تثير التفاعلات الراهنة في الأزمة الليبية، سواء من قِبل الأطراف الخارجية الفاعلة في المشهد، أو من خلال أصحاب المصالح في الداخل الليبي، جملة من التساؤلات، لعل أبرزها ما يتعلق بمدى قدرة حكومة الوحدة الوطنية على إزالة العقبات وتجاوز التحديات التي قد تحول دون استكمال خريطة الطريق وإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في نهاية العام الجاري.
وبالرغم من الجهود المحفزة والداعمة لإنهاء المرحلة الانتقالية ودفع خارطة الطريق للأمام، يقف الإسلاميون، ومنهم الإخوان، حجر عثرة في طريق المسار السياسي، ما يستدعي الوقوف على أسباب تعنت هذه التيارات ودوافعها لإطالة أمد الصراع الليبي، والأدوات التي تقوم بتوظيفها لتحقيق هذا الغرض، والسيناريوهات المحتملة في هذا الصدد.
تفسيرات عديدة:
تسعى تيارات الإسلام السياسي، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، في ليبيا، لفرض حالة من الضبابية وإرباك المشهد والابتعاد بالأزمة الليبية عن المسار المدعوم من قِبل المجتمع الدولي، والحيلولة دون الوصول إلى الانتخابات الرئاسية التي يُعول عليها في تسكين الصراع وتهدئة الأوضاع في ليبيا. ويمكن تفسير تلك المساعي الإخوانية في ضوء ما يلي:
1- انحسار القاعدة الشعبية: تدرك جماعة الإخوان أنها تفتقد في الوقت الراهن للحاضنة الشعبية والدعم الكافي من قِبل الليبيين، فعلى الرغم من صعودها السريع في أعقاب أحداث عام 2011 ومساعيها المستمرة لحيازة أدوات التأثير ومحاولة بسط نفوذها على المؤسسات التنفيذية والتشريعية كافة في ليبيا، فإن تلك المحاولات لم تؤت ثمارها، إذ تعرضت لخسائر فادحة في الانتخابات التشريعية عام 2014، ولم تنجح في حصد الأغلبية التي تؤهلها للدور التي كانت تتطلع إليه، علاوة على ارتباطها بموجات العنف وحالة الفوضى التي شهدتها البلاد وما نجم عنه من انقسام حاد بين الغرب والشرق الليبيين، الأمر الذي خصم من رصيدها على الصعيدين السياسي والشعبي، وتسبب في انحسار قواعدها وتآكل شرعيتها.
ويُضاف إلى ذلك، غياب ثقة المواطن الليبي في تلك الجماعات، وهو ما بدا جلياً في خسارة الإخوان للانتخابات البلدية في يناير 2021 في عدد من مناطق غرب ليبيا التي تعتبر مجالاً حيوياً وساحة مضمونه لنفوذ الجماعة، ومن هنا يمكن فهم إصرارها على عرقلة الانتخابات المقبلة.
2- الرغبة في استجماع القوة: تعاني جماعة الإخوان في ليبيا ضعفاً في بنيتها التنظيمية والفكرية، وذلك في ظل اتساع الفجوة بين قياداتها، علاوة على تباين المصالح داخلها. وقد برزت مؤشرات التفكك والانقسام الداخلي في موجة الاستقالات التي ضربت الجماعة، خاصة في معاقلها الرئيسية، حيث قام أعضاء الإخوان في مدينة الزاوية بحل فرع التنظيم وتقديم استقالة جماعية في أغسطس 2020، الأمر ذاته تكرر بعد نحو شهرين من قِبل أعضاء الجماعة في مدينة مصراته. وقد أصابت تلك الاستقالات جماعة الإخوان بهزة عنيفة؛ نظراً لرمزية هاتين المدينتين وموقعهما في استراتيجية الجماعة.
وفي محاولة منها لضبط الأمور والابتعاد عن شبح السقوط السريع، أعلنت جماعة الإخوان في مايو 2021 عن تحويلها لجمعية تحمل اسم "الإحياء والتجديد". ويدخل هذا التحول ضمن تكتيكات الجماعة ومراوغتها المعتادة في أوقات الأزمات الضاغطة بهدف تجاوز المحنة والعمل على استجماع قوتها مرة أخرى.
وعليه يمكن فهم محاولات تعطيل المسار السياسي في ليبيا في ضوء رغبة جماعة الإخوان في إعادة تموضعها بصيغة مختلفة داخل المجتمع الليبي، بحيث تتلاشي حالة الانقسام وتقدم نفسها بصورة مغايرة. بيد أن تلك المحاولات قد لا تجدي نفعاً، فتغيير الشعار والتحول إلى جمعية دعوية لا يعني تغيير المرجعية الفكرية، وإنما يُشير إلى تعدد أدوات الجماعة وتبديل استراتيجيتها مرحلياً بهدف التغلغل مرة أخرى داخل المجتمع الليبي.
3- الهروب من المصير الإقليمي: لا يغيب عن ذهن جماعة الإخوان وعناصرها في ليبيا مشهد سقوط التنظيم في دول الجوار الإقليمي، ومن هنا تكثف مساعيها للهروب من المصير المنتظر والمتوقع خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة. إذ إن الخبرة الإقليمية تشير إلى تراجع قدرات تنظيم الإخوان وافتقاده لمقومات التأثير وانكشافه السريع في المجتمعات التي شهدت صعوده. وظهر ذلك في سقوط الإخوان في مصر في أعقاب ثورة 30 يونيو 2013، وانحسار نفوذ حركة النهضة في تونس وسط حالة الاستياء والرفض الشعبي لممارستها، فضلاً عن الخسارة المدوية التي تعرض لها حزب العدالة والتنمية في المغرب بعدما حصد 13 مقعداً في الانتخابات التشريعية الأسبوع الماضي مقارنة بـ 125 مقعداً في انتخابات عام 2016.
وعليه تعمل جماعة الإخوان الليبية على عرقلة الانتخابات المقررة في 24 ديسمبر المقبل؛ خوفاً من هذا المصير، وأملاً في الإبقاء على آخر حظوظ وأوراق التنظيم في المنطقة. إذ إن إجراء الانتخابات في موعدها وسط حالة الانقسام الداخلي والرفض الشعبي وتراجع القواعد يعني خروج الإخوان النهائي من أية ترتيبات مستقبلية في ليبيا.
أدوات مُعرقلة:
في ضوء الدوافع سالفة الذكر، يعمل الإخوان في ليبيا على توظيف عدد من الأدوات في سبيل إبقاء الوضع على ما هو عليه والابتعاد بخارطة الطريق عن مسارها المحدد، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه فيما يلي:
1- إثارة الجدل الدستوري: يعمل إخوان ليبيا على استهداف المسار الدستوري من خلال إثارة مزيد من الجدل حول القاعدة الدستورية المنظمة للانتخابات، حيث تروج الجماعة لأهمية تنظيم الاستفتاء على الدستور أولاً، ثم إجراء الانتخابات، الأمر الذي من شأنه أن يؤجل الاستحقاق الانتخابي. كما أثارت الجماعة خلافاً مماثلاً حول آلية انتخاب رئيس البلاد، حيث تدعم انتخابه عبر مجلس النواب (البرلمان) من دون اللجوء للاقتراع المباشر. ويمكن فهم ذلك في سياق رغبة إخوان ليبيا في استبعاد الخيار الشعبي الذي يصعب السيطرة عليه واجتذابه لصف الجماعة مقارنة بالانتخاب غير المباشر من خلال مجلس النوب. وفي هذا الإطار، عبّر عدد أعضاء من ملتقى الحوار السياسي عن استيائهم من محاولات الإخوان عرقلة المسار الدستور وذلك من خلال مطالبتهم بتدخل المبعوث الأممي، يان كوبيش، لإيقاف عبث الإخوان بالمسار الدستوري.
من ناحية أخرى، تسارع جماعة الإخوان الليبية والمحسوبين عليها إلى رفض أية إجراءات والتشكيك في الممارسات كافة التي تستهدف الوصول للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهو ما ظهر جلياً في رفض قانون انتخاب الرئيس الذي أقره مجلس النواب يوم 9 سبتمبر الجاري، حيث عبّر حزب العدالة والبناء (الذراع السياسي للإخوان)، وكذلك القيادي الإخواني خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة، عن معارضتهم ورفضهم المطلق للقانون.
2- استهداف المؤسسات المعنية بالانتخابات: أطلقت جماعة الإخوان الليبية، عبر لجانها الإلكترونية، حملة للنيل من المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، فضلاً عن التشكيك في نزاهة واستقلالية رئيس المفوضية، عماد السايح، وذلك ضمن أدوات الجماعة المستمرة لتشوية العملية الانتخابية. وحسب بيان المفوضية في يوليو 2021، فإن تلك الحملة تشبه في حدتها مخاطر الهجوم الإرهابي الذي نفذه تنظيم داعش ضد المفوضية في مايو 2018 والذي تسبب في إصابة ومقتل نحو 20 شخصاً. ويمكن فهم حملة الإخوان تجاه مفوضية الانتخابات كمحاولة لإجهاض الاستحقاق الانتخابي، وفي حال فشل الجماعة في تأجيل الانتخابات وإرباك المشهد، فقد تكون تلك الحملة خطوة استباقية للانقلاب على نتائج الانتخابات ورفضها، ومن ثم التشكيك في شرعيه المؤسسات المنتخبة مستقبلاً.
