أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

تراجع أولويات:

مأزق المؤسسات والاتفاقيات الدولية في عهد ترامب

13 مارس، 2017


تؤشر مواقف إدارة ترامب المعلنة من المؤسسات والاتفاقيات الدولية ومتعددة الأطراف إلى تراجع اهتمامها باستخدام هذه المؤسسات كأطر للتفاعل الدولي، كما أن تحول اهتمام هذه الإدارة بما تراه أولوية دعم القوة المادية، اقتصاديا وعسكريا، للولايات المتحدة سوف يؤدي إلى تراجع احترام الإدارة لما تضعه عليها الاتفاقيات الدولية، ومنها على سبيل المثال اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ، من التزامات. وسوف يعرض ذلك المؤسسات الدولية إلى نقص في الموارد اللازمة لتحقيق أهدافها، بالإضافة إلى تراجع مصداقية الجهود الدولية في ظل عدم التزام الولايات المتحدة. فحتى لو لم تنسحب الولايات المتحدة من العضوية في مؤسسات أو اتفاقيات دولية، فإن تغير أولوياتها وتراجع اهتمامها سوف يؤثران بالسلب على تماسك منظومة القواعد والأطر التي حكمت التفاعلات الدولية في العقود الماضية.

منذ أن اعتمد الرئيس ترامب شعار "أمريكا أولا" ثارت المخاوف على تداعيات ذلك على مؤسسات النظام الدولي، التي تكونت عبر عدة عقود من خلال جهود وتفاهمات معقدة، حيث يضع هذا الشعار الولايات المتحدة في موقف متناقض مع العديد من المنظمات والاتفاقيات الدولية والمتعددة الأطراف التي يرى ترامب أنها تمثل قيودا على سيادة الولايات المتحدة، ويتم استغلالها من قبل أطراف أخرى ضد مصلحتها. ويعد المحللون في الولايات المتحدة هذا الموقف من ترامب كأبرز تحول في أسس السياسة الخارجية الأمريكية منذ عام 1945. 

فمنذ أن قرر الرئيس الأمريكي في ذلك الحين أيزنهاور أن الدفاع عن بريطانيا ضد العدوان من ألمانيا النازية يمثل مصلحة قومية لبلاده، انخرطت الولايات المتحدة في السنوات والعقود التالية في إنشاء ودعم مؤسسات دولية، مثل الأمم المتحدة، ومؤسسات مالية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، والعديد من الاتفاقيات الدولية التي تنظم أسس وآليات التعامل فيما يسمى بالنظام الدولي.

كما سادت القناعة لدى النخبة السياسية، من ديمقراطيين وجمهوريين على حد سواء، أن هناك مصلحة مباشرة للولايات المتحدة في دعم وحماية هذا النظام ومؤسساته، ودوره في دعم الأمن والسلام والتنمية الاقتصادية حول العالم. وخلال الفترة المحدودة منذ تولي ترامب السلطة، تعددت المؤشرات على تراجع اهتمام إدارته بدعم مؤسسات وأطر النظام الدولي، ومن أهمها الأمم المتحدة، على نحو ما يوضحه الأتي:

منتدى دولي للفضفضة:

 1- تراجع الانخراط من خلال الأمم المتحدة: عبر ترامب أثناء حملته الانتخابية عن عدم قناعته بمنظمة الأمم المتحدة، وبأنها ليست سوى "منتدي يلتقي فيه الناس للكلام وتمضية وقت لطيف"، بل إن الأداء المتخبط لإدارة ترامب، وتراجع اهتمامها بملفات أساسية بالنسبة لعمل منظمة الأمم المتحدة، بالإضافة إلى ما يبدو أنه توجه جاد لتقليص الدعم المالي المقدم لها، من الممكن أن يقوض بشكل كبير من قدرتها، المتراجعة أصلا، على لعب دور فعال فيما يتعلق بقضايا دولية هامة، وبالتالي يزيد من فرص تداعي أسس النظام الدولي، دون ظهور بديل واضح لها.

أ- خفض الإنفاق: جاءت أولى محاولات الإدارة تطوير سياسات محددة بشأن المنظمات الدولية في شكل مشروع أمر إداري تم إعداده في الأيام الأولى للعهد الجديد، وتم تسريبه إلى الصحافة، حيث إطلعت عليهم صحيفة "النيويورك تايمز" ونشرت تحليلات مطولة عنه، يتعلق بالدعم المالي الذي تقدمه الولايات المتحدة للمؤسسات الدولية، خاصة الأمم المتحدة، حيث ينص على تشكيل لجنة خاصة لمراجعته، وتخفيضه بما لا يقل عن 40%، مع تقديم توصيات عن كيفية تحقيق هذا الخفض، مع النظر خاصة في الدعم المقدم لعمليات حفظ السلام، التي تقدم الولايات المتحدة ما يقرب من ربع التمويل اللازم لها، والمعونات التنموية لدول تعارض سياسات أمريكية هامة. وقد تم إرجاء العمل بهذا الأمر التنفيذي مؤقتا، ربما لإعادة صياغته بسبب أخطاء تضمنها، ومنها إعادة النظر في الدعم المالي المقدم للمحكمة الجنائية الدولية، بينما الولايات المتحدة لا تقدم لها دعما.

