فرض تصاعد التوتر بين موسكو وكييف، في ظل تعبئة روسيا حشوداً عسكرية بالقرب من الحدود الأوكرانية وفي بلدان أخرى بشرق أوروبا، مخاوف عالمية من تأثر أسواق الطاقة العالمية، خاصة في ظل الاعتماد الأوروبي المُفرط على إمدادات الغاز الروسي، بالإضافة إلى تداعيات أخرى محتملة على الصادرات الزراعية من منطقة شرق أوروبا لأسواق الاستهلاك في أنحاء العالم كافة.
ومع ذلك، تشير معظم التقييمات إلى أنه من المستبعد أن تقوم موسكو بغزو الأراضي الأوكرانية، ما يخفف نسبياً من ذعر الأسواق الدولية بسبب التصعيد العسكري الراهن، لكن تظل هشاشة الوضع في شرق أوروبا واستمرار التوترات بين روسيا وأكرانيا عاملاً في استمرار الضغوط على أسواق السلع الأساسية على مستوى العالم.
ذعر عالمي:
تسبب تصاعد حدة التوترات بين روسيا وأوكرانيا منذ نهاية العام الماضي في ارتدادات حادة على أسواق السلع الأساسية والمعادن، وهو ما يتبين على النحو التالي:
1- ارتفاع أسعار الطاقة: شهدت أسعار خام النفط ارتفاعات قياسية خلال شهري يناير وفبراير من العام الجاري، متخطية حاجز الـ 90 دولاراً للبرميل، وهو أعلى مستوياتها في الـــ 7 سنوات الماضية. وقد تستمر الأسعار في الارتفاع في ظل التصعيد العسكري بين الجانبين. ومن المحتمل حدوث ارتفاع فجائي يصل إلى 10 دولارات في سعر برميل النفط الخام حال أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، وفقاً لبعض التقديرات.
أما على صعيد أسواق الغاز، فقد تسببت التوترات بين أوكرانيا وروسيا، في ارتفاع متواصل لأسعار الغاز الطبيعي على المستوى العالمي، خاصة بالقارة الأوروبية، الأمر الذي تزامن مع نقص الإمدادات الفورية من الغاز الروسي لبلدان القارة منذ أواخر العام الماضي. وفي ضوء التطورات الحالية، يتوقع "جولدمان ساكس" أن يستمر ضيق المعروض في أسواق الغاز الأوروبي لثلاث سنوات قادمة، حيث ستكون له آثار ممتدة على سقف أسعار الغاز في أوروبا والعالم.
2- ارتفاع أسعار السلع الزراعية: تلعب كل من روسيا وأوكرانيا دوراً جوهرياً في استقرار الأمن الغذائي العالمي، وهما يساهمان معاً بحوالي ربع الصادرات العالمية من الحبوب. ومن المتوقع أن تصل صادرات روسيا وأوكرانيا من القمح للسنة التسويقية 2021 – 2022 نسبة 23% من إجمالي الصادرات العالمية، وفقاً لتقديرات مؤسسة "ستاندرد آند بورز.
ونتيجة المخاوف من انقطاع إمدادات الحبوب بسبب التوترات الحالية، ارتفعت العقود الآجلة للقمح على المستوى العالمي بحوالي 10% منذ منتصف يناير 2022، واقتربت أسعار الذرة خلال أواخر يناير 2022 من أعلى مستوياتها منذ يونيو 2021.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الأزمة الروسية الأوكرانية ليست العامل الأوحد المؤثر في ارتفاع أسعار السلع الزراعية مؤخراً، فهناك ثمة اعتبارات أخرى متعلقة بظروف الطقس غير المعتادة بعدد من دول أمريكا اللاتينية، والتي قد تؤثر على حجم إمدادات الذرة عالمياً، فضلاً عن تراجع الصادرات الروسية من القمح بسبب ارتفاع ضرائب التصدير، وفرض حصص على تصدير الحبوب الغذائية.
3- ارتفاع أسعار المعادن: تُسيطر روسيا على إنتاج وتصدير عدد من المعادن على المستوى العالمي، ومنها: الألمنيوم، والنيكل، والبلاديوم، وقد عززت التوترات الروسية – الأوكرانية من الاتجاه الصعودي لأسعار بعض المعادن، فعلى سبيل المثال، يتم تداول الألمنيوم والنحاس مؤخراً بالقرب من أعلى مستوياتهما في السنوات الأخيرة.
