لعل أبرز ملامح الميراث الذي خلفه الرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي إيتنو يتمثل في معضلة دولة "حارس البوابة". لقد تحولت تشاد منذ عام 1990 شيئًا فشيئًا لتصبح ركيزة محورية في الدفاع عن وحماية توازن الوهن في منطقة الساحل الإفريقي التي تشكل مركبًا صراعيًا بالغ التعقيد والتشابك. وفي ظل هذا الوضع تمكنت النخبة الحاكمة وشبكات المحسوبية التابعة لها من السيطرة على عائدات الموارد الطبيعية والضرائب والقروض والمساعدات الأجنبية. ولا يخفى أن هذه السيطرة على كل من السياسة والاقتصاد وإن حققت مكاسب لصالح أطراف إقليمية ودولية فإنها تزيد من المخاطر السياسية وخطر عدم الاستقرار السياسي. لقد كان محور اهتمام نظام ديبي الأب منذ وصوله للسلطة هو تأمين الدعم الدولي، ولا سيما من قبل فرنسا والولايات المتحدة وحتى إسرائيل، والحفاظ على التحالفات الداخلية، ومواجهة المتمردين الذين حاولوا الإطاحة به عنوة أكثر من مرة، وخوض الحروب بالوكالة في منطقة الساحل التي تعجّ بالتنظيمات الإرهابية العنيفة وجماعات الجريمة المنظمة.
في ظل هذا الوضع الذي يتسم بالهشاشة البالغة تمكّن ديبي من السيطرة على "البوابة" وتوزيع الدخل من خلالها. والبوابة هنا تعبير رمزي يشير إلى نقطة التقاء الداخل بالعوائد الاقتصادية الخارجية. ولعل السيطرة على البوابة بهذا المعنى تجعل النخبة السياسية أكثر تحررًا من قيود الاستجابة لهموم المجتمع المدني.
لم يكن مستغربًا أن يشعر الساسة وخبراء الأمن في الدول الغربية والأطراف الإقليمية المعنية بمحاربة الإرهاب في إفريقيا بالقلق الشديد من رحيل الرئيس ديبي المفاجئ ومن عواقب ذلك على الأمن والاستقرار الإقليميين. اتضح ذلك بجلاء في إظهار دعمهم الشديد لتولي الجنرال محمد ديبي إيتنو (كاكا) رئاسة المجلس الانتقالي المؤقت خلفًا لأبيه، وذلك بغض الطرف عن حالة عدم الاستقرار المتأصل في البلاد. وعليه فإن التحدي الأكبر يتمثل في ضرورة التركيز على تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، والذي يتطلب وصولًا أوسع لعوائد "البوابة"، ولعل ذلك يفرض علينا فهم نموذج سياسة حارس البوابة في تشاد. إن مثل هذا التحليل يؤكد لنا أن ميراث ديبي الخاص بحراسة البوابة قد لا يكفي لإضفاء الشرعية على النظام السياسي الجديد في تشاد. وعليه، يسعى هذا المقال إلى تحليل نموذج دولة حارس البوابة في السياق الإفريقي، وخبرة تشاد في هذا السياق، وتحديات مرحلة ما بعد الرئيس الراحل ديبي.
نموذج "حارس البوابة":
كتبنا في أكثر من موضع عن أزمة دولة ما بعد الاستعمار في إفريقيا، وكيف أنها ظلت تمثل بيت الداء لعقود من الزمان، الأمر الذي جعلها تشكل لغزًا محيرًا لعلماء السياسة. في كتابه عن إفريقيا منذ عام 1940 (الماضي والحاضر) طرح المؤرخ فريدريك كوبر مفهوم دولة حارس البوابة. لقد أصبح تحديد كوبر لنمط الدول الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إفريقيا بحسبانها دولًا "حارسة" للبوابة نموذجًا مؤثرًا للتفكير في هذه الدول وعلاقاتها بالقوى الخارجية بالإضافة إلى المصالح المحلية. وشكلت عملية التحكم في تدفقات الموارد داخل وخارج الموانئ والعواصم المصدر الأساسي للإيرادات العامة، وهو ما أثر بدوره على البنية التحتية والمؤسسات في الدول الإفريقية.
ونادرًا ما تغير هذا النمط في مرحلة ما بعد الاستقلال. لقد أثبت نموذج "حارس البوابة" أنه مفيد بشكل خاص لأنه يحدد الروابط المتميزة بين السياسة والاقتصاد في الدول الإفريقية، ويوفر إطارًا تحليليًا يستطيع الربط بين السياسة والاقتصاد من جهة والعلاقات الدولية من جهة أخرى. وفي الوقت الذي أظهرت فيه الدولة الحارس بهذا المعنى أنها كانت أفضل طريقة لضمان دخل الدولة، فإن الآثار السياسية لها لم تحظَ بالأهمية نفسها في تفسير استمراريتها. قدم شكل الدولة هنا حلًا سياسيًا قويًا للدول الهشة، مما حدّ من المنافسة وضمن الاستقرار. كما أنه يساعد من جهة أخرى في تفسير سياسة (الفائز يحصل على كل شيء) أو سياسة المباراة الصفرية التي لا تزال سائدة في العديد من الدول الإفريقية. إذا وضع المرء نفسه خارج المركز السياسي، سواء من الناحية المؤسسية أو الثقافية، فإن فرصه في الحصول على المكاسب تكون محدودة أو منعدمة، وذلك هو التحدي الأكبر!.
