سيطرت طالبان على العاصمة الأفغانية كابول، بالتزامن مع مغادرة الرئيس أشرف غني البلاد في 15 أغسطس الجاري، وأصبحت الحركة تسيطر فعلياً على أكثر من 90% من مساحة أفغانستان بحلول ذلك التاريخ. ويمثل الملف الأفغاني، ثاني أهم قضية في السياسة الخارجية يعالجها الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، بعد إحياء الاتفاق النووي الإيراني مع القوى الدولية.
محددات العلاقات الثنائية
يمكن توضيح بعض المحددات الحاكمة للعلاقة بين إيران وأفغانستان على النحو التالي:
1- الجوار الجغرافي: تعد أفغانستان جارة شرقية لإيران، وتشاركها في حدود ممتدة بطول 920 كم، وهو ما جعل الأوضاع غير المستقرة في أفغانستان على مدى العقود الماضية مصدر قلق دائم للنظام السياسي في طهران.
2- التداخل الديموغرافي: تتشابك القوميات والأعراق بين إيران وأفغانستان، لاسيما على جانب الحدود بين البلدين، حيث تقيم القومية البلوشية في محافظة سيستان وبلوشستان شرق إيران، والتي تمتد بتركيبتها العرقية إلى داخل المنطقة الغربية الأفغانية.
جدير بالذكر أن هذا الإقليم في إيران هو من أكثر المناطق توتراً، حيث يعد مأوى للحركات السنية المناهضة للنظام في طهران.
هذا فضلاً عن علاقات إيران ببعض القوميات الأخرى في أفغانستان، مثل القومية الطاجيكية وغيرها من القوميات التي تقطن الشمال الأفغاني، وهو ما يفرض على إيران اهتماماً خاصاً بالأوضاع في أفغانستان نتيجة هذه الترابطات القومية والعرقية.
3- حماية الشيعة الأفغان: تقدم إيران نفسها باعتبارها حامية للشيعة في أفغانستان والعالم. وتُشير تقديرات إلى أن الشيعة في أفغانستان يقدرون بنحو 15% إلى 29% من السكان ومعظمهم من الطائفة الاثنا عشرية التي تهيمن على إيران. وتتمتع إيران بعلاقات قوية مع شيعة أفغانستان، خاصة قبائل الهزارة، كما أن هناك قبائل شيعية أخرى، مثل قبيلة الفرسيوان، وقبيلة قيزلباش وقبيلة السيدز.
وتتخوف إيران من أن تقوم حركة طالبان، بعد سيطرتها على الأمور في أفغانستان، من القيام بعمليات تنكيل واسعة ضد الشيعة في أفغانستان، لاسيما في ضوء الخبرة التاريخية الخاصة بقيام الحركة عام 1998 بشن هجوم واسع على مدينة مزار شريف في الجزء الشمالي من أفغانستان، ومحاصرة القنصلية الإيرانية، وقتل 10 دبلوماسيين إيرانيين رداً على دعم إيران لتحالف القبائل الشمالية بزعامة برهان الدين رباني وقيادة أحمد شاه مسعود.
4- التبادل التجاري والموارد المائية: ترتبط إيران بأفغانستان بعلاقات تجارية واسعة، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين العام الماضي حوالي 4 مليارات دولار. ويمر أغلبها عبر ثلاثة معابر حدودية بين الدولتين. هذا فضلاً عما تمثله أفغانستان من منبع لأنهار تجري في إيران وتحديداً نهر هلمند.
علاقات تعاونية مع طالبان
سعت طهران إلى فتح قنوات تواصل مع حركة طالبان وإقامة علاقات مصلحية معها، وهو ما يتضح في التالي:
1- دعم طالبان عسكرياً: نجحت طهران في إقامة علاقات مع حركة طالبان، وشملت المساعدات العسكرية الإيرانية لطالبان الأسلحة الخفيفة والصواريخ المضادة للدروع، كما أنها قامت بتدريب قوات طالبان على الأراضي الإيرانية. وتستضيف طهران عائلات قادة طالبان في مدينة زاهدان وزابول ومشهد وكرمان وأصفهان وقم.
