أحرزت السودان تقدمًا ملموسًا في استكمال الأطر التنفيذية والتشريعية اللازمة لمكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال وفق المعايير الدولية، وهو ما انعكس في تحسن تصنيفها ضمن مؤشرات المنظمات الدولية المعنية بهذين المجالين.
وفي تطور ملحوظ، خرجت السودان -مؤخرًا- من قائمة الدول الأكثر خطرًا في مجالَيْ تمويل الإرهاب وغسيل الأموال طبقًا لمؤشر بازل لعام 2017، ولكن يظل أمامها كثير من التحديات التي تتعلق بالحاجة لتمكين المؤسسات المحلية للقيام بأدوارها بالشكل الفعال، فضلًا عن تعزيز جهود التعاون الإقليمي والدولي.
منذ تسعينيات القرن الماضي، وضعت المنظمات الدولية السودان ضمن قائمة مختصرة من دول العالم التي تنامت فيها أنشطة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال دون وجود رقابة حكومية فعالة لهذه الأنشطة. ومما كرّس من امتداد التقييم السلبي لها في الفترة الماضية إدراج الولايات المتحدة الأمريكية للسودان حتى الآن كدولة راعية للإرهاب وذلك منذ عام 1993.
وفي واقع الأمر، يعاني السودان من مجموعة من الظروف الداخلية والخارجية التي زادت من المخاطر المتعلقة بأنشطة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وتمثلت بالأساس في انتشار التجارة غير المشروعة بما فيها تجارة الأسلحة وتهريب البشر، فضلًا عن تقديم الحكومة السودانية الدعم المالي واللوجستي لعدد من الجماعات الإسلامية المتطرفة، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو إفريقيا جنوب الصحراء.
ولكن تحت ضغوط من المجتمع الدولي، بدأت السودان بدايةً من عام 2010 بإجراء إصلاحات واسعة لتعزيز مكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال. وفي هذا الصدد، أقرت قانونًا جديدًا لمكافحة تمويل الإرهاب في عام 2014 يتماشى مع القواعد الدولية في هذين المجالين، فضلًا عن ذلك فقد استحدثت وحدة تسمى المعلومات المالية ذات استقلالية لتبادل المعلومات والتحري عن حالات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. كما أبدت السودان انفتاحًا غير مسبوق في التعاون مع عدد من المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، للتدريب وبناء قدرات مؤسساتها للتكيف مع المعايير الدولية في تمويل الإرهاب وغسيل الأموال.
وبرغم التقدم السابق، تحتاج السودان إلى توفير بيئة كافية تسمح بتحقيق مزيدٍ من الشفافية والمساءلة وإنفاذ القانون لزيادة فعالية المؤسسات العاملة في مجالي تمويل الإرهاب وغسيل الأموال، وهو ما يحتاج من السودان أولًا محاربة الأنشطة غير المشروعة، وتفكيك ارتباطاتها المعنوية والمادية بالجماعات الإرهابية.
تقدم كبير:
يعاني السودان من مجموعة من الظروف الداخلية والخارجية التي أدت إلى انتشار مخاطر عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب بالبلاد منذ تسعينيات القرن الماضي. وفي واقع الأمر، فإن ممارسات التجارة غير المشروعة بالسودان متنوعة وواسعة النطاق، ولا تقتصر فقط على تجارة المخدرات، وإنما تمتد إلى أنشطة تجارة البشر، وتجارة الأسلحة، وغيرها، وهو ما جعلها بؤرة إقليمية للأنشطة السابقة.
فضلًا عن ذلك، لدى السودان سجل معلوم في دعم التيارات الإسلامية المتطرفة منذ تسعينيات القرن الماضي، وهو ما تسبب في فرض مجلس الأمن عقوبات عليها لفترة طويلة، بجانب عقوبات أخرى تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية عليها حتى الآن. والعوامل السابقة أدت بكثير من المنظمات الدولية إلى تصنيف السودان ضمن قائمة قصيرة من الدول الأكثر خطورة في مجالي تمويل الإرهاب وغسيل الأموال.
ولكن منذ بدايات عام 2010 تحسن تصنيف السودان تدريجيًّا لدى المنظمات الدولية، لا سيما مع استكمال الأطر التشريعية والتنظيمية والوقائية لمجال تمويل الإرهاب وغسيل الأموال. ومؤخرًا، خرجت السودان من قائمة أكثر 10 دول مخاطرة في المجالين السابقين، وقد حلت وفق مؤشر معهد بازل السويسري لمكافحة غسيل الأموال في المرتبة 29 عالميًّا من أصل 146 دولة، مع العلم بأن المؤشر يتبنى منهجية تعتمد على معايير مجموعة العمل المالي، إضافة إلى مكافحة الفساد والشفافية وحكم القانون.
وفي الواقع، فإن التقدم الدولي السابق كان امتدادًا لرفع السودان في أكتوبر 2015 من قائمة الدول التي لديها قصور في نظام مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب -بحسب مجموعة العمل المالية الدولية- بعد أن استوفى السودان جميع متطلبات برنامج مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب بحسب القوانين والمعايير الدولية، وهو ما مهد لتلافي السودان عقوبات قد تتعلق بدعم الإرهاب مما قد يعود بالإيجاب على الاقتصاد السوداني.
