دعا تحالف دعم الشرعية في اليمن، أكثر من مرة، إلى التهدئة، ووقف إطلاق النار، وإقرار السلام في هذا البلد، بيد أن المليشيا الحوثية رفضت كل هذه الدعوات، بل وتمادت في جرائمها العسكرية ضد المدنيين، سواء في اليمن، لاسيما مؤخراً في جبهات مأرب وتعز والجوف والحُديدة، أو حتى من خلال استهداف الأراضي السعودية بالصواريخ الباليستية والطائرات المُسيّرة (بدون طيار). لذا تغيرت حسابات جبهة الشرعية خلال الفترة الأخيرة من التهدئة إلى شن عمليات عسكرية ضد أهداف مشروعة للحوثيين في صنعاء ومأرب وشبوة وغيرها؛ مدفوعة في ذلك بالعديد من الأسباب والمُحفزات، سواء ذات الصلة بالحوثيين أنفسهم أو بالأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في ملف اليمن.
مؤشرات التصعيد:
ثمة عدد من المؤشرات الدالة على تصاعد العمليات العسكرية لقوات الشرعية اليمنية ضد ميليشيا الحوثيين في عدة جبهات باليمن خلال الفترة الأخيرة، ومن أبرزها الآتي:
1- قصف أهداف حوثية مشروعة في صنعاء: أعلن تحالف دعم الشرعية، في 28 نوفمبر 2021، استهداف مراكز ثقل لأهداف نوعية بقاعدة الديلمي العسكرية مرتبطة بمطار صنعاء، مؤكداً أن المطار أصبح قاعدة عسكرية لخبراء الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني. وأشار التحالف إلى أن الحوثيين يستخدمون مواقع ذات حصانة قانونية لتنفيذ هجمات عابرة للحدود، وأنه سيتخذ إجراءات قانونية لإسقاط الحصانة إذا لزم الأمر لحماية المدنيين. وفي 6 ديسمبر الماضي، أعلن تحالف دعم الشرعية بدء عملية واسعة ضد الحوثيين في صنعاء، قائلاً إنها تأتي "استجابة للتهديد"، وبالفعل تم تنفيذ قصف دقيق لأهداف عسكرية مشروعة، وتدمير مواقع مرتبطة بالصواريخ الباليستية والمُسيرات داخل العاصمة اليمنية. وتكررت هذه العمليات العسكرية نفسها في 23 ديسمبر الماضي. وكانت الميليشيا الحوثية قد أعلنت، في 21 ديسمبر الماضي، خروج مطار صنعاء الدولي، الخاضع لسيطرتها، عن الجاهزية إثر غارات جوية شنها تحالف دعم الشرعية.
2- التصدي لاعتداءات الحوثيين في مأرب: تخوض قوات الجيش اليمني معارك متواصلة ضد الحوثيين في مختلف جبهات القتال جنوب وغرب محافظة مأرب، وذلك منذ أن أطلقت الميليشيا الانقلابية في فبراير 2021 هجمات مكثفة على هذه المحافظة الاستراتيجية والغنية بالنفط والتي يقع أغلبها تحت سيطرة الشرعية، ضاربة بعرض الحائط الدعوات الدولية كافة لوقف التصعيد. وقد نفذ تحالف دعم الشرعية عمليات عسكرية مشروعة ضد الميليشيا الحوثية في مأرب؛ تعد هي الأوسع خلال الفترة الأخيرة، وذلك في سياق إسناده لقوات الجيش اليمني والمقاومة الشرعية.
3- تحرير كامل محافظة شبوة: أعلنت قوات "ألوية العمالقة" الموالية للشرعية اليمنية، في 10 يناير 2022، تحقيقهاً تقدم جديد في المعارك ضد الحوثيين، وسيطرتها على جميع مديريات محافظة شبوة التي تعد واحدة من أهم محافظات اليمن الغنية بالنفط، فضلاً عن موقعها الجغرافي الذي يتوسط المحافظات الشمالية والجنوبية من البلاد، حيث تحدها محافظات حضرموت من الشرق، وأبين من الجنوب والغرب، والبيضاء من الغرب، ومأرب من الشمال الغربي. وجاءت استعادة السيطرة على شبوة بعد أن أطلقت قوات الشرعية اليمنية، في مطلع يناير الجاري، عملية عسكرية باسم "إعصار الجنوب"؛ لتحرير مديريات عسيلان وبيحان وعين في المحافظة، والتي سيطر عليها الحوثيون في سبتمبر الماضي. واستطاعت هذه القوات خلال الأيام الماضية السيطرة على عسيلان وبيحان، قبل أن تحرر مديرية عين يوم 10 يناير الجاري، وبذلك تكون كامل مديريات شبوة الـ 17 تحت سيطرة قوات الشرعية.
ويعود الفضل في انتصارات شبوة إلى قوات "ألوية العمالقة" الجنوبية التي يُقدر عددها بأكثر من 50 ألف جندي، وتتمتع بقدرات قتالية جيدة، فضلاً عن خبراتها المتراكمة من معاركها السابقة في الساحل الغربي لليمن، وهو ما مكّنها من إدارة المعركة العسكرية بنجاح في شبوة. ومن المتوقع أن يتزايد دور "ألوية العمالقة" بالمعارك في محافظتي مأرب والبيضاء، وهو ما سيزيد الضغوط العسكرية على الحوثيين، لاسيما مع الانتصارات الميدانية التي تحققها الشرعية مؤخراً في هذه الجبهات المختلفة. وبالفعل أعلنت "ألوية العمالقة"، يوم 11 يناير الجاري، سيطرتها على مناطق واسعة في مديرية حريب بمحافظة مأرب وتكبيد الحوثيين خسائر فادحة.
وبعد تحرير شبوة، تم الإعلان يوم 11 يناير الجاري عن إطلاق عملية تنموية جديدة باسم "حرية اليمن السعيد" بالمحاور والجبهات كافة، حيث أوضح المتحدث باسم التحالف العربي، العميد تركي المالكي، "أن هذه العملية ليست عملية عسكرية بالمصطلح العسكري، أي الحرب، بل تنقل اليمن إلى النماء والازدهار".
عوامل دافعة:
يمكن توضيح أبرز الدوافع وراء تغير حسابات تحالف الشرعية باليمن في اتجاه ممارسة مزيد من الضغوط العسكرية على الحوثيين، من خلال النقاط التالية:
1- رفض الحوثيين مبادرات الحل السياسي: من خلال التجارب العديدة على مدار السنوات الماضية في اليمن، أصبح تحالف دعم الشرعية على يقين بأن الحوثيين سيستمرون، على الأقل في المدى القريب، في المماطلة بشأن التفاوض السياسي، وأنهم لا يفهمون إلا النهج العسكري، وهذا ما ظهر في رفضهم العديد من مبادرات الحل السياسي. فمثلاً في مارس 2021، أعلنت السعودية إطلاق مبادرة لحل الأزمة اليمنية تتضمن وقف إطلاق النار، وإعادة فتح مطار صنعاء، والسماح باستيراد الوقود والمواد الغذائية عبر ميناء الحديدة، واستئناف المفاوضات السياسية بين الحكومة والحوثيين. وبينما وجدت هذه المبادرة السعودية ترحيباً دولياً وإقليمياً، رفضها الحوثيون.
وأيضاً في 10 يونيو الماضي، أعلن التحالف توقفه عن شن هجمات قرب صنعاء ومدن يمنية أخرى، لأنه يريد وضع أرضية سياسية للتوصل إلى تسوية سلمية. لكن في اليوم نفسه، أعلنت الحكومة اليمنية مقتل 8 مدنيين وإصابة 27 آخرين، إثر قصف شنه الحوثيون بصاروخين باليستيين وطائرتين مفخختين، استهدف مسجداً وسجناً للنساء في مأرب.
وعلى هذا النحو، سارت الأمور في اليمن خلال الأشهر الماضية؛ أي استعداد من الحكومة اليمنية وتحالف الشرعية لوقف إطلاق النار، والجلوس على طاولة المفاوضات مع الحوثيين وفقاً للمرجعيات الدولية المُعترف بها، مع إظهار الرياض أيضاً حسن نواياها بقبولها الوساطة العراقية – العُمانية لإخراج حسن إيرلو، السفير الإيراني السابق في صنعاء، من اليمن للعلاج وذلك قبل وفاته في ديسمبر الماضي؛ ولكن في المقابل استمر التعنت الحوثي والإصرار على التصعيد في عدة جبهات، لاسيما مأرب باعتبارها محافظة نفطية ستؤدي السيطرة عليها إلى زيادة الموارد المالية للميليشيا وتخصيصها للإنفاق العسكري، وأيضاً إطلاق الصواريخ الباليستية والطائرات المُسيّرة على منشآت حيوية ومدنيين في السعودية.
وعلى الرغم من محاولات المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبرغ، منذ توليه منصبه في سبتمبر 2021، تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتحاربة، وتأكيده أنه لا يمكن تحقيق حل دائم في اليمن إلا عبر تسوية سياسية شاملة، وقيامه بالعديد من الجولات الإقليمية والدولية لتحقيق هذا الهدف؛ بيد أن كل جهوده حتى الآن تواجه بعراقيل حوثية.
2- الرد على التصعيد الحوثي: لجأت ميليشيا الحوثيين إلى التصعيد العسكري على عدة جبهات في اليمن وخارجه، ومنها الآتي:
أ- التصعيد في معركة مأرب: مازالت الميليشيا الحوثية مُصرة على التصعيد العسكري في محافظة مأرب منذ فبراير 2021، بهدف السيطرة عليها؛ كونها أهم معاقل الحكومة الشرعية، إضافة إلى أهميتها الاقتصادية في ظل احتياطاتها الوفيرة من النفط والغاز. وترتكب الميليشيا في جنوب وغرب مأرب أعمال القتل والتهجير وغيرها من الجرائم والانتهاكات المروعة ضد اليمنيين، وهو ما أدى إلى تضرر آلاف الأسر في هذه المناطق، ما بين قتلى وجرحى ونازحين، وبالتالي وجود واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
ب- تنفيذ هجمات إرهابية في عدن والمناطق المحررة: شهدت العاصمة اليمنية المؤقتة، عدن، عدة هجمات إرهابية، وتم توجيه أصابع الاتهام فيها إلى الحوثيين وبالتنسيق مع غيرهم من التنظيمات الإرهابية؛ في إطار محاولاتهم للإضرار بجهود الحكومة الشرعية في تثبيت الأمن والاستقرار في المناطق المحررة جنوب اليمن. وظهر ذلك مثلاً في انفجار سيارة ملغومة قرب مدخل المطار الدولي في عدن، يوم 30 أكتوبر 2021، مستهدفة نقطة تفتيش أمنية قرب فندق بالمطار، وهو ما أدى إلى سقوط 12 قتيلاً جميعهم مدنيون. وأيضاً في 10 أكتوبر الماضي، نجا كل من وزير الزراعة والثروة السمكية، سالم السقطري، ومحافظ عدن، أحمد حامد لملس، وكلاهما من أعضاء المجلس الانتقالي الجنوبي، من محاولة اغتيال بتفجير سيارة مفخخة في عدن، أسفرت عن 6 قتلى و7 جرحى. وفي 30 ديسمبر 2020، وبالتزامن مع وصول الحكومة اليمنية إلى عدن، وقعت 3 انفجارات استهدفت المطار بعد هبوط طائرة تقل جميع الوزراء، باستثناء وزير الدفاع، وأوقعت 26 قتيلاً وأصابت حوالي 110 آخرين. وحمّل تحقيق أممي في مارس 2021 الحوثيين مسؤولية هذا الهجوم.
ج- استهداف الأراضي السعودية: اعتاد الحوثيون على إطلاق صواريخ باليستية وطائرات من دون طيار على مناطق ومنشآت سعودية، مقابل إعلانات متكررة من المملكة إحباط هذه الهجمات، وسط إدانات عربية ودولية لهذه الجرائم الحوثية. وفي هذا الإطار، أطلقت ميليشيا الحوثيين 430 صاروخاً باليستياً و851 طائرة مُسيّرة مسلحة على أراضي المملكة منذ بدء الحرب في عام 2015، ما أسفر عن مقتل 59 مدنياً، وذلك وفقاً لما أعلنه التحالف العربي في اليمن يوم 26 ديسمبر الماضي. كما اتهم التحالف كلاً من إيران وحزب الله اللبناني بإرسال خبراء وعناصر إلى مطار صنعاء لمساعدة الحوثيين على إطلاق الصواريخ والطائرات المُسيّرة، وهو ما دفع التحالف إلى قصف أهداف عسكرية في العاصمة صنعاء الشهر الماضي.
كما ذكر تقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، ومقره واشنطن، أنه خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021، بلغ متوسط هجمات الحوثيين على السعودية 78 هجوماً شهرياً، و702 هجوم في المجمل. وهذا العدد ضعف تقريباً نظيره خلال الفترة نفسها من عام 2020، والذي بلغ المتوسط الشهري للهجمات فيها 38.
د- قرصنة الملاحة البحرية: يهدد الحوثيون حرية الملاحة في البحر الأحمر، معتبرين أن تنفيذ عمليات القرصنة البحرية قد يعتبر من أدوات الضغط للاستجابة لمطالبهم بشأن الأوضاع في اليمن، خاصة بعد تزايد الهجمات العسكرية ضدهم مؤخراً من جانب تحالف دعم الشرعية. وفي هذا الصدد، تعرضت سفينة الشحن "روابي" التي تحمل علم الإمارات للقرصنة والاختطاف من قِبل ميليشيا الحوثيين قبالة مدينة الحُديدة في مطلع يناير الجاري. وكانت هذه السفينة المُحتجزة تقوم بمهمة بحرية ذات طابع إنساني من جزيرة سقطرى إلى ميناء جازان، وتحمل على متنها كامل المعدات الطبية والميدانية الخاصة بتشغيل المستشفى السعودي الميداني بالجزيرة. وعكست هذه الحادثة الخطر الذي يمثله الحوثيون على حرية الملاحة البحرية والتجارة العالمية بمضيق باب المندب وجنوب البحر الأحمر.
3- تغير موقف واشنطن: مع وصول جو بادين إلى الرئاسة الأمريكية، أعلن تبنيه نهجاً مختلفاً عن سلفه دونالد ترامب بشأن حرب اليمن، حيث كان بايدن يعول على دعم المسار السياسي وإنهاء هذه الحرب. وفي هذا الإطار، قرر بايدن، في فبراير 2021، وقف دعم بلاده العسكري لعمليات تحالف دعم الشرعية، وإلغاء قرار ترامب السابق بتصنيف الحوثيين منظمة إرهابية، مع تعيين تيم ليندر كينغ مبعوثاً أمريكياً لدى اليمن. وقام كينغ على مدار العام الماضي بالعديد من الجولات في العواصم الخليجية والإقليمية لمناقشة سُبل حل أزمة اليمن، لكن من دون جدوى؛ في ظل تعنت الحوثيين ورفضهم كل مبادرات الحل السياسي، وإصرارهم على التصعيد العسكري في مأرب وتعز وغيرها. وهذا ما جعل المبعوث الأمريكي يوجه انتقادات متكررة للحوثيين، مُحملاً إياهم مسؤولية التصعيد العسكري، ومطالبهم بضرورة وقف إطلاق النار، والجلوس على طاولة المفاوضات.
وربما أدركت الإدارة الأمريكية الحالية خطأ حساباتها السابقة بشأن إمكانية انخراط الحوثيين في مفاوضات سياسية، لاسيما بعد اقتحام الميليشيا في نوفمبر الماضي مبنى السفارة الأمريكية بالعاصمة صنعاء واختطاف عدد من الموظفين وحراس السفارة. ثم جاء إقرار إدارة بايدن أول صفقة أسلحة أمريكية كبرى في عهدها للسعودية بـ 650 مليون دولار أواخر العام الماضي، ليكشف عن ملامح تغير إيجابي في موقف واشنطن من الرياض ودعم الشرعية في اليمن.
4- الضغوط المتبادلة مع إيران: اعتادت طهران توظيف وكلائها المسلحين في المنطقة، وعلى رأسهم الحوثيون في اليمن، من ضمن أدواتها للضغط، سواء في مفاوضاتها الجارية في فيينا مع القوى الدولية بشأن إحياء الاتفاق النووي، أو محادثاتها مع السعودية بوساطة عراقية لتهدئة التوتر بين البلدين. وبالتالي ربما أراد تحالف دعم الشرعية من خلال ضغطه العسكري الحالي على الحوثيين، تقليل استفادة إيران من هذه الميليشيا الانقلابية في ملفات إقليمية أخرى.
ختاماً، يمكن القول إن تحالف دعم الشرعية في اليمن يعيد حساباته من وقت إلى آخر بشأن طريقة مواجهة الحوثيين والتعامل معهم، ما بين المهادنة وإعطاء فرص للحل السياسي أو التصعيد العسكري المحسوب ضد أهداف مشروعة للميليشيا؛ وذلك وفقاً لتغير بعض الموازين ومناطق السيطرة والنفوذ داخل اليمن، فضلاً عن اعتبارات تأمين الجبهة الداخلية السعودية من هجمات الحوثيين الإرهابية، بالإضافة إلى مسار العلاقات مع القوى الدولية والأطراف الإقليمية ذات التأثير في اليمن ومدى التغير في مواقفهم.