كما اُتهم الحرس الثوري بإرسال طائرات مسيرة لمسح وتصوير مديرية جوين وتزويد طالبان بالإحداثيات، لدعم طالبان في هجومها على الحكومة الأفغانية. ولكن هذا الدعم لا يناظر الدعم الإيراني للميليشيات الشيعية، كما أن الدعم الاستخباراتي الإيراني لطالبان محدود.
ويمكن تفسير الدعم الإيراني لطالبان بالرجوع إلى عوامل عدة، منها أنها جماعة "سنيّة"، وليست شيعية، كما أنها تسعى من هذا الدعم المنضبط لطالبان تحقيق أهداف نوعية، مثل امتلاك قدر من النفوذ على حركة طالبان، والحصول على ثقتها، ومحاربة الوجود الأمريكي في أفغانستان، فضلاً عن امتلاك أوراق ضغط على الحكومة الأفغانية السابقة، والتي كانت إيران تتمتع معها بعلاقات اقتصادية قوية.
2- فتح قنوات دبلوماسية: بدأت طهران بالفعل، في تكثيف الجهود الدبلوماسية مؤخراً مع طالبان، حيث استقبلت الخارجية الإيرانية بقيادة جواد ظريف وفداً من الحركة في يناير 2021. والتقى رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، مع الملا عبدالغني برادر، رئيس حركة طالبان الذي سافر إلى طهران من مكتبه في قطر في 27 يناير الماضي، حيث أشاد شمخاني بالجماعة على صمودها في المعارك ضد الولايات المتحدة.
3- ضبط الهزارة الشيعة: حذر حسام رضوي، مدير عام مكتب الشؤون الخارجية في وكالة أنباء تسنيم، إحدى أذرع الحرس الثوري الإيراني الإعلامية، الشيعة الهزارة في أفغانستان من التطوع للحرب ضد طالبان، زاعماً أن الشيعة الذين يقتلون ضد طالبان هم الملومون وليس طالبان، وذلك بالتزامن مع إشادة صحيفة كيهان، التابعة للمرشد الإيراني علي خامنئي، في 24 يوليو الماضي، بطالبان، إذ نشر مقالاً تحت عنوان "طالبان غيرت مسارها ولم تعد تذبح"، ووصفت طالبان بـ "طالبان الجدد" في إشارة إلى أن حركة طالبان لم تعد تستهدف الشيعة.
القلق من سيطرة طالبان
مع تمكن طالبان في اكتساح وإسقاط المدن الأفغانية المدينة تلو الأخرى، برزت هواجس إيرانية تجاه طالبان، وهو ما وضح في التالي:
1- تحوّل أفغانستان إلى حاضنة للإرهاب: تتخوف طهران من أن تتحول أفغانستان إلى ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية، على غرار القاعدة أو داعش. وعلى الرغم من أن إيران استضافت قيادات القاعدة على أراضيها، وتوصلت معهم لاتفاقات برجماتية، تتمثل في السماح لهم بالعبور الآمن من أفغانستان إلى العراق، عبر أراضيها، والسماح لهم بجمع الأموال، مقابل عدم تنفيذ عمليات إرهابية داخل إيران، أو ضد مصالحها في الخارج، فإنها لم تتوصل بعد لتفاهمات مماثلة مع تنظيم داعش.
ولذا، فإنه مع انهيار المدن الأفغانية في قبضة طالبان، نشرت طهران الجيش النظامي والحرس الثوري على طول الحدود المشتركة مع أفغانستان في الأسابيع الأخيرة لمواجهة أي تهديدات محتملة، خاصة إمكانية تسلل عناصر إرهابية وسط حركة نزوح اللاجئين من أفغانستان.
2- مركز للجماعات الانفصالية: تتخوف طهران من إمكانية استغلال أفغانستان كقاعدة لدعم الجماعات المتمردة الانفصالية، على غرار أقلية البلوش، والتي تمتد في البلدين.
3- تدفق الهجرة الأفغانية إلى الأراضي الإيرانية: تتحسب إيران من أن يؤدي عدم الاستقرار في أفغانستان إلى موجات من الهجرة إليها، حيث تُشير التقديرات إلى أنه من المتوقع تدفق ما يصل إلى مليون أفغاني عبر الحدود لتجنب القتال أو حكم طالبان.
