لا شك في أن أحداث 6 يناير الجاري قد مثلت علامة فارقة في الجدل الدائر حول مستقبل القوة العظمى الأولى في العالم، فقد تعرضت الولايات المتحدة لتحديات حقيقية منذ بزغ دورها كقائدة للنظام العالمي عقب الحرب العالمية الثانية، وتمثل أخطر هذه التحديات في منافسة القوة السوفييتية الصاعدة التي وصلت في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي إلى مستوى التوازن الاستراتيجي معها، بل إن انسحاب القوات الأميركية من فيتنام الجنوبية عام 1973 ثم سقوط عاصمتها سايجون في عام 1975 في أيدي الجيش الفيتنامي الشمالي المدعوم من الاتحاد السوفييتي والصين، بدا لدى البعض علامة على قرب تحقق النبوءة الماركسية بانتصار الاشتراكية. غير أنه سرعان ما بدأ العكس يحدث بعد عقد من الزمان بوصول جورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفييتي واتباعه سياسات إصلاحية انتهت بتفككه في عام 1991، لتنفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم وتشيع مقولات الانتصار التاريخي للرأسمالية ونهاية التاريخ. لكن روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، بدأت تستعيد عافيتها بعد وصول بوتين إلى السلطة في عام 2000. كما واصلت الصين مسيرتها الواثقة إلى القمة لتمثل تحدياً حقيقياً للقيادة الأميركية للعالم، وإن كانت الولايات المتحدة قد أثبتت غير ما مرة قدرتها على مواجهة التحديات الخارجية بحيث أن الخطر الحقيقي عليها بدا في الآونة الأخيرة داخلياً.
وكانت رئاسة ترامب مناسبةً لتفاقم الخلافات الداخلية في الساحة الأميركية بسبب قاعدة البيضاء التي كرّست الانقسامات العرقية. كما أن التطورات الأخيرة الخاصة بهزيمته في الانتخابات وإصراره على رفض الاعتراف بنتائجها رغم سقوط كافة الدعاوى القضائية لأنصاره، صبّت مزيداً من الزيت على نار هذه الانقسامات. ثم وصل الأمر ذروته بدعوته أنصارَه إلى التجمع أمام الكونجرس يوم تصديقه على نتائج الانتخابات كمحاولة لمنع هذا التصديق، في عمل غير مسبوق في التاريخ الأميركي. وزاد الطين بلة اقتحامُهم مبنى الكونجرس وقيامهم بأعمال شغب داخله، على نحوٍ ألحق ضرراً بليغاً بصورة الولايات المتحدة، وهو تصرف تمت إدانته داخلياً بشكل قاطع، حتى من الدوائر المسؤولة في الحزب الجمهوري. كما تمت إدانته خارجياً من حلفاء الولايات المتحدة. وقد دفعت هذه التطورات إلى إذكاء الجدل حول مستقبل الولايات المتحدة التي يرى البعض أن مآلها سوف يكون إلى التفكك، سواء بسبب الانقسامات العرقية وإشكالية عدم المساواة بين مكونات المجتمع الأميركي أو السياسات التي اتبعها ترامب، والتي أفضت إلى تأجيج تلك الانقسامات وصولاً إلى أحداث 6 يناير التي مثلت بالفعل محاولة لتغيير النظام الأميركي. ويزيد من خطورة هذه المحاولة أن أنصار ترامب قد بلغ عددهم وفقاً لنتائج الانتخابات قرابة 74 مليون ناخب، أي ما يقل عن أنصار بايدن بحوالي ستة ملايين فحسب، لذا فثمة انقسام حقيقي في المجتمع من شأن تفاقمه أن يهدد تماسك الولايات المتحدة، بل إن البعض يتحدث عن تفككها، غير أن الأمر ليس على هذا النحو من البساطة، أولاً لأن تفكك الإمبراطوريات، مع أنه حقيقة تاريخية، ينطوي على عمليات تاريخية بالغة التعقيد، وثانياً لأن المؤسسات الأميركية في هذه الأزمة أثبتت صلابتها دون استثناء. فقد كان أداء المؤسسة القضائية موضوعياً ورفيعاً، كذلك لم يتردد الكونجرس في أداء واجبه بعيداً عن الانتماءات الحزبية لأعضائه، بل إنه حتى المؤسسة التنفيذية نجحت في الاختبار نجاحاً واضحاً، فلم يخضع حكام ولايات جمهوريون لضغوط ترامب لتعديل نتائج الانتخابات، ورفض نائبه ممارسة أي تأثير على الكونجرس، واستقال العديد من المسؤولين في إدارة ترامب احتجاجاً على سلوكه، وحتى دوائر الحزب الجمهوري رفضت بالمجمل تأييده في مواقفه الأخيرة. ومع ذلك يبقى الجدل مفتوحاً حول مستقبل الولايات المتحدة.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد