لا أدري متى تذهب السكرة وتأتي الفكرة، ولكنها في الحالة اللبنانية ملحة، لأنَّها هيكلية لا تخص لبنان وحده، وإنما تخص المنطقة كلها التي تعتمد على بعضها البعض في السراء أحياناً، وفي الضراء في معظم الأحيان. فك ألغاز كل ما سبق يبدأ بأن السكرة ليس مقصوداً بها أمر سار، وإنما هي في بلاد أشجار الأرز لها معنى آخر، وهو في وقتنا هذا انفجار مرفأ لبنان الذي تشابه مع انفجارات الإبادة الكبرى. ولم تأت السكرة من الانفجار وحده، وإنما هي في المكانة التي تحتلها بيروت ولبنان كلها بجبلها وساحلها في نفوس العرب وغيرهم. في بلاد العرب كانت لبنان دوماً واحة عجيبة في تناقضاتها وحروبها الأهلية، وأوقاتها السلمية، وطربها، وما فيها من عذوبة، كلها منغمسة في دهشة حجم السلاح الموجود فيها. تحليل المضمون الذي يجري على المقالات والتحليلات يشير إلى دمعات دافقة جرت من كثيرين، مغموسة في أغاني فيروز وشعر نزار قباني، واستدعاء لمطاعم وآهات غناء جرت في يوم صيف أو أيام ربيع. خارج العالم العربي ظهرت لبنان ذات صفات خاصة متميزة، ربما لوجود اعتقاد دولي أن لبنان يمكنها أن تمثل المستقبل لجماعة العرب، حيث يعيش الناس جنباً إلى جنب في سويسرا إقليمية من البنوك الآمنة والمتعة البشرية. الفكرة في لبنان لم تكن كذلك، والشواهد أنه بالنسبة لبلد في حجمه، وعدد سكانه، عرف حروباً أهلية أكبر منه بكثير، وتعامل مع حركات سياسية مسلحة، وغير مسلحة، من خارجها، فضلاً عن أجهزة مخابرات من كل نوع، كما لم تتعامل دولة كبرى. وحينما تساءل كاتب لبناني عن «حبيبتي الدولة» كان الواقع أن الدولة مثل كثرة من الأحباء غائبة. وبعد الواقعة تدافع العالم إلى تسجيل مواقف اللهفة على البلد المغدور، فلم يكن المشهد عادياً، ولا كانت بقاياه في العين إلا منظراً قادماً من أفلام ما بعد الفناء النووي. ووصل الجميع، أو مندوبون كبار عنهم، وتوافقوا على تقديم المعونة اللازمة، ومن بعدها ربما آن للصفحة كلها أن تدور وتحل محلها صفحات أخرى.
كانت «الفكرة» الغائبة لغزاً كبيراً، أنه في اللحظة التي توافق فيها العالم على تقديم العون للبنان، كانت الوزارة اللبنانية قد استقالت، ولم يعد هناك عنوان تذهب إليه المعونة، فضلاً عن بعضها الذي يحتاج مفاوضات للتسليم والتسليم والإنفاق الواجب، خصوصاً أن الصيحة اللبنانية باتت أنه في ظل كل الفساد في لبنان، فلا أمان لمعونة مالية على وجه الخصوص. وما جعل اللغز معقداً أكثر من اللازم هو أن الحراك اللبناني عاد مرة أخرى، طالباً من النخبة السياسية كلها «الرحيل». الرحيل ليس كلمة جديدة على الدول العربية في العشر سنوات الأخيرة، فقد كانت «ارحل» هي التي رحل على أثرها زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، وعلي عبد الله صالح في اليمن، وبعد حرب أهلية صغيرة رحل معمر القذافي أيضاً. الوحيد الذي لم يرحل كان بشار الأسد، وكان ثمن البقاء فادحاً، ليس فقط في عدد القتلى والجرحى واللاجئين والنازحين، وإنما فيما جرى للدولة الشقيقة من استباحة دول أخرى. في كل هذه البلدان كان هناك عنوان للرحيل أو عدمه، ولكن في لبنان، فإن عنوان الرحيل صعب، لأنه ليس معلوماً من الذي سوف يشغل مكان السلطة في البلاد. إذا كان هناك من درس نتعلمه من تجربة السنوات العشر السابقة هو أنه لا يصح لحراك أن يتحرك ما لم يكن مستعداً لطرح عنوان تذهب إليه المعونات، وعنده تبدأ عملية بناء واسعة لدولة وطنية حديثة. الإضافة اللبنانية، والعراقية أيضاً في الحقيقة، هي أن الدولة الطائفية قد فشلت، أو أنها لم تعد مناسبة للعصر، بقدر أنها لم تكن لائقة ببلد في ثقافة وعراقة لبنان.
ولكن الدولة الوطنية مشروع كبير، وإذا كانت الدولة حبيبة، فمهرها غالٍ، وليس كله نقداً وعيشاً، وإنما هو جمعية وشرف جماعي للانتماء والفداء. مثل ذلك بالتأكيد لم يحدث من قبل النخبة الحالية وجذورها الطائفية الموغلة في مستنقع فساد فصل القيادات السياسية عن الطائفة، وتركها لمصيرها. الفصل جاء خوفاً من الاغتيال من الجماعة المسلحة لـ«حزب الله»، وجاء أيضاً من الطمع الذي سمح به الحزب ذاته في واحدة من صفقات التدمير التاريخية، التي استمرت من 2006 حتى الآن. لم يكن الحزب لبنانياً في أي لحظة، فصور آيات الله كلها من قم الإيرانية، وعندما قابلت الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ذات يوم من عام 2001، لم يكن في الحجرة إلا علم الحزب، لم يكن للبنان علم في الآيديولوجية. نقطة البداية هنا ليست في توافق جديد بين الأحزاب، أو بين الطوائف، وإنما هي عما إذا كانت الطوائف جميعها، التي يهددها جميعاً الفقر والمسغبة وخطر العدوان من جميع الاتجاهات، والتشرد واللجوء، على استعداد، لكي تبدأ من داخلها. «حزب الله» وكافة الميليشيات الأخرى أياً كانت مسمياتها وزعامتها ليست معلقة في الفراغ، وإنما هي موجودة طالما عاشت الطائفة على أكذوبة توفير المال والمكانة لزعامات تتوارث الزعامة كما تتوارث القصور، وكلها لها قدم في بيروت، بينما قدمها الآخر في باريس أو جنيف أو طهران.
الدولة الوطنية مشروع شعبي في المقام الأول يحدث إذا ما سار الحراك اللبناني في مساره السلمي، وبوضوح تدعمه جماهير الشيعة والسنة والمسيحيين والدروز وكافة الجماعات الأخرى، التي قررت أن تكون جماعات وطنية، وليس طوائف مسلحة. في هذه الحالة، فإن أهم خصائص الدولة الوطنية هي أنها الكيان السياسي الذي يحتكر حق الاستخدام الشرعي للسلاح والأمن، وهو الذي يتخذ قرارات الحرب والسلام، وليس شيخاً أو إماماً أو عاصمة أجنبية تفوض نفسها دفاعاً وهجوماً، مع الاحتفاظ بحق شرعي في ارتكاب أخطاء الحسابات! مثل ذلك يبدو بديهياً في أي دولة وطنية، ولكنه ليس كذلك في لبنان، ومن عجب أن العالم تعود على التعامل مع هذا الشذوذ الذي يمثله «حزب الله»، جل وعلا شأنه. وفي عام 1958، قام الجيش اللبناني بقيادة فؤاد شهاب بإنقاذ لبنان من الحرب الأهلية، وهذه المرة ربما يكون نصيبه هو أن تتجنب لبنان تلك الحرب، وتحضيرها لقيام دولة وطنية بعيدة عن دولة المحاصصة التاريخية التي عاشت عليها طوال العقود الماضية.
مثل ذلك يعطي لبنان عنواناً مختلفاً عن كل العناوين السابقة، ولعله سيشكل إضافة لبنانية لكل الدول العربية التي قامت على تركيبات طائفية، كما هو الحال في العراق التي فرض عليها النموذج اللبناني باعتباره الخلاص الذي لا مسار غيره. في الحقيقة والواقع كان ذلك عنواناً لخراب لا نهاية له، وضاعت معه الدولة العراقية التي هي الأخرى لديها حراك يبحث من جديد عن الدولة الوطنية. هي لحظة لبنانية صعبة نعم، ولكنها ربما تكون أيضاً اللحظة الممكنة التي عندها يحصل اللبنانيون فيها على وطنهم ودولتهم.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط