تبدو الإنسانية منذ نهاية ديسمبر (كانون الأول) المنصرم، التوقيت الذي ظهرت فيه أزمة فيروس كورونا في الصين، أنها تمضي في مسارات ما يمكن أن نسميه مدارات الفوضى، تلك التي بدأت في العقد الحادي والعشرين بإرهاب غير مسبوق، وعنف معولم عابر للحدود وقافز على السدود، ثم حروب عابرة للقارات بدورها، وكأن العالم دخل سياق الحرب العالمية الثالثة وإن جاءت مجزأة، ثم تغيرات مناخية تكاد تغير خريطة العالم جغرافياً، وفي إثرها تبعات ديموغرافية شديدة الوعورة والخطورة، ولدت هجرات غير نظامية، وفي القلب من هذا كله صراعات قطبية بين ما هو قائم وما هو قادم، لتصل البشرية إلى الفصل الأخير، ولو مؤقتاً، فصل كورونا الغامض.
يخطئ من يجزم أنه يملك فهماً شافياً وافياً لما يجري، غير أن كورونا قد عرت الإنسانية وعن حق، وأثبتت أن الإنسان ضعيف، وأن ضعفه أمام الطبيعة وبقية الكائنات الحية ظاهر للعيان، وإلا فكيف لفيروس لا يلحظ إلا عن طريق الميكروسكوبات المعظمة أن يضرب بقسوة البشرية التي تفاخر بأنها صعدت إلى القمر، وعما قريب ستجد طريقها إلى المريخ.
غير أن «مسلسل الأحداث الكورونية»، إن جاز التعبير، ربما يكشف لنا عن بضعة دروس، جلها يدعو الإنسان لقليل من التواضع أمام كون فسيح، فيه المخلوق البشري جرم صغير لا أزيد.
بداية كشف كورونا عن بشرية مهلهلة، نسيجها الاجتماعي ممزق، تتقاذف الاتهامات نهاراً، وتتبادل الشكوك والهواجس ليلاً، بين من يرى أن الفيروس صناعة مختبرية أميركية لوقف تقدم الصين على الصعيدين الأفقي والرأسي تجاه القطبية الدولية، رغم أنه من أبجديات الكون أنه مجبول على الثنائية منذ الأزل هناك خير وشر، ليل ونهار، شدة وفرج، روم وفرس. وبين من يرى أنها الأطماع الصينية في السطو على مقدرات العالم، عبر فيروسات أعدت بليل بهيم، وحين خرجت عن السيطرة، كان التفسير الديماغوجي ينحو لجهة القول بأن المشهد نتاج لأكلات شعبية صينية.
أثبتت تجربة كورونا المؤلمة أن الإنسان قلق، رغم كافة ما حققه من إنجازات، قلق أمام المجهول، وما أكثره، باحث عن مصيره عبر مصباح ديوجين، وفي هذا الدرب قد يلجأ إلى العنف، وربما يفضل العنصرية لكي يحمي نفسه، لم يتغير كثيراً، الخوف يطارده، والجواب على لسانه «هل أنا حارس لأخي».
تجلى العنف والخوف معا تجاه الآسيويين عامة والصينيين خاصة، قبل مرحلة الإنفلاش التي ضربت أوروبا وأميركا، وبقية قارات المعمورة، لتدخل الخليقة مرحلة مؤكدة من القلق المجتمعي والنفسي، لا يعلم إلا الله إلى أين سيقود إنسانية معذبة، لا سيما إذا طال ليل كورونا من غير فجر يمحو مخاوف ظلامها الذي خيم على الأرض.
أثبتت كورونا أن الإنسان وهو مدعو إلى التواضع أمام عظمة الخالق، مدعو أيضاً لإعمال أثمن هدية ربانية، العقل الثمين، وفتح المسارات العلمية أمامه ليبدع يوماً تلو الآخر، وليهزم الخوف الكامن في جوفه، وبنوع خاص حين تعتريه اختبارات قدرية غير متوقعة، من غير أن يورثه هذا العلم انتفاخاً واهياً، فالعلماء ورثة الأنبياء، وبالتالي هم أصحاب رسالة إنسانية وإيمانية، هدفها الإنسان كقضية، والإنسان أيضاً كحل.
نأمل أن تأزمة كورونا أهمية مجال الدراسات الاستشرافية، وتقديرات الموقف الاستباقية، إذ يبدو من الواضح أن العالم سيشهد على سبيل المصادفة القدرية أو الموضوعية محناً أخرى من هذا النوع في مدار الفوضى الآني. ولعل الأوبئة والأمراض الفتاكة التي كانت إلى وقت قريب مجال أفلام الخيال العلمي، والآن تجاوز الواقع الخيال، تقتضي نوعاً من السيناريوهات التقدمية، من عينة المراكز الطبية والمستشفيات الخاصة بالنوازل، وهي غير البنى التحتية التقليدية، أي مواجهة أزمات لم تحدث بعد، والاستعداد لها كأنها حادثة في الغد، لا سيما إن انكشفت القارعة وتم التأكد من أن كورونا لم تكن إلا مشهدا ضمن مشاهد الإرهاب البيولوجي، كأداة مستعارة من جديد من زمن الحرب العالمية الأولى بنوع خاص.
في زمن الكورونا جرت المقادير بما لم تجر به في أزمنة أوبئة أخرى عرفها العالم من قبل، وقد كان بعضها أشد فتكاً كالطاعون الأسود، أو الإنفلونزا الإسبانية، أي التواصل الإنساني عبر تكنولوجيا الإنترنت والهواتف الذكية ووسائط التواصل الاجتماعي، ورغم أن قلة حاولت استخدامها بشكل سلبي، فإن الواقع يخبر بأنها أفادت كثيراً في تقليل الخسائر من خلال إتاحة المعلومات بشكل إيجابي، الأمر الذي يعزز الحاجة إلى هياكل تكنولوجية داخل مدن ذكية تكون ملاذاً للإنسانية حال تكرر المشهد، أو اضطر الإنسان لمواجهة هجمات بيولوجية أو غضبات طبيعية، ترشح اليوم وسط أزمنة الحرب الإيكولوجية التي تشنها الطبيعة على الإنسان، انتقاماً منها لامتهانه لها عبر عقود وقرون طوال الزمن.
طويلاً جداً اقترح البعض أن يقود الفلاسفة العالم، والآن يطفو على السطح تساؤل قريب وشديد الشبه «هل العالم في حاجة إلى مجلس أوصياء من النخبة، من علماء وفهماء، وحكماء ومشيرين، وفلاسفة ومفكرين، لاستنقاذ الكرة الأرضية من وهدة الهاوية المتعددة الأشكال؟».
الخلاصة.... «كورونا» كشف هشاشة النظام القيمي العالمي إلى حين إشعار آخر.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط