كثفت طالبان هجماتها مؤخراً بالتزامن مع استكمال الولايات المتحدة سحب قواتها من أفغانستان، حيث أحدثت الجماعة فوضى عارمة في جميع أنحاء البلاد، واستولت على ما يزيد على ثلثي الأراضي الأفغانية، واقتربت من العاصمة كابول، وشددت الجماعة سيطرتها على الولايات المختلفة بالطرق العسكرية بالأساس، بينما أعلنوا أكثر من مرة، أنهم يريدون حل القضية بالطرق السلمية.
فقد قال الملا عبدالغني بردار، نائب زعيم طالبان، يوم الأربعاء الماضي، 11 أغسطس،: "نحن ملتزمون بالتوصل إلى حل دبلوماسي لقضية أفغانستان، فاتفاق الدوحة بين الولايات المتحدة وطالبان، والحوار الداخلي مع السلطات الأفغانية، دليلان على رغبة طالبان في حل القضية من خلال المفاوضات".
وعندما سقطت مدينة "هرات"، ثالث أكبر مدن البلاد، بشمال غرب أفغانستان، في 12 أغسطس، واستسلم قائدها العسكري إسماعيل خان، العدو اللدود لطالبان، أجرى أمير خان متقي، مفوض لجنة الدعوة والإرشاد بطالبان، محادثة هاتفية مع إسماعيل خان، يحثه فيها على مطالبة باقي قادة حزب الجمعية الإسلامية بإحلال السلام وإنهاء الصراع الدائر منذ 40 عاماً عن طريق المفاوضات. لذا فالسؤال هنا هو لماذا كثف مقاتلو طالبان من مستوى العنف وحرصوا في الوقت نفسه على مفاوضات "إحلال السلام"؟
أهداف طالبان من المفاوضات
من الواضح أن طالبان قد بدأت المحادثات ليس بغرض التوقف عن مساعيها العسكرية، ولكن لتحقيق بعض المكاسب الإضافية من ورائها.
أولاً، تحاول إرسال رسالة ضمنية للمجتمع المحلي والدولي بأن طالبان ليست مجرد جماعة متشددة، بل هي كيان سياسي، على استعداد للتواصل مع خصومه عبر القنوات الدبلوماسية. وفي هذا الصدد، كان مكتب الجماعة السياسي بمنزلة منصة ممتازة للدعاية لطالبان، حيث أتاح الفرصة للإسلاميين للوصول إلى جمهور أكبر من خلال وسائل الإعلام الدولية. وغالباً ما شددت طالبان في خطاباتها على أنها ملتزمة بحماية حقوق الإنسان، والمرأة والأقليات، في محاولة للظهور بمظهر الجماعة المعتدلة إلى حد ما.
ثانياً، استكمال مكاسبها "الدبلوماسية" السابقة، حيث تمكنت طالبان – بفضل محادثات السلام – من تحرير الآلاف من مقاتليها الذين اعتقلوا في سجون أفغانستان لسنوات، وهو لم يزد من شعبية طالبان بين جنودها فحسب، بل وعززت كذلك من قوتها العسكرية.
ثالثاً، يبدو أن أهم إنجاز حققته مفاوضات طالبان هو اتفاق الدوحة للسلام، فمن خلال هذه الصفقة، التي تم التوقيع عليها في فبراير 2020، وافقت الولايات المتحدة على أهم مطالب طالبان، وهو مغادرة القوات الأجنبية من أفغانستان. وقد أرضى توقيع هذه الصفقة مع حكومة الولايات المتحدة رغبات طالبان، كما منحهم شعوراً قوياً بالنصر.
وأخيراً، محاولة طالبان الحصول على الشرعية الدولية، وكسر "دائرة الحصار المحكمة" التي تعزلها عن العالم، ففي مقابل المواقف الغربية، كثفت الجماعة جهودها الدبلوماسية مؤخراً في محاولة منها لإقامة علاقات إقليمية بديلة، وفي هذا الإطار، أجرى قادة طالبان سلسلة من الزيارات إلى الصين وإيران وروسيا وتركمانستان.
تكثيف مستويات العنف
بشكل عام، كان النشاط المسلح بمنزلة العمود الفقري لتنظيم طالبان منذ بدء تمردهم في عام 2002. وعلى الرغم من أن الحرب الأمريكية في أفغانستان، والتي دامت لعقدين، تُعتبر الآن حرباً فاشلة على نطاق واسع، فقد احتفى بها كثيرون في عام 2001 واعتبروها حرباً ناجحة لأنها أزاحت طالبان بسرعة وبقوة. ولم يعد هناك وجود لنظام طالبان ككيان مادي منذ نهاية عام 2001، لذا كان من الصعب حينها تخيل عودة طالبان. ولكن في غضون سنوات قليلة، أعادت طالبان تنظيم كيانها مرة أخرى، واستطاعوا أن يشكلوا تحدياً لتحالف عسكري قوي، مثل الولايات المتحدة وحلفائها في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث تم إرسال أعداد كبيرة من الجنود لقتال طالبان بين عامي 2009 و2013، غير أنهم لم يتمكنوا من القضاء على التنظيم تماماً. والآن، ترحل الولايات المتحدة عن أفغانستان، تاركة وراءها جيشاً أفغانياً ضعيفاً ومنهكاً يوشك على الانهيار.
