحتجون شعارات "هذه رسالة أخيرة.. هدفنا إسقاط النظام"، و"خامنئي قاتل.. ولايته باطلة"، و"الموت لخامنئي.. الموت للديكتاتور"، وهو الأمر الذي يكتسب أهمية خاصة لتزامنه مع الاحتجاجات المتواصلة منذ أشهر في الشارع الإيراني، على خلفية المطالبة بتحسين الظروف المعيشية الصعبة جراء العقوبات والسياسات الفاشلة لحكومة الرئيس الإيرانية إبراهيم رئيسي.
2- إثارة قضية الأكراد في إيران: تُلقي وفاة أميني المنحدرة من محافظة كردستان إيران، الضوء على معاناة الأكراد في إيران، وتعامل النظام القمعي معهم، على الرغم من أن الأكراد في إيران يشكلون زهاء 10% من السكان، وهو الأمر الذي قد يسهم في تجديد النزعات الانفصالية لدى الأكراد مرة أخرى.
وتركزت التظاهرات الحالية في المناطق الشمالية الغربية، التي يقطنها الأكراد في إيران، وقد لقى خمسة أشخاص حتفهم من محافظة كردستان إيران، منهم اثنان في مدينة سقز الكردية، مسقط رأس أميني، خلال الاحتجاجات، فيما أصيب العشرات في المحافظة الكردية الإيرانية، هذا إلى جانب قيام السلطات الإيرانية بقطع خدمات الإنترنت بشكل شبة كامل في مدينة سنندج، عاصمة محافظة كردستان إيران.
3- فرض واشنطن عقوبات: أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية يوم 22 سبتمبر الجاري فرض حزمة من العقوبات على شرطة الأخلاق وكبار القادة الأمنيين الإيرانيين المسؤولين عن عمليات القمع بحق المتظاهرين على خلفية وفاة أميني.
واستهدفت العقوبات قائد شرطة الأخلاق في طهران، أحمد ميرزائي، وقائد شرطة الأخلاق الإيراني محمد رستمي، ونائب قائد قوة الشرطة الإيرانية علي قاسم رضائي، وقائد القوات البرية بالجيش الإيراني كيومارس حيدري، وقائد قوة الشرطة في محافظة تشهارمحال وبختياري منوشهر أمن اللهي، والنائب السابق لقائد العمليات في منظمة الباسيج، التابعة للحرس الثوري على سالار أبنوش. ووصفت واشنطن وفاة أميني بأنها "أمر لا يغتفر"، متوعدة بمحاسبة المسؤولين الإيرانيين المتورطين في الحادث وفي قمع الاحتجاجات.
4- إدانات دولية واسعة: لاقت وفاة أميني ردود فعل دولية واسعة منددة، إذ أعربت الأمم المتحدة عن قلها حيال وفاة الفتاة الإيرانية وتعامل قوات الأمن الإيرانية العنيف مع المحتجين، كما وصفت الخارجية الفرنسية الحادث بأنه "مروع للغاية". وطالبت باريس ولندن بإجراء تحقيق شفاف وعاجل لكشف الملابسات الخاصة بالحادث، في حين أعلنت الخارجية الألمانية اعتزامها إحالة واقعة وفاة أميني إلى مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة.
مستقبل الاحتجاجات الحالية:
يمكن الوقوف على المسارات التي يمكن أن تتخذها التظاهرات الحالية في إيران، ومدى تأثيرها على مستقبل النظام الإيراني على النحو التالي:
1- استمرار الاحتجاجات: يقوم هذا السيناريو على افتراض تصاعد الغضب الشعبي ضد قمع النظام للاحتجاجات، وهو الأمر الذي يؤدي إلى نتائج عكسية، تؤدي إلى اتساع نطاق الاحتجاجات وتزايد مطالبة فئات شعبية واسعة برحيل النظام، خاصة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، وعجز الحكومة عن معالجتها، نظراً لاستمرار تركيزها على توسيع تدخلاتها في الأزمات الإقليمية.
2- احتواء الاحتجاجات: يستند هذا السيناريو إلى محاولة الحكومة الإيرانية تنفيذ بعض الإجراءات التي تسهم في تخفيف حدة الاحتجاجات. فقد أعلنت السلطات الإيرانية فتح التحقيق في وفاة أميني، كما قام مساعد المرشد الأعلى في إيران، عبد الرضا بورذهبي، بزيارة إلى أسرة أميني في محافظة كردستان إيران، متوعداً بمتابعة قضية الوفاة حتى الوصول إلى النتيجة النهائية.
ويستند هذا السيناريو إلى أساس حرص النظام الإيراني على تهدئة الداخل، لاسيما أنه يدرك أن واشنطن والغرب قد تستغلان تلك الاضطرابات لإضعاف موقف طهران، كما في فرض واشنطن عقوبات ضد القيادات الأمنية الإيرانية والإدانات الواسعة من قبل العواصم الغربية.
3- التعامل الأمني مع الاحتجاجات: في ضوء الخبرة الإيرانية السابقة في التعامل مع التظاهرات المختلفة، في أعوام 2009 و2017 و2019 وغيرها، فإن سيناريو تبني النظام الإيراني المقاربة الأمنية في التعامل مع الاحتجاجات، قد يبدو مرجحاً، حيث سيتم التركيز على القمع الأمني وحده في التعامل مع المحتجين، إلى جانب تبني آليات أخرى موازية، تتمثل في تكوين حشود مضادة من تيارات موالية للنظام، وهو أمر مرجح خلال الفترة القادمة، لمواجهة الاحتجاجات الحالية، بالإضافة إلى إلقاء اللوم على التيار الإصلاحي إذ أرجعت صحيفة كيهان الأصولية الاحتجاجات الحالية إلى سياسات الإصلاحيين التي تساهلت مع قضية الالتزام بالحجاب، في محاولة لتبرئة الحكومة الحالية من التسبب في تلك الاحتجاجات.
وفي الختام، يمكن القول إن الاحتجاجات الأخيرة في إيران تكشف عن وجود تيارات شعبية واسعة داخل إيران تعترض على النهج المتشدد للنظام، وهو ما يعني في النهاية أن إحكام المحافظين، الجناح المتشدد في إيران، على مفاصل الدولة الإيرانية، وتهميش التيار الإصلاحي، أو المعتدل نتج عنه عجز الحكومة الإيرانية الحالية عن التعبير على تطلعات الشعب الإيراني، ومن ثم تهديد شرعيتها.