تلعب كل من روسيا وأوكرانيا دوراً جوهرياً في السوق العالمي للغذاء، وحذرت الأمم المتحدة من أن العالم قد يواجه مجاعات قد تستمر لسنوات بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية الحالية، حيث ستؤثر تبعاتها على الإمدادات الغذائية، وتحديداً فيما يخص صادرات الحبوب. ولعل ما فاقم أزمة الغذاء العالمية، القرار الذي اتخذته الهند بحظر صادراتها من القمح، لتُضاف إلى قائمة واسعة من الدول فرضت مؤخراً قيوداً على تصدير محاصيلها الزراعية ومُنتجاتها الغذائية.
تأثيرات الحرب:
أثّر اندلاع الحرب الأوكرانية منذ فبراير الماضي على الإمدادات الغذائية في العالم، إذ تسببت العقوبات الغربية في تقييد الصادرات الروسية عموماً، وصادراتها من الغذاء والمُنتجات الزراعية بشكل خاص. كما أن سيطرة روسيا على أجزاء واسعة من جنوب وشرق أوكرانيا، بما فيها من مساحات مزروعة، وإحكام سيطرتها على كثير من موانئ أوكرانيا، ومنعها من التصدير عبر الموانئ الأخرى؛ قد فرض قيوداً واسعة على الصادرات الأوكرانية.
وجدير بالذكر أن روسيا تُعد أكبر مُصدر للقمح في العالم، فيما تحتل أوكرانيا المرتبة الخامسة، وهما تشكلان معاً حوالي 32% من صادرات القمح على مستوى العالم. علاوة على أن الدولتين تستحوذان على أكثر من ثُلث صادرات الحبوب في العالم، وهما تُؤمنان معاً 19% من إمدادات الشعير و4% من إمدادات الذرة في العالم. كما أنهما تحتلان مرتبة الصدارة في تأمين بذور اللفت، وتستحوذان على 52% من السوق العالمي لتصدير زيوت دوار الشمس.
ويُمثل القمح ما بين 15 – 20% من إجمالي السعرات الحرارية المطلوبة لسكان العالم، وتعتمد بعض الدول، خصوصاً النامية، على الحبوب بنسب أكبر؛ إذ يُمكن استهلاك الحبوب بكميات ضخمة وبسعر مُنخفض مقارنةً باللحوم والألبان وغيرها من أنواع الغذاء.
وإجمالاً، يمكن رصد تأثير الحرب الروسية – الأوكرانية على سلاسل إمدادات الغذاء في العالم، كما يلي:
1- تعطيل النشاط الزراعي الأوكراني: أدى النزوح الكثيف للسكان من أوكرانيا إلى خفض أعداد العُمال الزراعيين، ومن ثم تباطؤ عمليات حصاد وتسليم المحاصيل الزراعية إلى الأسواق، ومن ثم تراجع النشاط الزراعي في أوكرانيا خلال الفترة الأخيرة.
2- إغلاق الموانئ الأوكرانية: أُغلقت الموانئ الأوكرانية الواقعة على البحر الأسود، على نحو أدى إلى تعطيل سلاسل إمدادات الحبوب وغيرها من المحاصيل للأسواق الخارجية. وبافتراض أنه لم تتضرر البنى التحتية للنقل الداخلي في أوكرانيا، بما في ذلك الطرق وشبكات السكك الحديدية، فسوف يتعذر شحن الحبوب الخشنة بواسطة القطارات بسبب عدم وجود نظام مُناسب للسكك الحديدية صالح لنقل تلك الشحنات وبكميات كبيرة.
وقد كان من شأن الحرب الحالية أيضاً أن أدت إلى ارتفاع أقساط التأمين الخاصة بمنطقة البحر الأسود، مما زاد من تكاليف الشحن البحري المُرتفعة بالأساس منذ جائحة كورونا، ولترفع من أسعار الواردات الغذائية على المستوى العالمي مؤخراً.
3- صعوبات توريد لوازم الزراعة: كما هو معلوم، تُعد روسيا جهة رئيسية في سوق الطاقة العالمي، حيث تستحوذ على 18% من الصادرات العالمية للفحم، و11% من صادرات النفط، و10% من صادرات الغاز. ويتطلب النشاط الزراعي، بطبعه، الوقود والغاز والطاقة الكهربائية، بالإضافة إلى الأسمدة ومبيدات الآفات ومواد التشحيم، لعملياته المختلفة.