3- العمل على نشر الفوضى: تحاول جماعة الإخوان الاستثمار في الفوضى والعمل على زعزعة الاستقرار وخلق بيئة أمنية مضطربة في ليبيا، ما قد يُصعب من مهمة إجراء الانتخابات المقبلة في تلك الأجواء. فمنذ الإعلان عن وقف إطلاق النار في ليبيا في أكتوبر 2020، تراجعت بصورة ملحوظة مؤشرات التصعيد والعسكرة التي كانت تسيطر على الأزمة قبل الاتفاق على التهدئة، إلا أن الأشهر الماضية شهدت عودة للقتال بين ميليشيات غرب ليبيا، وهو ما قد يرجع إلى رغبة التيارات الإسلامية ومنها جماعة الإخوان في إرباك المشهد ونشر الفوضى للحيلولة دون إجراء الانتخابات في موعدها.
مساران مُحتملان:
في ظل تلك التحركات، يبدو أن جماعة الإخوان وتيارات الإسلام السياسي في ليبيا تعمل على إطالة أمد الأزمة الحالية، وتضع عرقلة الانتخابات والمسار السياسي ضمن أولوياتها الأساسية. وقد يدور هذا المخطط وفقاً لمسارين يحكمهما عدد من الاعتبارات وذلك فيما يلي:
المسار الأول (استكمال خريطة الطريق): يفترض هذا المسار عدم قدرة الإخوان وتيارات الإسلام السياسي في ليبيا على تنفيذ مخطط إجهاض المسار السياسي وعرقلة خريطة الطريق. ويستند هذا السيناريو لعدد من الاعتبارات؛ من بينها رغبة المجتمع الدولي والأطراف الفاعلة في الأزمة الليبية في إجراء الانتخابات في موعدها المقرر في 24 ديسمبر 2021، وهو ما عبرت عنه مخرجات مؤتمر "برلين 2" والمؤتمرات كافة المعنية بالأزمة، علاوة على تقارب وجهة نظر دول الجوار بشأن التسوية السياسية في ليبيا، وهي التي عبرت عنها مخرجات اجتماع الجزائر الأخير، والتي أقرت بضرورة تفعيل آلية دول الجوار للمساهمة في وضع حد للمشهد المرتبك في ليبيا. ويُضاف إلى ذلك، رغبة بعض الأطراف الليبية في الخروج من المأزق الراهن والعمل على دعم وتعزيز الاستقرار في ليبيا وتسكين الصراع، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه من خلال مبادرة "استقرار ليبيا" التي تتبناها حكومة الوحدة الوطنية.
المسار الثاني (عرقلة الانتخابات): يفترض هذا السيناريو نجاح إخوان ليبيا في مخطط تعطيل المسار السياسي وعرقلة الانتخابات، ويستند لعدد من الاعتبارات؛ من بينها حيازة جماعة الإخوان للسلاح، واستمرار المرتزقة الأجانب في الساحة الليبية، بما يعني إمكانية توظيف ذلك في زعزعة الاستقرار ومن ثم تعطيل خريطة الطريق، علاوة على إمكانية استثمار الجماعة الخلافات بين أطراف الأزمة في الداخل والعمل على تغذيتها. كما يظل الدعم التركي المُعلن لهذه التنظيمات المسلحة واستمرار رهان أنقرة عليها في ليبيا محفزاً لتلك التنظيمات من أجل المُضي قُدماً في مخططها.
في الأخير، تظل حظوظ وفرص إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا في موعدها المحدد بنهاية العام الحالي قائمة على الرغم من التحديات التي تفرضها التفاعلات الخارجية والداخلية على المشهد الليبي. وسيظل تعطيل هذه الانتخابات ضمن أولويات الإخوان وتيارات الإسلام السياسي خلال المرحلة القادمة. كما أن إجراء الانتخابات في موعدها قد لا يعني بالضرورة الخروج من المأزق الراهن في ليبيا، خاصة في حالة إذا ما فشلت جماعة الإخوان والمحسوبين عليها في الحصول على المقاعد وتحقيق المكاسب المأمولة، وهو ما تؤكده الخبرة التاريخية خلال السنوات الماضية، فبمجرد خسارة تلك التيارات للانتخابات عام 2014 لجأت إلى نشر الفوضى وتأجيج الصراع وفرض حالة من الانقسام والتشرذم بين الشرق والغرب الليبي، وهو سيناريو غير مستبعد، خاصة بعد تهديدات رئيس مجلس الدولة خالد المشري في يونيو الماضي والتي أكد خلالها أنه إذا ما أُجريت الانتخابات الرئاسية بالتصويت المباشر من الشعب قد ينتج صراع خطير لا يمكن لليبيا تحمله، وهي رسائل تحمل في طياتها نية التصعيد في حالة إخفاق الجماعة في الانتخابات المقبلة.