كما تُشير التقديرات إلى أن إيران تستضيف ما يقارب الـ2.5 مليون أفغاني ما بين مسجل وغير مسجل. ولا شك أن تلك الأعداد الضخمة تفرض صعوبات اقتصادية على إيران، في الوقت الذي يعاني فيه الإيرانيين أزمات معيشية صعبة بسبب العقوبات وأزمات متكررة بسبب نقص المياه والكهرباء.
واتجهت إيران إلى محاولة التخفيف من هذه المشكلة عبر توجيه موجات النزوح إلى تركيا، والتي يرغب أغلب اللاجئين الأفغان في التوجه لها للعبور منها إلى دول الاتحاد الأوروبي، وإن كانت الأخيرة بدأت في تبني إجراءات لغلق حدودها في مواجهة اللاجئين.
4- تضرر الاقتصاد الإيراني مرحلياً: استولت حركة طالبان على المعابر الحدودية الرئيسية مع إيران، خاصة معبري إسلام قلعة الحيوي بين البلدين، وأبو نصر فراهي، بالإضافة إلى المدن الحدودية المهمة، مما أدى إلى توقف حركة التجارة بين البلدين، والتي تقدر بحوالي أربعة مليارات دولار. ومن المتوقع أن تستأنف العلاقات التجارية مع استقرار الأوضاع في أفغانستان.
5- تعرض المصالح المائية الإيرانية للخطر: قد يؤدي عدم الاستقرار في أفغانستان إلى تعرض مصالح إيران المائية فيها إلى الخطر، حيث يُرجح أن يتم التأكيد على المبدأ الذي كان قد أرساه الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني "النفط مقابل المياه"، عند افتتاح سد كمال خان مارس الماضي، الأمر الذي سيؤثر على حصص المياه التي تصل لإيران من نهر هلمند.
ويأتي ذلك في الوقت الذي تعاني فيه إيران مشكلة جفاف لم تتعرض لها البلاد من أكثر من خمسين عاماً من قبل، وتسببت في احتجاجات واسعة في عدد من المدن الإيرانية.
سيناريوهات متوقعة:
يبدو أن أمام طهران ثلاثة خيارات للتعامل مع الأوضاع في أفغانستان، والتي يمكن إبرازها على النحو التالي:
1- السيناريو الأول: الحياد الإيجابي: سوف تتجه إيران لمراقبة التطورات الأفغانية، وتقدير سلوك حركة طالبان، وعما إذا كانت ستتجه إلى تهديد مصالحها الأمنية والاقتصادية أم لا. ويلاحظ أن هذا السيناريو سوف يكون قائماً على المدى القصير، إذ سوف يكون أمام إيران خيارين، وهما إما معاداة طالبان، أو التعاون معها.
2- السيناريو الثاني: شن حرب بالوكالة: يمكن أن تتجه إيران إلى توظيف الميليشيات الشيعية كورقة ضغط في مواجهة حركة طالبان، خاصة إذا ما سعت الأخيرة لتهديد مصالحها. وسوف يكون أمام طهران خيار إعادة لواء "فاطميون" من سوريا إلى أفغانستان. ويضم اللواء الشيعة الأفغان الذين تم تدريبهم على يد الحرس الثوري الإيراني ويحاربون الآن في سوريا منذ العام 2012.
وهناك كذلك ميليشيات "فدائي بابا مزاري"، الذين يقدر عددهم بخمسة آلاف، وفقاً لوزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف. كما يمكن أن تلجأ إلى دعم بعض أمراء الحرب السابقين المناوئين لطالبان، مثل أحمد مسعود نجل أحمد شاه مسعود، وصلاح الدين رباني نجل برهان الدين رباني.
3- السيناريو الثالث: تأسيس علاقات تعاونية: سوف تستغل طهران الدعم العسكري السابق الذي قدمته للحركة لبناء علاقات تعاونية تستند إلى قاعدة المصالح المشتركة بينهما، وتعمل على استيعاب الملفات الخلافية، خاصة ملفي الإرهاب والحركات الانفصالية.
وفي الختام، يمكن القول إن طهران سوف تسعى لإقامة علاقات تعاونية مع طالبان، إذا لم تقدم الأخيرة على الإضرار بمصالحها، وسوف توظف في ذلك ورقة التعاون الاقتصادي بين الجانبين، إلى جانب استمرار دعمها للميليشيات الأفغانية الموالية لها، تحسباً لتبني حكومة طالبان الجديدة سياسات مناوئة لطهران.