بعد تجاوز الصدمة التي أثارتها الانقلابات العسكرية المتتالية في دول الساحل والصحراء، يبدو أن الوقت قد حان للتساؤلات عن الآليات المتاحة والكفيلة بالرد على هذه الموجة، خاصة أن هناك جملة من المعطيات التي تدفع إلى المزيد من الغضب والحنق الشعبي تجاه الحكومات المدنية، ما يشجع الجيوش على تسلم مقاليد الحكم.
باماكو – يثير فشل العقوبات والتحركات الدبلوماسية الكثيفة في ردع الانقلابيين في دول الساحل الأفريقي والصحراء تساؤلات بشأن الآليات الكفيلة بوضع حد لموجة الانقلابات في المنطقة، التي بدت وكأنها تحن للعودة إلى حقبة الحكم العسكري.
اللافت أن هذه الانقلابات باتت تحفزها قواعد شعبية، بعد أن عانت شعوب المنطقة من آفة الإرهاب ومعضلة الفقر معا لعقود، ما جعلها تبحث عن جنرال قوي يقود الدولة وحربها ضد الجماعات المتشددة، لكن أيضا ضد الحضور الفرنسي في المنطقة، حيث يتنامى الرفض الشعبي للعمليات التي تقوم بها باريس هناك في مواجهة الجهاديين، ويُنظر إليها على أنها غطاء لنهب ثروات أفريقيا.
الصفعات الموجعة التي تعرضت لها الديمقراطية ومؤسساتها في الساحل الأفريقي أثارت غضب الغرب، وخاصة فرنسا التي تترأس الاتحاد الأوروبي، فتحركت بقوة في محاولة في البداية لردع الانقلاب الذي قاده ضباط عسكريون في مالي، لكنها فشلت في ذلك رغم الضغوط التي كرستها قوى إقليمية بدفع من باريس، على غرار المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”، على المجلس العسكري في باماكو.
وشهدت بوركينا فاسو بدورها ثامن انقلاب عسكري في تاريخها، عندما أعلن مؤخرا ضباط بقيادة الليفتنانت كولونيل بول هنري سانداوغو داميبا رئيس “الحركة الوطنية للحماية والاستعادة”، الاستيلاء على السلطة في بلادهم وحل البرلمان والحكومة.
ويشير مراقبون إلى أن الاستراتيجية التي يعتمدها الغرب، وخاصة فرنسا وشركاءها المتدخلين بشكل مباشر في المنطقة لتكريس الديمقراطية، قد فشلت، حيث يقول الباحث حمدي عبدالرحمن إن “من الواضح أن المشروطية الغربية قد أفرغت الديمقراطية الأفريقية من جوهرها”.
وكانت فرنسا قد ربطت مساعدتها والضمانات التي تقدمها الدول المانحة لصالح الدول الفرنكفونية بعملية الانتقال الديمقراطي. ويبدو أن عودة الانقلابات في المنطقة تكشف فشل سياسة المشروطية تلك، فالديمقراطية ليست “وصفة” جاهزة تُطبق على الجميع، ثمة سياق ثقافي واجتماعي مختلف في البلدان الأفريقية بحسب عبدالرحمن.
وفي دول الساحل الأفريقي والصحراء بدأت تترسخ صورة مثالية عن الجيش باعتباره حاميا للأمة في مواجهة الأزمات، سواء الأمنية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، التي ترزح تحت وطأتها تلك الدول، وذلك بالتوازي مع استمرار نخب سياسية يعتبرها خصومها وطيف واسع من شعوب المنطقة فاسدة، وهو ما يشجع عاملا إضافيا على الانقلابات.
وأضاف عبدالرحمن في دراسة لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة أن “الجيش يبدو القوة الوحيدة المتاحة لتلبية المطالب الأفريقية، من أجل التغيير والدفاع عن سيادة الدولة واستقلالها”، محذرا في الآن ذاته من حالة الإنهاك والاستنزاف التي يجد الجيش نفسه فيها بشغل وظائف سياسية قد لا يكون مؤهلا لأدائها أصلا.
وما يعكس أكثر فشل الاستراتيجية الغربية تجاه الساحل والصحراء هو الدعم الشعبي القوي للمجلس العسكري في مالي، فالضغط الذي حاولت فرنسا تكريسه لمنع تعاون باماكو مع موسكو ومرتزقة فاغنر لم يعط النتائج المرجوة لعدة اعتبارات، في مقدمتها رفض طيف واسع الحضور الفرنسي في الساحل، حيث خرج الآلاف من الشباب إلى شوارع باماكو وهم يلوحون بالأعلام الروسية ومنددين في الوقت نفسه بما اعتبروه سياسات استعمارية فرنسية.
هناك عنصر هام ارتكز عليه الانقلابيون سواء في مالي أو بوركينا فاسو أو غيرهما، وهو الثقة الشعبية الكبيرة في الجيش ودعمه في تسلم مقاليد الحكم، وذلك بسبب استشراء الفساد وفشل سياسات الحكومات المدنية، ما يعني ضرورة التحرك صوب دفع العجلة التنموية في المنطقة.
وشجع الغضب الشعبي الجيوش في مالي وغينيا وبوركينا فاسو على أن تتولى دفة الأمور بنفسها، فوقعت أربعة انقلابات خلال 18 شهرا لتبدد ما تحقق من مكاسب ديمقراطية، كانت سببا في تخلص المنطقة من وصمة “حزام الانقلابات” الأفريقي التي لازمتها.
ويرى عبدالرحمن أنه “للخروج من دائرة الانقلابات العسكرية لا بد من ترك الناس ليختاروا بحرية نظامهم السياسي وقادتهم، وفوق كل ذلك خياراتهم التنموية”.
ويوضح أنه “من المحتمل أن يكون الاقتصاد هو الرافعة الأولى للنهضة والإصلاح، حيث تتسم أفريقيا بطبيعة ديموغرافية سريعة النمو، في مقابل وجود موارد شحيحة، كما أن معظم البلدان الأفريقية ليست مكتفية ذاتيا، وبالإضافة إلى ذلك، فإن نماذج الاستهلاك الغربية المعولمة المقدمة للشباب، يتعذر على غالبية السكان الوصول إليها، بما يؤدي في النهاية إلى ثورة إحباطات متزايدة.
وتابع “من ثم، لابد من إعطاء الأولوية لخلق نشاط اقتصادي مستدام من الموارد المتاحة، فبدلا من أن تقوم الدول الأفريقية بتصدير مواردها الخام، يمكن تحويل وتصنيع هذه الموارد من خلال إرساء بنية تحتية مناسبة، وبالتالي توليد فرص عمل جديدة وقيمة مضافة. وفي هذا السياق يمكن النظر إلى عملة الفرنك الفرنسي، السائد منذ عام 1945 في العديد من دول غرب أفريقيا، على أنه يشكل حلا اقتصاديا محتملا. فمن الأساليب التي ربما ينبغي النظر فيها أن تعيد هذه البلدان الاعتبار لسيادتها النقدية، فوجود عملة وطنية يمكن أن يعطي قدرة حقيقية على العمل في المجال الاقتصادي”.