تحاول روسيا تكريس نفوذها البحري في شرق البحر المتوسط من خلال الاستحواذ على ميناء طرطوس السوري، في إطار تواجد رسمى دائم عبر إبرام اتفاق قد يتم توقيعه مع النظام في الفترة القادمة، لمدة تصل إلى نحو نصف قرن، وفقًا لما أعلنه نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف عقب زيارة إلى دمشق في 20 إبريل 2019. ولا تبدو تلك الخطوة مفاجئة في إطار مسار العلاقات الروسية – السورية وبالنظر لدور روسيا في منع سقوط نظام الأسد، فثمة كثير من المؤشرات التي تكشف عنها التصريحات والإجراءات الروسية التي بدأت نهاية العام قبل الماضي مع إبرام اتفاق توسيع مركز إمداد الأسطول الروسى في قاعدة طرطوس.
ومن المتوقع أن يرتب هذا التطور، في حالة حدوثه، تداعيات عديدة تتجاوز مستوى طبيعة تعزيز العلاقات الثنائية بين الدولتين. فتاريخيًا يحسب تواجد روسيا في المياه الدافئة في معادلات ميزان القوى الدولية والمتغيرات الهيكلية في حركة النظام الدولي، وهى الحسابات ذاتها التي تطرح نفسها مع عودة روسيا إلى التركيز على طرطوس، التي كانت، خلال سبعينيات القرن الماضي، القاعدة البحرية لسفن السرب الخامس على البحر المتوسط للاتحاد السوفيتي.
خطوات محسوبة:
في 28 ديسمبر 2017، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال لقائه الضباط المشاركين في العملية الروسية في سوريا: "تبقى على الأراضي السورية للعمل بشكل دائم، نقطتان روسيتان للتمركز، إنهما مدرج طيران حميميم وميناء طرطوس. هذا عامل مهم لحماية مصالحنا القومية، وتوفير أمن روسيا في إحدى الاتجاهات الاستراتيجية الرئيسية".
وخلال تواجدها في سوريا الذي بدأته منذ سبتمبر 2015، ركزت روسيا بالفعل على تلك الاستراتيجية، حيث قامت بتأسيس مركز القيادة العسكرية في قاعدة حميميم، وعلى التوالي عززته بمنظومات دفاع جوي متنوعة من أحدث الطرازات المنتجة محليًا والتي تنافس بها منظومات الدفاع الجوي عالميًا.
وبالتزامن مع ذلك، أعادت روسيا ترميم قاعدة طرطوس البحرية، في إطار الاتفاق العسكري المبرم مع النظام. وفي هذا السياق، بدأت خطوات ترسيخ التواجد العسكري بشكل متدرج. ففي أكتوبر 2016، أعلنت أنها تقوم بأعمال ترميم القاعدة بهدف تقديم الخدمات اللوجستية للعمليات العسكرية التي تستهدف مكافحة الإرهاب. وفي 18 يناير 2017، وقعت الدولتان الاتفاق الخاص بتوسيع مساحة مركز الإمداد المادي والتقني التابع للأسطول الحربي الروسي في طرطوس ودخول السفن الحربية الروسية للمياه الإقليمية والمياه الداخلية والموانئ لسوريا. وبناءً عليه وفى 17 ديسمبر 2018، صرح نائب وزير الدفاع الروسي تيمور إيفانوف في مقابلة مع صحيفة "كوميرسانت" أن وزارات الدفاع والصناعة والتجارة الروسية تعمل على مشروع لبناء أحواض وفق الاتفاق، في مؤشر على أن روسيا بالفعل كانت قد بدأت تكتيكيًا تهيئة البنية التحتية في طرطوس وفقًا لخطتها.
دلالات عديدة:
يطرح اهتمام روسيا بتكريس وجودها في طرطوس دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- مؤشر الفوز في معركة سوريا: وهو ما رصدته وسائل الإعلام الروسية، التي اعتبرت أن الاتفاق يعني نجاح الهدف الاستراتيجي من الانخراط العسكري الروسي في سوريا، خاصة أن إبرامه سيتم مع النظام الذي سعت روسيا إلى الحيلولة دون سقوطه.
2- تواجد دائم: في ديسمبر 2017، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرجى شويغو أن "القائد العام للقوات المسلحة الروسية صدق على هيكل وقوام كوادر القاعدتين الأساسيتين في طرطوس وحميميم، وبدأنا بتشكيل مجموعة قوات دائمة هناك"، على نحو يكشف عن إصرار روسيا مبكرًا على البقاء الدائم في طرطوس، وهو ما تأكد مع الإعلان عن الاتفاق المزمع توقيعه لمدة تقدر بـ49 عامًا.
3- تعزيز الحضور الروسي في ميزان القوى الدولية: وهو مؤشر آخر تعكسه بنود الاتفاق السابق لتأجير الميناء والخاصة بتوسيع مساحة مركز الإمداد المادي والتقني، والتي كشفت عن مزايا نسبية لروسيا، حيث تتيح للأسطول الروسي بقطعه البحرية الضخمة التواجد في الميناء بحدود 11 قطعة بحرية منها قطع تعمل بمولدات نووية، وهو ما يشير إلى أن غاية روسيا من ذلك تتجاوز حدود المهام الطبيعية في سوريا إلى الطموح التاريخي في الرسو البحري فى شرق المتوسط كقوة دولية في البحر المتوسط ومنطقة نفوذ الأسطول السادس الأمريكي.