ومنذ أن بدأت الولايات المتحدة في سحب قواتها، بسطت طالبان سيطرتها الكاملة على أكثر من نصف مقاطعات أفغانستان البالغ عددها 421 مقاطعة. وبعدما حققت طالبان انتصارات كاسحة في المناطق الريفية بأفغانستان، بدأت بتوجيه مقاتليها نحو المدن الكبرى. وتشهد أفغانستان الآن تسلسلاً لتداعيات ذلك، حيث تتساقط عواصم الولايات الأفغانية واحدة تلو الأخرى، بل ومن دون أن يبدي بعضها أية مقاومة تُذكر.
ولقد سلّم محافظ غزنة مدينته يوم الأربعاء لطالبان مقابل صفقة عقدها مع المسلحين يضمن بموجبها أنهم لن يقتلوه. واليوم تسيطر طالبان على ما يقرب من 70٪ من ولايات البلاد البالغ عددها 34 ولاية.
ولقد أدت غزوات طالبان المتوالية إلى زيادة سيطرتها على طاولة المفاوضات. وما أشبه المحادثات الجارية بين الحكومة الأفغانية وطالبان الآن بحوار ميلوس إبان الحرب البيلوبونيسية قديماً! فمثلما خيّر أهل أثينا الأقوياء أهل ميلوس الأضعف بين الاستسلام أو الموت، لم تدع طالبان للحكومة على طاولة المفاوضات سوى خيار واحد: تنحي الرئيس غنى أو استيلاء طالبان على كابول بالقوة. ولما وجدت الحكومة الأفغانية أنها لن تربح شيئاً، بل وستفقد كل شيء، رفضت مطلب طالبان، وخاطبت فيهم الفضيلة والعدالة، وهي مبادئ لا تؤمن بها طالبان التي صارت أكثر جرأة، على الأقل الآن والوقت في صالحهم.
استمرار الاستراتيجية الهجينة
في ظل الوضع الراهن من المتوقع استمرار سيطرة الجماعة على البلاد بالقوة، حيث ألحقت الجماعة خسائر فادحة بصفوف القوات الأفغانية. والحقائق على الأرض تشير إلى أن الجيش الأفغاني لن يصمد طويلاً أمام هجمات طالبان، فكما صرح علي أحمد جلالي، الخبير العسكري الشهير بشؤون أفغانستان، فإن "السقوط السريع لثلث عواصم الولايات الأفغانية في غضون أسبوع واحد يكذب الادعاءات التي ترددت حول صمود قوات الأمن الأفغانية، فلقد انهارت سريعاً أمام تقدم مقاتلي الجماعة". ويرى جلالي أن ضعف القيادة وعدم الاتساق اللوجستي وغياب التنسيق العملياتي والتكتيكي قد أنزلت بقوات الأمن والدفاع الأفغانية أضراراً بالغة.
علاوة على ذلك، كان فقدان المدن الاستراتيجية، مثل سبين بولداك، على الحدود مع باكستان، وإسلام قلعة بغرب أفغانستان، وقندوز بالشمال، وزرنج القريبة من الحدود مع إيران، بمنزلة ضربة قاصمة للحكومة الأفغانية، فإلى جانب سيطرة طالبان على كمية هائلة من الأسلحة والمعدات من هذه المدن، تجمع طالبان الآن ما يقدر بنحو 2.5 مليون دولار من الضرائب كل يوم. ومع سقوط مزار الشريف الآن، وهي آخر مدينة استراتيجية في الشمال، فيشمر المتمردون عن سواعدهم استعداداً للاستيلاء على المدن الشرقية وعلى كابول. لذا يتوقع بعض المسؤولين الأمريكيين أن طالبان قد تعزل كابول في غضون 72 ساعة، أو خلال سبتمبر القادم.
وعلى الجانب الآخر، ستواصل طالبان "استراتيجيتها الهجينة" التي تجمع بين القتال والتفاوض في آن واحد، وذلك لأنه كلما زادت المكاسب العسكرية التي يحققها المتمردون، زادت سلطتهم في المفاوضات. ولقد بدأت يوم الأربعاء محادثات سلام جديدة مع طالبان، وعلى الرغم من أن نتائجها لم تتضح بعد، فإن المسؤولين يرون أن الوفد الأفغاني، بقيادة الدكتور عبدالله عبدالله، رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية في الحكومة، قد اقترح صفقة لتقاسم السلطة، مطالبين بموجبها جماعة طالبان بوقف هجومها العسكري على المدن الكبرى. ومع ذلك، ليس من المحتمل أن توقف طالبان هجماتها، لأنها تؤتي ثماراً لما شهدته الجماعة من قبل.
خلاصة القول إن المحادثات الدبلوماسية لطالبان وقتالها في ساحة المعركة يعزز كل منهما الآخر. وهكذا، فعلى الرغم من أن استيلاء طالبان على الدولة بأكملها بالقوة ليس مضموناً، فمن المؤكد أن هجمات طالبان العسكرية التي أعجزت الحكومة الأفغانية ستجبر الأخيرة على قبول مطالب الجماعة، وستحصل طالبان على نصيب الأسد في مستقبل البلاد، فكما جاء في حوار ميلوس: "القوي يفعل ما يحلو له، والضعيف يتحمل ما عليه تحمله".