تزايد اهتمام هلسنكي بتحولات وتفاعلات إقليم الشرق الأوسط، خلال السنوات الأخيرة، على نحو ما انعكس في تدشين معاهد أكاديمية خاصة بالإقليم، وترتيب زيارات وفود دبلوماسية وبرلمانية، وتنظيم أنشطة مع مراكز بحثية، وطرح وثائق لتسوية أزمات بين أطراف سياسية، وإجراء لقاءات بين مجالس الأعمال المشتركة وممثلي الغرف التجارية، وتعميق التعاون مع أجهزة استخباراتية عربية. وتهدف حكومة فنلندا من خلال ذلك إلى توسيع العلامة الفنلندية خارج الحدود الوطنية، وتعزيز جهود مكافحة الجماعات والتنظيمات الإرهابية، ووقف تدفقات الهجرة غير النظامية والفرار من بؤر الصراعات المسلحة العربية، وتسوية الأزمة الليبية، وتأسيس شبكة من المصالح الاقتصادية وتنويع مجالات التجارة الثنائية.
نظرة قاصرة:
إن الصورة الذهنية الشائعة عن فنلندا في الكتابات العربية ترتبط بأنها دولة غير متحالفة عسكريًا (ليست عضوًا في حلف الناتو) ولا تمتلك موارد طبيعية وتركز في صادراتها على الهواتف المحمولة ولا تهتم بالتفاعلات البعيدة عن حدودها الجغرافية المباشرة بالتوازي مع انشغالها بأوضاعها الداخلية، لدرجة أن تقارير المنظمات الدولية تضعها في مراتب متقدمة في تحقيق الأمن والاستقرار وجودة الحياة ونزاهة الحكم وسلامة الانتخابات ومواجهة الفساد ومحاربة الجريمة وترسيخ اقتصاديات السعادة والمساواة الاجتماعية وتزايد تمثيل المرأة في المجالس النيابية.
غير أن هذه النظرة قاصرة، إذ أن الاهتمام بالداخل الفنلندي لا يمنع تأسيس علاقات مع الدول الأخرى، مثل بعض دول الشرق الأوسط، خاصة في ظل "تصدير المهددات والمخاطر" الأمنية التقليدية وغير التقليدية من الأخيرة إلى هلسنكي، لا سيما أن هناك إرهابيين أجانب انتقلوا من فنلندا، بعد تجنيدهم عبر الإنترنت، ووصلوا إلى مراتب مهمة في تنظيم "داعش" بشكل خاص، ولديهم شبكة من العلاقات داخل التنظيم، وفقًا لتقديرات سائدة لدى أجهزة الأمن الفنلندية. وامتد الاهتمام الفنلندي بالإقليم من دوائر الاستخبارات والأمن إلى محافل الأكاديميا ودوائر المعرفة.
إذ أن ثمة أدوارًا للمعهد الفنلندي في الشرق الأوسط (الذي يوجد منه أربعة مكاتب خارج فنلندا منها مكتب في القاهرة وآخر مماثل في بيروت)، على غرار دعم وتسهيل دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الفنلندية وتنظيم مؤتمرات بالتعاون مع الجامعات وتطوير التعاون الأكاديمي والثقافي بين فنلندا ودول الإقليم، بالإضافة إلى الترويج لفنلندا في الشرق الأوسط. ويغطي المعهد مجالات عديدة. ويأتي تمويل أنشطته من وزارة التعليم والثقافة الفنلندية والمؤسسات الخاصة الداعمة للآداب والفنون، وكذلك منصات المجتمع المدني والمتبرعين في الأعمال الخيرية.
وبوجه عام، تمثلت مصالح هلسنكي من متابعة كثيفة لتحولات وتفاعلات الشرق الأوسط، في الفترة الأخيرة، فيما يلي:
ماركة هلسنكي:
1- توسيع العلامة الفنلندية خارج الحدود الوطنية: تهتم هلسنكي بنشر تجربتها، وخاصة في مجال التعليم، في مناطق مختلفة من العالم، ومنها إقليم الشرق الأوسط، وهو ما أوضحه وزير خارجية فنلندا تيمو سويني، في حواره مع صحيفة "المصري اليوم" في 11 نوفمبر 2017، قائلاً: "فنلندا اليوم دولة متقدمة جدًا في التعليم والرعاية الصحية، ونحن محظوظون جدًا، فنحن 5,5 مليون نسمة ولدينا المساحة والأمن، ولهذا نعتقد أن مسئوليتنا أن نخبر العالم أن هناك طريقًا للصعود، ليس لنعلمهم ولكن لنقول لهم انظروا لتجربتنا".