من خلال دراسة التقاطعات والتشابك بين "الداخلي" و"الخارجي"، يتيح توصيف كوبر لدولة حارس البوابة تحليل الطرق التي ساهم بها اندماج الدول الإفريقية في النظام السياسي والاقتصادي الدولي في تشكيل بنية الدولة نفسها. نتيجة لذلك، على الرغم من أن النموذج معروف بشكل أفضل بين علماء السياسة المقارنة، إلا أنه أثبت أيضًا جاذبيته للدارسين في حقل العلاقات الدولية، أو دارسي قضية الدولة الإفريقية التي تعكس معضلة التشابك بين القوى الخارجية والداخلية. ومع ذلك، شهدت العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين أيضًا تحولات جذرية في السياسة والاقتصاد في القارة.
ومنذ نهاية الحرب الباردة، تعرضت الدولة لضغوط الإصلاح والحوكمة، خاصة مع التركيز على العوائد والنفقات العامة. لكن الارتفاع الهائل في تدفقات الإيرادات الخارجية الجديدة، مثل الاستثمارات والقروض من القوى الدولية الصاعدة (الصين، والهند، والبرازيل)، إلى جانب الاهتمام المتجدد من جانب قوى دولية أخرى (روسيا، وتركيا، ودول الخليج)، يوفر المزيد من الفرص للتغيير الاقتصادي والسياسي المتشابك. وإذا أخذنا بعين الاعتبار تحولات قوى العولمة الجديدة مثل وسائط التواصل الاجتماعي لوجدنا أن الاستراتيجيات السياسية القديمة للحفاظ على السيطرة من قبل دولة حراسة البوابة تفقد قيمتها بشكل كبير. لقد أضحى نموذج "إفريقيا الصاعدة" الذي يبشر بطبقة وسطى إفريقية جديدة يمثل تحديًا كبيرًا لنموذج كوبر الخاص بمفهوم دولة حراسة البوابة.
أسس نظام "ديبي":
اعتمد نظام دولة حراسة البوابة في تشاد -طبقًا للعديد من الخبراء- على ثلاثة جوانب أساسية وإن بدت متعارضة. أولًا تأمين الدعم الدولي، وثانيًا السيطرة الأمنية على الحدود الإقليمية، وثالثًا الحفاظ على التحالفات الداخلية بما يحقق ما أطلقنا عليه اسم توازن الوهن، وهي الحالة التي قد تدفع إلى موت السياسة على الصعيد الداخلي. ويعني ذلك أن أولويات النظام الحاكم كانت تتمثل في تحقيق استراتيجية البقاء، وليس توطيد أركان الدولة أو إقامة علاقة صحية بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني. حصل الرئيس ديبي على دعم دولي من خلال الانضمام إلى الحرب العالمية على الإرهاب في الساحل. كما استخدم عوائد النفط والمساعدات الغربية في بناء جيش وطني قوي.
ولقد أضحت تشاد تحت زعامة ديبي الدولة الوحيدة التي نفذت جهودًا متميزة لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، ولا سيما اتخاذها زمام المبادرة في الحرب على جماعة "بوكو حرام". كما ساعدت فرنسا ضد الجماعات الجهادية في شمال مالي. وتسهم تشاد كذلك بمعظم القوات المشاركة في مهمة الأمم المتحدة في مالي، وتقود قوة الساحل المشتركة لمجموعة الدول الخمس لمكافحة الإرهاب.
ومن خلال السيطرة على الحدود الهشة، ولا سيما مع دول الجوار الضعيفة مثل ليبيا والنيجر وإفريقيا الوسطى والسودان، أضحت الدول الغربية تنظر إلى تشاد باعتبارها عامل استقرار وركيزة استراتيجية وشريكًا أساسيًا مهمًا في منطقة الساحل. وفي المقابل، حصل نظام الرئيس ديبي على الدعم الغربي بغض النظر عن سجل الحوكمة وحقوق الإنسان الخاص بنظام حكمه. فعلى سبيل المثال، استخدمت فرنسا قاعدتها العسكرية في نجامينا للتدخل عسكريًا عدة مرات لحماية النظام، كان آخرها في عام 2019 عندما قامت الطائرات الفرنسية بقصف قافلة من المتمردين التابعين لتنظيم اتحاد قوى المقاومة.
وعلى صعيد آخر، استفاد نظام ديبي من سياسة حراسة البوابة في الحصول على تأييد جماعته العرقية وقاعدة التأييد السياسي له، قبيلة الزغاوة التي تعيش عبر الحدود في كل من تشاد والسودان. ويشغل أعضاؤها مناصب قوية في الحكومة والجيش، ويستفيدون من عوائد صادرات النفط والقطن. لقد استطاع النظام بناء شبكة من الأتباع التي تقوم بتوزيع الدخل الناجم عن عوائد التجارة عبر الحدود مع الكاميرون ونيجيريا.
ومع ذلك فإن المتغيّر العرقي ليس حاسمًا في الصراع الداخلي التشادي الذي تحكمه كما ذكرنا آليات المنافسة على السيطرة على عوائد حراسة البوابة. ثمة قوى للتمرد تتألف بشكل أساسي من ضباط الزغاوة الساخطين والذين ينتمون لعائلة الرئيس ديبي نفسه، كما أن هناك قوى أخرى للتمرد تقودها عناصر من قبيلة التبو، التي ينحدر منها الرئيس السابق حسين حبري، الذي أطاح به ديبي من السلطة في عام 1990.
مستقبل الجنرال "كاكا":
لعل أبرز التساؤلات المتعلقة بمستقبل نظام ما بعد ديبي في تشاد تتمثل فيما يلي: هل يقوم النظام الحاكم بتطوير أشكال جديدة للدولة استجابة لتغير نمط الاندماج في النظام الدولي؟ أم إن نموذج الدولة حارس البوابة يبقى مهيمنًا على الرغم من هذه التحولات؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما الآثار المترتبة على الاستقرار والأمن الداخلي والجهات الفاعلة الخارجية؟ وما هي الدروس المستفادة؟. لقد استطاع النظام التشادي الجديد، بقيادة الجنرال محمد ديبي إيتنو، الحصول على الدعم الداخلي والإقليمي والدولي، وأعلن أنه سيجري انتخابات بعد عام ونصف. كما أنه استجاب للضغوط الدولية بإمكانية تغيير بعض بنود الوثيقة الدستورية الانتقالية. ولكن يظل التحدي الأكبر يتمثل في قدرة النظام على تحقيق استراتيجية توازن الوهن للحفاظ على بقائه في ظل بيئة إقليمية بالغة التعقيد من الناحية الأمنية.
يُظهر تاريخ تشاد في مرحلة ما بعد الاستعمار أن فقدان السيطرة على أحد الجوانب الأساسية الآتية: تأمين الدعم الدولي، والسيطرة على الحدود الإقليمية، والحفاظ على التحالفات الداخلية؛ يمثل تهديدًا وجوديًا للنظام الحاكم. وإذا ضمن المجلس الانتقالي الحصول على الدعم الدولي في الوقت الحاضر، فإن إدارة التحالفات الداخلية ومراقبة الحدود تعد أكثر الاهتمامات إلحاحًا. قد يبدو واضحًا أن أغلب مكونات المعارضة السياسية تؤيد عملية الانتقال التي يقودها المجلس العسكري، وهو ما يضفي بعض الشرعية على النظام الجديد. على أن عملية السيطرة على الحدود بهدف منع المتمردين من استخدام جنوب ليبيا كملاذ آمن ونقطة انطلاق صوب نجامينا تضفي مزيدًا من الغموض على عملية الانتقال الهش في تشاد.
وختامًا، فإن الأوضاع الأمنية القلقة في تشاد تنذر بإمكانية تشكيل مزيد من التمردات المسلحة، كما أن عملية الانتقال السياسي في بلد يتم فيه تنظيم العديد من المؤسسات على أسس عرقية قد تؤدي لا محالة إلى إعادة إنتاج النظام القديم. وعليه فإنه إذا استمرت تشاد في مسارها الحالي وعدم توسيع قاعدة المشاركة السياسية ومشاركة مؤسسات المجتمع المدني، فإن هناك احتمالًا لتكريس نفس سياسات دولة حراسة البوابة القديمة.
من المهم استبعاد الحلول العسكرية الصارمة في مواجهة أزمات الدولة الداخلية والخارجية، وإعطاء الأولوية للحلول السياسية والتنموية، وفي الوقت نفسه ينبغي تجنب مسار الانتقال العسكري الصرف بعيدًا عن القوى المدنية. ولعل ذلك يتطلب مزيدًا من الضغط على المجلس العسكري الانتقالي لمعرفة التنازلات التي يمكن الحصول عليها، وهنا يتعين على الشركاء الدوليين، ولا سيما فرنسا، تحمل المسؤولية في هذا السياق.
إن من المهم أخذ واقع تشاد من حيث الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية بعين الاعتبار. وفي نهاية المطاف ينبغي أن يحدد التشاديون أنفسهم مستقبل بلادهم.