وقد تسببت الحرب الأوكرانية في ارتفاع حاد في أثمان الوقود اللازم للزراعة، علاوة على نقص الإمدادات من اللوازم الزراعية الأخرى مثل الأسمدة والمبيدات، خاصةً مع اتساع العقوبات الغربية عل بعض مواد الطاقة اللازمة للزراعة مثل تلك المفروضة على الاقتصاد الروسي، والتي امتدت لتشمل النفط المنقول بحراً.
حظر الصادرات:
يختلف ما يحدث في روسيا وأوكرانيا بسبب الحرب والعقوبات، عما يحدث في الهند؛ وإن لم يكن بمنأى عن الحرب في أوكرانيا، حيث تعد الهند الدولة العاشرة الأكثر تصديراً للقمح، وقامت مؤخراً بفرض قيود على تصدير المنتجات الغذائية بما في ذلك القمح، ولتنضم بذلك إلى قائمة واسعة من الدول فرضت قيوداً على صادرات الغذاء والمحاصيل، وتشمل كلاً من الأرجنتين، والجزائر، وتونس، وتركيا، وإندونيسيا. وتشمل المحاصيل المحظورة، الحبوب، والفاكهة والخضراوات، وزيت النخيل، وغيرها.
وعلى وجه الخاص، فإن قرار الهند بحظر تصدير القمح ليس ناتجاً فقط عن الحرب في أوكرانيا؛ وإنما أيضاً بسبب موجة ارتفاع درجات الحرارة التي شهدتها البلاد في الأسابيع الماضية، والتي ستؤدي إلى خفض الإنتاج عن المستوى المُستهدف في الموسم الحالي، أي بمعنى تجاوز الطلب الإنتاج المُتوقع، مُتسبباً في ارتفاع السعر المحلي للقمح في الهند، ما لم يتم تقييد الصادرات.
وبغض النظر عن الظروف الاستثنائية للهند، يبدو أن مُنتجي الغذاء والمحاصيل الزراعية اتجهوا إلى حظر وتقييد صادرات الغذاء؛ بهدف توفير إمدادات كافية من المحاصيل المختلفة في الأسواق المحلية، وتعزيز استقرار أسعارها، وبالتالي حماية أمنها الغذائي.
انعكاسات سلبية:
يترتب على اتجاه كثير من مُنتجي الغذاء والمحاصيل الزراعية في العالم إلى حظر صادراتهم، عدد من التداعيات السلبية على الأمن الغذائي العالمي، وهي كالتالي:
1- التأثير على سلاسل الإمداد: فرضت الحرب الأوكرانية اختلالات واسعة في سلاسل إمداد الحبوب الخشنة والبذور الزيتية القادمة من أوكرانيا وروسيا؛ مما أثر على الأمن الغذائي في نحو 50 دولة تعتمد على روسيا وأوكرانيا لتأمين نسبة تتراوح بين 30% أو أكثر من إمداداتها من القمح. كما تعتمد بلدان كثيرة في أوروبا وآسيا على روسيا لتأمين أكثر من 50% من إمداداتها من الأسمدة.
لكن من الواضح أن أزمة الغذاء ستؤثر بشكل متفاوت على دول العالم، وستكون الدول النامية هي الأكثر تأثراً. وبالنظر إلى أن كلاً من الصين، والهند، والبرازيل، والولايات المتحدة الأمريكية؛ هي أكبر أربع دول مُنتجة ومُصدرة للمحاصيل الزراعية في العالم، وهي تشكل أيضاً 43% من سكان العالم؛ ومن ثم فهي أقل تأثراً بالأزمة الحالية من دون غيرها من الدول.
وجدير بالذكر أن حجم الصادرات الغذائية في العالم بلغ حوالي 1.1 تريليون دولار في عام 2020، وفق منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "الفاو"، وتُصدر الدول العشر الأكبر ما يقارب نصف غذاء العالم، وهذه الدول هي الولايات المتحدة، وألمانيا، وبريطانيا، والصين، واليابان، وفرنسا، وهولندا، وكندا، وبلجيكا، وإيطاليا.
2- ارتفاع أسعار السلع الغذائية: سجلت أسعار المواد الغذائية ارتفاعاً كبيراً منذ شهر فبراير 2022؛ بسبب زيادة الطلب، وارتفاع تكاليف المُدخلات، وصعود أسعار الشحن، والاختلالات في عمل الموانئ. فقد سجلت الأسعار العالمية للقمح والشعير حتى الآن ارتفاعاً بنسبة 31%، قياساً بعام 2021. وارتفعت أسعار زيت بذور اللفت وزيت دوار الشمس بنسبة 60%. وأدى كذلك ارتفاع الطلب والتقلبات في أسعار الغاز الطبيعي، إلى رفع تكاليف الأسمدة، حيث ارتفع سعر اليوريا بأكثر من ثلاثة أضعاف بالمقارنة بعام 2021.
3- تراجع الأمن الغذائي العالمي: رجح تقرير "بؤر الجوع الساخنة" الصادر بشكل مشترك بين منظمة "الفاو" وبرنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة، تدهور الوضع الغذائي في 20 دولة تُعرف بـ "النقاط الساخنة"، ومن بينها دول عربية، هي سوريا، ولبنان، والسودان، والصومال، واليمن، وموريتانيا.
وتم تحديد هذه النقاط الساخنة من خلال تحليل احتمالية تفاقم انعدام الأمن الغذائي في تلك الدول، تحت تأثير العديد من المُتغيرات، منها العنف المُنظم، والصراعات، والصدمات الاقتصادية، بما في ذلك الآثار الثانوية الناتجة عن جائحة كورونا، وتغير المناخ. إذ إن انعدام الأمن الغذائي الذي يتطلب مساعدات إنسانية، ارتفع بصورة غير مسبوقة خلال السنوات الخمس الماضية، حيث كشفت التقديرات أن وباء كورونا دفع 132 مليون شخص إلى الجوع المزمن، وارتفع هذا العدد إلى 161 مليون شخص حتى مايو 2022.
4- تغير خريطة تجارة الغذاء: بما أن أزمة إمدادات الغذاء الرئيسية تتمثل في الوفاء باحتياجات الدول من المحاصيل الزراعية، خاصةً القمح، علماً بأن قائمة أكبر 10 مستوردين للقمح تضم دولاً مثل إندونيسيا، وتركيا، وبنجلاديش، والمغرب، ونيجيريا، والبرازيل والفلبين وغيرها؛ فإن الدول النامية تعد الأكثر تضرراً من الأزمة الغذائية ومن بينها بلدان الشرق الأوسط.
وهنا، ستتضرر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل أكبر من الحرب الأوكرانية؛ نظراً لاعتماد دول هذه المنطقة على واردات الغذاء، حيث تستورد 42% من القمح و23% من الزيوت النباتية من روسيا وأوكرانيا، وهو ما يجعلها عُرضة لارتفاع أسعار المواد الغذائية. كما أن انقطاع جزء فقط من إمدادات القمح، سيدفع تلك الدول للبحث عن مصادر أخرى، وبأي تكلفة، لتزويدها باحتياجاتها، بدلاً من روسيا وأوكرانيا.
سياسات مُقترحة:
اقترحت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "الفاو"، سياسات وإجراءات يمكن للحكومات تبنيها لمجابهة الأزمة الغذائية في ظل انعكاسات الحرب الأوكرانية - الروسية، وأبرزها ما يلي:
1- دعم وحماية أنشطة الإنتاج والتسويق لتلبية الطلب المحلي، ويتضمن ذلك دعم الأنشطة اللوجستية اللازمة للإنتاج الزراعي.
2- تنويع مُوردي الأغذية والمحاصيل الزراعية للسوق المحلي، والاستغلال الأمثل لمخزون السلع الغذائية.
3- تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي لحماية الفئات الهشة والأكثر تأثراً بالأزمة الغذائية.
4- تعزيز الشفافية ونشر المعلومات في الأسواق، بما يضمن استقرار إمدادات وأسعار السلع الغذائية.