ولعل تصريحات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في حواره مع وزير خارجية فنلندا تيمو سويني، في 8 نوفمبر 2017، على هامش انعقاد منتدى شباب العالم في شرم الشيح التي قال فيها أننا "نسعى للاستفادة من تجربتكم في التعليم" مثال معبر عن ذلك، لا سيما أن فنلندا تعد الدولة الأوروبية الأولى من حيث نسبة الإنفاق على البحث العلمي من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا يفسر مشاركة خبراء فنلنديين في مؤتمر نظمته وزارة التربية والتعليم المصرية يومى 4 و5 ديسمبر الماضي حول تجاربهم في مجالي التعليم الأساسي والتعليم الفني. فضلاً عن محاولة نقل تجربة تحسين الخدمات المحلية في مجال إدارة النفايات الخطرة وتحسين النظم البيئية.
مخاطر الإرهاب:
2- تعزيز جهود مكافحة الجماعات والتنظيمات الإرهابية: لا سيما أن العناصر الإرهابية التي قامت بطعن اثنين من المواطنين الفنلنديين "نساء" في مدينة توركو، في 18 أغسطس 2017، (وهو أول هجوم إرهابي تتعرض له البلاد، وفقًا لرئيس الوزراء الفنلندي يوها سيبيلا) تنتمي لأصول شرق أوسطية، مع الأخذ في الاعتبار تورط بعض الشبكات التي تنتمي إلى المنطقة في عدة هجمات إرهابية لافتة للنظر في مختلف أنحاء أوروبا، من بينها هجوم نوفمبر 2015 في باريس، وهجوم مارس 2016 في بروكسل، والهجوم الفاشل في محطة بروكسل المركزية في مايو 2017.
ولعل ذلك الخطر يتطلب تقوية الاتصالات مع الأجهزة الاستخباراتية والمؤسسات الأمنية في دول الإقليم الرئيسية، خاصة في ظل تعرضها لهجمات إرهابية مماثلة للتي شهدتها دول أوروبية أخرى مثل السويد، الأمر الذي دفعها مؤخرًا إلى سن مشروعات قوانين تهدف إلى اللحاق بباقي دول أوروبا في مجال الرقابة الإلكترونية لمكافحة الإرهاب، حيث لا تسمح القوانين المحلية في البلاد للسلطات الأمنية وأجهزة الاستخبارات بمراقبة المجرمين والإرهابيين المحتملين على الإنترنت قبل أن يرتكبوا جريمة ما.
وقد عبر عن هذا التخوف المتصاعد وزير الداخلية الفنلندية بولا ريسيكو في مؤتمر صحفي، في 19 إبريل 2017، قائلاً: "هذا يعني أننا لم نكن قادرين على جمع المعلومات الضرورية ومن غير المعقول أن نعتمد على دول أخرى في ذلك، وإن قانونًا مماثلاً موجود بالفعل في كل دولة أوروبية تقريبًا"، وأضاف: "لقد بدأت التهديدات الأمنية في الداخل والخارج تتداخل، وانتقلت إلى شبكات المعلومات". كما قال كوكو التوما رئيس دائرة الشرطة في وزارة الداخلية: "تأخرنا في هذا بشكل كبير إن لم يكن كاملاً مقارنة مع دول أخرى".
وفي هذا السياق، تأتي زيارة وفد من منظمة إدارة الأزمات في فنلندا برئاسة مروان الكريكشي-مدير المنظمة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط- للمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف (اعتدال) بالرياض، في 28 مارس 2018، للتعرف على أعمال المركز الفكرية والإعلامية والرقمية الرامية إلى نشر ثقافة التسامح والاعتدال، وعلى أحدث التقنيات المستخدمة لملاحقة الخطاب والمحتوى المتطرف بأحدث الوسائل، إضافة إلى مؤشر التطرف العالمي للمركز، على نحو دفع بعض أعضاء الوفد إلى إبداء رغبتهم في الشراكة وتنسيق الجهود للقضاء على الإرهاب العالمي.