وفي السياق ذاته، فقد حذرت شركة "ألكوا كورب" (Alcoa Corp)، أكبر شركة منتجة للألمنيوم في الولايات المتحدة، من أن التوترات بين روسيا وأوكرانيا ستزيد من مخاوف تأثر إنتاج الألمنيوم، ومن ثم احتمالية زيادة الأسعار، وذلك لأن روسيا تعد ثاني أكبر منتج للألمنيوم في العالم، الأمر الذي يفاقم الارتفاع المتواصل لأسعار الطاقة على الصعيد العالمي.
4- زيادة الطلب على الأصول الآمنة: تزايد لجوء المستثمرين إلى الملاذات الاستثمارية الآمنة، كالذهب والدولار في ظل تصاعد التوترات العسكرية في شرق أوروبا. وفي هذا الصدد، وصلت أسعار الذهب خلال تعاملات الاثنين 14 فبراير لأعلى مستوى لها منذ 3 أشهر وبقيمة 1869.40 دولار للأوقية، وهو اتجاه صعودي يحتمل استمراره، لاسيما حال تصاعد التوترات بين أوكرانيا وروسيا.
5- تصاعد الضغوط التضخمية: من المرجح أن تعمل التوترات الحالية بين روسيا وأوكرانيا على تفاقم الضغوط التضخمية العالمية، والمرتفعة بالفعل، خاصة إذا ما استمر ارتفاع أسعار الطاقة، والسلع الزراعية الأساسية بسبب مخاوف الحرب. وفي هذا الصدد، حذرت مديرة صندوق النقد الدولي في وقت سابق من احتمالية ارتفاع معدل التضخم العالمي بسبب التوترات بين روسيا وأوكرانيا.
ضغوط روسية:
أدت التوترات السياسية بين روسيا وأوكرانيا إلى تداعيات ملحوظة على الاقتصاد الروسي، ويتضح ذلك على النحو التالي:
1- ضعف الروبل الروسي: تراجع سعر صرف العملة الروسية بحوالي 5% خلال شهر يناير 2022، وبلغ أدنى مستوى له عند 79.3 روبل مقابل الدولار في 27 يناير الفائت، وذلك قبل أن يسترد بعض خسائره لاحقاً.
وقد تراجع بنك "جيه بي مورجان" عن توصيته للعملاء بزيادة استثماراتهم في الروبل الروسي وتوقعاته السابقة بتحقيقه مكاسب، في ظل زيادة حالة عدم اليقين المتعلقة بتصاعد التوترات بشأن أوكرانيا.
وفي الاتجاه نفسه، حذر بنك الاستثمار "رنيسانس كابيتال" من احتمال تدهور سعر صرف الروبل مقابل الدولار بنسبة 20%، حال حدوث تصعيد عسكري.
2- ارتفاع التضخم: في ظل ضعف الروبل وموجة التضخم العالمي، ارتفع معدل التضخم في روسيا إلى أعلى مستوى في ست سنوات حيث بلغ 8.73% في يناير 2022، مما دفع البنك المركزي الروسي خلال الاجتماع الأخير له إلى رفع سعر الفائدة بمقدار 100 نقطة أساس، للمرة الثالثة في أقل من عام لتصل إلى 9.5%.
3- تدفقات رؤوس الأموال إلى الخارج: من المتوقع أن يقوم مديرو الأموال بسحب السيولة من صناديق سندات الأسواق الناشئة ومنها روسيا؛ نتيجة للتشديد النقدي من قِبل الاحتياطي الفيدرالي، بالإضافة لتهديدات الصراع بين روسيا وأوكرانيا.