وفي ظل التطورات السابقة، أقرت الولايات المتحدة أيضًا في يناير 2017 بأن السودان أحرز تقدمًا ملحوظًا في التعاون مع المجتمع الدولي في مجالات حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، وهو ما دفع إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما لتخفيف العقوبات عن السودان لمدة 6 أشهر، والتي شملت رفع الحظر التجاري، وإلغاء تجميد للأصول وعقوبات مالية أخرى.
تدابير مختلفة:
هناك مجموعة من العوامل التي دفعت المجتمع الدولي لرفع السودان من قائمة الدول الأكثر مخاطرة في مجالات تمويل الإرهاب وغسيل الأموال، وهي كالآتي:
1- التعاون الدولي: في الفترة الماضية، بدت السودان أكثر تنسيقًا مع المجتمع الدولي بشأن تبادل المعلومات واتخاذ الإجراءات العقابية للمعاملات المالية المشبوهة والمتعلقة بعمليات غسيل أموال أو تمويل إرهاب. فضلًا عن ذلك فقد عززت السودان من تعاونها مع عدد من المنظمات الدولية -مثل صندوق النقد الدولي- لبناء قدرات المؤسسات السودانية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. فيما أبدى الاتحاد الأوروبي دعمه للسودان في هذين المجالين أيضًا. وفي هذا السياق، قالت مديرة المشروعات بالاتحاد الأوروبي في الخرطوم "فرانشيسكا أراتوفي متيو" في 2017: "عازمون على تقديم مساعدات للسودان لمواجهة تحديات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، لتمكينه من الإيفاء بالمعايير الدولية في ذات الخصوص".
2- الإطار التشريعي: جرّم السودان غسيل الأموال ابتداء من عام 2003، كما تم تجريم تمويل الإرهاب بموجب قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب لسنة 2010؛ إلا أن الإطار التشريعي بقي غير فعال في إحراز تقدم في مكافحتهما، ولذلك صادق البرلمان السوداني في يونيو 2014 على قانون جديد لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب اشتمل هذه المرة على إطار أساسي لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، سواء من ناحية وضع أساس للتدابير الوقائية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في القطاع المالي وغير المالي، أو من ناحية وضع إطار تنظيمي ورقابي عام للتأكد من الالتزام بتطبيق متطلبات المعايير الدولية.
3- الإطار التنظيمي: استحدث قانون تمويل الإرهاب لعام 2014 وحدة جديدة تحت مسمى المعلومات المالية بدلًا من وحدة التحريات المالية في السابق والتي كانت تتبع البنك المركزي السوداني. والوحدة الجديدة ذات استقلالية أكبر، حيث ترفع تقاريرها للجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب وغسيل الأموال والتي يشرف عليها رئيس الجمهورية، كما أن لديها صلاحيات أكبر في تلقي تقارير الإبلاغ عن المعاملات المشبوهة، وتحليلها، وإحالتها إلى النيابة المختصة، كما تتلقى الوحدة إخطارات من قبل المؤسسات المالية وغير المالية بالمعاملات المشبوهة.
ومنذ إنشاء الوحدة في عام 2014، باشرت بالتعاون مع البنك المركزي السوداني الكشف عن عمليات عديدة لغسيل الأموال أو تمويل الإرهاب، وبلغت حتى عام 2017 نحو 130 حالة بحسب حيدر عباس مدير عام إدارة التحريات بوحدة المعلومات المالية، وهو تطور ملحوظ في مجمل الحالات التي رصدتها الوحدة، بعكس الوضع السابق، حيث كانت حالات الاشتباه متدنية، بما اعتبره البعض تراخيًا في تتفيذ القانون من قبل السلطات المحلية.
تحديات قائمة:
على الرغم من التقدم الذي أحرزه السودان على الصعيد الدولي في مجالي غسيل الأموال وتمويل الإرهاب؛ إلا أنها قد تواجه تحديين رئيسيين في هذين المجالين، أولهما يتمثل في المخاوف الدولية بشأن استمرار العنف في مناطق دارفور وشرق البلاد، بجانب مخاوف أخرى تتعلق بمساندة السودان لجماعات إسلامية متطرفة في المنطقة. وكل ذلك من شأنه أن يُبقي على تيارات مستمرة من الأنشطة غير المشروعة ومن ثم عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
أما ثاني هذه التحديات فينصرف إلى أن نظام مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في السودان لا يزال في حاجة إلى مزيدٍ من التنسيق والتنظيم من خلال تحقيق التكامل بين القانون والأدوات التنظيمية، بحيث يتحقق للمؤسسات المحلية الفعالية التامة في مكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال، وتحقيقها لذلك لن يتأتى -من دون شك- إلا بتوفير بيئة كافية لتبادل المعلومات وتوفير الموارد المالية والتدريب لتطوير كفاءة المؤسسات المحلية.
خطوات إضافية:
ختامًا، يمكن القول: على الرغم من التقدم السابق، إلا أنه يجب على السودان اتخاذ خطوات إضافية لبناء أساس قوي في مجال مكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تعزيز التعاون الدولي والإقليمي، بجانب دعم قدرات المؤسسات المحلية.