مواجهة اللجوء:
3- وقف تدفقات الهجرة غير النظامية من بؤر الصراعات المسلحة العربية: التي تعد واحدة من أبرز مصادر التهديد التي تواجهها فنلندا، بعد تحول قبلتهم من النرويج إلى الأخيرة بدءًا من عام 2015، في الوقت الذي تحاول السلطات الفنلندية كبح جماح الجماعات اليمينية (مثل حزب الفنلنديين الأصليين) الذي يعادي المهاجرين. لذا، تتشدد الحكومة الفنلندية في منح تصاريح الإقامة لطالبي اللجوء من العراق وأفغانستان والصومال خلال السنوات الثلاث الأخيرة، إلا إذا ثبتوا أنهم مُعرَّضون للخطر، وفقًا للمواد التي أشارت إليها اتفاقية جنيف وميثاق الأمم المتحدة.
ورغم ذلك، تقوم الأجهزة الفنلندية المعنية بالترحيل الإجباري لطالبي اللجوء خوفًا من تداعيات وجودهم. وتحاول هلسنكي اتخاذ إجراءات تعويضية، حيث يشارك الصليب الأحمر الدولي بفنلندا في اجتماع الصحة الإقليمي لجمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فيما يخص حماية اللاجئين والنازحين، بهدف تحقيق التنمية المستدامة في مجال الرعاية الصحية، ومعالجة مشكلات معسكرات الإيواء التي تنتشر بها الأوبئة والأمراض المعدية وتوفير الغذاء الصحي والمياه النقية، فضلاً عن حمايتهم من مافيا الإتجار بالبشر والزواج المبكر.
دبلوماسية وفاقية:
4- تسوية الأزمة الليبية: طرحت الحكومة الفنلندية وثيقة، في إبريل 2018، لتوقيع ما يعرف بـ"ميثاق شرف" بين بعض الأحزاب والتنظيمات الليبية، ومنها تحالف القوى الوطنية برئاسة الدكتور محمود جبريل، وحزب العدالة والبناء (جماعة الإخوان) برئاسة محمد صوان، وحزب الوطن برئاسة أمير الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة سابقًا عبدالحكيم بلحاج، وحزب التغيير الذي يترأسه جمعه القماطي، وجبهة النضال الوطني المحسوبة على بعض أنصار النظام السابق الذي يتولى أحمد قذاف الدم مهام مسئولها السياسي، وحركة المستقبل برئاسة عبدالهادي الحويج، والتكتل الوطني الفيدرالي برئاسة بلقاسم النمر.
غير أن هذه الأحزاب لم توقع على هذه الوثيقة التي تضمنت عدة مبادئ منها مدنية الدولة، والتداول السلمي للسلطة، والاحتكام لصندوق الانتخاب، والابتعاد عن التجاذبات السياسية في إدارة المؤسسات السيادية، ووقف التحريض الإعلامي، والابتعاد عن خطاب الكراهية والعنف، الأمر الذي يعكس انشغال هلسنكي بتسوية أزمة ممتدة على مدى يزيد عن سبع سنوات في أعقاب ثورة 17 فبراير.
بيزنس الاستثمار:
5- تأسيس شبكة من المصالح الاقتصادية: تبدي فنلندا اهتمامًا بتوسيع نطاق العلاقات التجارية وإقامة الشراكات الاستثمارية، بما يحقق المصالح التنموية المشتركة، وبصفة خاصة في قطاعات الابتكار والتعليم والطاقة والصناعة والسياحة، خاصة أن فنلندا حققت تقدمًا علميًا في ميادين مرتبطة بهذا المجال، ومن أهمها المدن الذكية والبنى التحتية المتقدمة وأنظمة الروبوت، وهو ما يجعلها تركز على الاستثمار مع دول الإقليم في المشروعات المرتبطة بالتكنولوجيا والابتكار، وسبل الاستفادة من التقنيات الحديثة في تطوير القطاعات الاقتصادية الواعدة.
ملفات ضاغطة:
خلاصة القول، إن المصالح المرتبطة بالنمو والاقتصاد والتحديات المتعلقة بالهجرة والأمن، سواء ضغوط اللاجئين واحتمال وقوع هجمات إرهابية وعودة المقاتلين الأجانب، هى التي تدفع فنلندا إلى زيادة اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، مع الاتجاه نحو المساهمة في جهود تسوية الصراعات في ليبيا وسوريا، إذ طبعت فنلندا، في مايو الماضي، صورة الطفل السوري إيلان كردي على عملتها الوطنية، والذي قضى غرقًا عام 2015 قبالة السواحل التركية في بحر إيجه، خلال محاولة عائلته الوصول إلى أوروبا، وذلك يعكس لمسة إنسانية، بمناسبة الذكرى المئوية لاستقلالها.