خسارة جماعية:
يكتنف مسألة الأزمة الأوكرانية قدر كبير من الغموض، وتتباين التقديرات العالمية بشأن نوايا موسكو الحقيقية بشأن أوكرانيا، ويتضح ذلك كتالي:
1- سيناريو التصعيد: تذهب تقييمات بعض الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن روسيا قد حشدت ما يكفي من القوات بالقرب من الحدود الأوكرانية استعداداً لغزوها، وعليه، اتجهت واشنطن نحو تسليح الجيش الأوكراني بمعدات عسكرية؛ لمواجهة الخطر الروسي المُحتمل، كما هددت بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا في حال شنها حرباً ضد أوكرانيا، والتي تتضمن ما يلي:
أ- قطع وصول روسيا لنظام "سويفت" للتحويلات: جرى طرح مقترح غربي يدعم خروج روسيا من نظام "سويفت" العالمي، حال غزوها الأراضي الأوكرانية، وهو أمر قد يُحدث تأثيراً سلبياً على الاقتصاد الروسي، خاصةً في ظل تسوية مُعظم المعاملات التجارية ومبيعات النفط والغاز الروسية من خلال هذا النظام، إلا أن هذا المقترح ليس مطروحاً بجدية في ظل معارضة بعض القوى الأوروبية له، لما له من تداعيات على نظام التجاري الأوروبي، والمصارف الأوروبية، وهي الأكثر ارتباطاً على المستوى العالمي مع البنوك الروسية.
ب- التهديد بقطع الغاز: في حال قيام أوروبا بفرض عقوبات على روسيا، فقد ترد موسكو بقطع صادرات الغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي، والتي توفر لأوروبا حوالي ربع احتياجاتها الكلية من الطاقة، بيد أنه وفقاً لمجموعة "أوراسيا" الاستشارية فإن قيام روسيا بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا بشكل مفاجئ يُعد سيناريو غير مرجح؛ لأن هذه الخطوة ستكون لها تكاليف مالية كبيرة على الميزانية الروسية نفسها، وعلى عائدات الصادرات.
ج- وقف مشروع "نورد ستريم 2": هددت الإدارة الأمريكية مراراً بأن إقدام روسيا على عمل عسكري ضد أوكرانيا، سيؤدي إلى وقف تشغيل خط أنابيب "نورد ستريم 2" الذي يربط بين ألمانيا وروسيا عبر بحر البلطيق، مما يُعرقل آمال روسيا في تقليل الاعتماد على الأراضي الأوكرانية في نقل إمدادات الغاز لأوروبا.
د- منع وصول روسيا إلى أسواق الدين: من المقترح أيضاً، أن تقوم الدول الغربية بالضغط على الاقتصاد الروسي، من خلال حظر وصول موسكو لأسواق الدين والأسهم، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من تراجع الروبل الروسي، وارتفاع تكلفة الاقتراض المحلي، مما يهدد بالنهاية الاستقرار المالي والنقدي للبلاد.
2- تهدئة محفوفة بالحذر: تشير بعض التقديرات الأخرى إلى أن تصاعد التوترات بين الجانبين لن يمتد لعمل عسكري روسي ضد أوكرانيا. ولعل بوادرها ظهرت بإعلان وزارة الدفاع الروسية مؤخراً سحب جزء من القوات الروسية المنتشرة قرب الحدود مع أوكرانيا، والتأكيد على استمرار إمدادات الغاز لأوروبا عبر الأراضي الأوكرانية. فسيناريو الغزو أو الحرب الشاملة، ستترتب عليه تكاليف سياسية وعسكرية ثقيلة للأطراف كافة بما فيها روسيا، حيث من شأنه إنهاك الاقتصاد الروسي، ويُعرضه لعقوبات اقتصادية طويلة الأمد من قبل الدول الغربية.
وهنا، تذهب بعض التحليلات إلى أن موسكو تستهدف من التصعيد العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية الضغط على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي للاستجابة للهواجس الأمنية الروسية، خاصة فيما يتعلق بوقف تمدد الحلف باتجاه الحدود الروسية، أو منع أوكرانيا من الانضمام إليه، وذلك خلاف ما جرى تطبيقه بعد غزو روسيا لشبه جزيرة الرقم في عام 2014.
وبلا شك أن بوادر التهدئة بين الجانبين الروسي والغربي بشأن الأزمة الأوكرانية، تٌجنب الاقتصاد العالمي مزيداً من الخسائر الاقتصادية الفادحة وسط جائحة كورونا. وعلى الرغم من ذلك يظل الوضع الهش بمنطقة شرق أووربا، عنصراً ضاغطاً على أسواق السلع الأساسية في العالم، وسيدفع أسعار الطاقة والغذاء للتصاعد، وذلك لحين توصل روسيا والغرب لتفاهمات أمنية وسياسية حاسمة بشأن أوكرانيا.