4- مزايا شاملة: لا تتوقف الامتيازات التي تحصل عليها روسيا من خلال تأجير ميناء طرطوس على البعد العسكري أو الاستراتيجي، عبر الخروج من الاحتباس الجغرافي حيث نافذة ميناء سان بطرسبرج الضيقة التي تطل على أوروبا عبر البلطيق وفنلندا، إلى الإطلالة الواسعة على المياه الدافئة، إضافة إلى ما يشمله من المزايا الاقتصادية والتجارية الواسعة مع حلفاء روسيا في الشرق الأوسط، فضلاً عن أن هذا التواجد يفتح الباب للفوز بنصيب كبير من مشروعات إعادة إعمار سوريا.
أما بالنسبة لسوريا، فيبدو أن حسابات النظام اتجهت إلى منح روسيا هذا الامتياز في إطار تبادل المصالح المشتركة، وهو ما يطرح بدوره عددًا من الدلالات منها على سبيل المثال:
1- انتصار موازٍ: يعتبر النظام أيضًا أنه حقق انتصارًا في معركته العسكرية والسياسية في مواجهة خصومه، على نحو يؤهله، وفقًا له، إلى توقيع مثل هذه الاتفاقيات.
2- مكافأة روسيا: وذلك لكونها القوة الدولية التي خاضت معركة مصير النظام، وحاربت لأجله وانخرطت عسكريًَا وسياسيًا واقتصاديًا لحمايته وترتيب مستقبل بقائه كنظام حكم بلا منازع أو منافس.
3- قوة ضامنة: تمثل روسيا أيضًا في المشهد السوري قوة ضمان لحماية النظام بعد انتهاء العمليات العسكرية، إذ أن تقويض خصوم النظام بفعل الدور الروسي قد لا يشكل في حال انتهاء المهمة الروسية ضمانة لاستقراره بشكل عام.
4- عوائد اقتصادية: وهو ما حاول ساسة محسوبون على النظام إبرازه كمبرر لإبرام الاتفاق. ففى هذا السياق، علق وزير الاتصالات الأسبق عمرو سالم بقوله: "قمنا بالتعاقد مع دولة ذات خبرةٍ ولديها المال لتقوم بتجهيزه وإدارته بشكل يتناسب مع حاجاتها وحاجاتنا.. هذا كل ما في الأمر"، مضيفًا: "بغض النظر عن تفاصيل العقد الذي سيتم توقيعه مع روسيا، فهو بكل تأكيد يصب في مصلحة سوريا ومن الطبيعي أن يصب في مصلحة روسيا أيضًا". واقترح أن يكون هناك عقود خصخصة أو تأجير لجميع المصانع وشركات القطاع العام المتعثرة أو الخاسرة أو التي تجد صعوبات في العمل في ظل الظروف الحالية.
تداعيات محتملة:
ربما تفرض هذه الخطوة تداعيات عديدة يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تنافس الحلفاء: قد يُحفِّز الاستحواذ على ميناء طرطوس باقي الأطراف الحليفة والداعمة للنظام السوري على تبني خطوة مماثلة، لا سيما إيران التي يعتقد أنها ستكون الطرف الثاني الذي قد يبرم صفقة مماثلة يحتمل أن تشمل ميناء اللاذقية. وتشير تقارير عديدة إلى أن تلك الخطوة ستفرض منافسة بين الطرفين، لكن البعض منها يرجح أن يكون هناك تنسيق، فيما يرى البعض الآخر أن التحرك على الأرض قد يكون في إطار التسابق على النظام، خاصة وأنها لن تكون "أولى مكافآت" ما بعد الحرب.
2- استياء دولي: يبدو أن قوى دولية عديدة لن تبدي مواقف إيجابية إزاء هذا التواجد، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبر البحر المتوسط منطقة نفوذ لها ولحلفائها في أوروبا، وكذلك إسرائيل التي ستعتبر أن هذا التواجد سوف يقيد مصالحها في شرق المتوسط أيضًا لصالح تحالفات روسيا، لا سيما مع تركيا.
3- تنسيق مستمر: سوف يفرض هذا الاتفاق على روسيا الحفاظ على علاقات قوية مع تركيا، العضو في حلف الناتو. فعبر ميناء البوسفور التركي سيمر الأسطول الروسي البحرى من ميناء سيفاستبول المطل على البحر الأسود إلى طرطوس، وهو متغير قد يوسع نطاق الخلافات بين تركيا والناتو.
وفي الأخير، تشكل خطوة تأجير ميناء طرطوس دلالة رمزية تصر بها روسيا على أن تكون نقطة البدء في العودة مجددًا إلى شرق المتوسط، وهو ما سوف يرتب تداعيات استراتيجية على الشرق الأوسط، في سياق تحولات النظام الدولي وإعادة هيكلة موازين القوى في الإقليم.