ولكن في إطار ما تم الإعلان عنه من نية الإدارة إجراء تخفيض كبير في ميزانية وزارة الخارجية، وخاصة فيما يتعلق بمنظمة المعونة الأمريكية، فمن المتوقع أن يشهد الدعم المالي المقدم للأمم المتحدة أيضا تخفيضا كبيرا، لأن ذلك سيلقى دعما من القاعدة التي انتخبت ترامب، ومن الدوائر الجمهورية اليمينية. يضع ذلك المنظمة الدولية في مأزق، حيث أن جميع مؤسسات الدعم الإنساني بها ترزح تحت عبء الكوارث والأزمات المتلاحقة، وتعاني نقصا حادا في التمويل، ومن الصعب عليها أن تعوض النقص الذي سيسببه تراجع الدعم المادي الأمريكي.

ب- تذبذب المواقف: لم يحرص وزير الخارجية الأمريكي الجديد على التواصل مع الأمين العام للأمم المتحدة وفق التقليد الذي سار عليه أسلافه، الذين كان من أولوياتهم خلق علاقة وثيقة مع من يشغل هذا المنصب، ولم يلتق به حتى الآن. بل قد تردد في الإعلام أنه كانت هناك فرصة ليلتقيه على هامش بعض الفاعليات الدولية التي حضرها الإثنان لكنه لم يفعل، مثيرا التساؤل عما إذا كان ملف العمل في الأمم المتحدة لن يكون تحت إشراف الوزارة، خاصة وأن هناك تراجعا عاما في انخراط الوزير في عدة ملفات دولية، وأنه بالتالي قد يكون تحت إشراف البيت الأبيض بشكل مباشر.

وقد أثار اهتمام المراقبون تذبذب أداء مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هيلي، وغيابها عن التفاعل بشأن عدة ملفات هامة، ما يؤشر على عدم بلورة سياسة واضحة للإدارة الجديدة فيما يتعلق بالعديد من القضايا المثارة أمام مجلس الأمن، وربما الاتجاه لإدارتها من خارج هذا الإطار. ويتردد أن هيلي طلبت توضيحات بشأن بعض هذه القضايا من البيت الأبيض، وعندما لم يصلها رد واضح، اعتمدت المواقف القائمة التي وضعتها إدارة أوباما، أو امتنعت عن المشاركة في التفاعلات الخاصة بها. 

وتشير بعض التقارير الإعلامية إلى ورود تعليمات مباشرة لهيلي من البيت الأبيض بشأن بعض المواقف، وأن ترامب ونائبه بنس إلتقيا هيلي، على سبيل المثال، قبل إعرابها عن موقف الولايات المتحدة المتشدد من روسيا في مجلس الأمن، حيث أقنع بنس، والذي كان وراء ترشيح هيلي للمنصب أصلا، ترامب بأخذ هذا الموقف المتشدد الذي أرضى الدوائر الغربية في مجلس الأمن، وإن كان يتناقض مع ما يبديه ترامب من ميل لتحسين العلاقات مع روسيا. لكن من جانب آخر، فقد وضعت الإدارة هيلي في منصب حرج عندما أجبرتها على الاعتراض على تعيين سلام فياض مبعوثا للأمم المتحدة إلى ليبيا في آخر لحظة، بعد أن كانت أبدت الموافقة عليه، وذلك، حسب التسريبات لوسائل الإعلام، بقرار من صهر ترامب، جارود كوشنر، الذي يتولى ملف العلاقات مع إسرائيل. 

وتنظر دوائر الأمم المتحدة بترقب لموقف الولايات المتحدة في الاجتماع المرتقب بشأن جنوب السودان في وقت لاحق هذا الشهر، حيث أن الولايات المتحدة كانت الفاعل الرئيسي فيما يتعلق بهذه القضية، لكن من المستبعد أن تكون على أولويات الإدارة الجديدة، بل هناك من الدبلوماسيين الذين يعتقدون بأن الولايات المتحدة ليس لديها في الوقت الحالي سياسة تجاه هذه القضية. يخلق هذا تساؤلا عن مصير الملفات التي تنبتها في السابق الولايات المتحدة ولم تعد على أولوياتها.

إنكار تأثير المناخ:

2- تقويض السياسات الداخلية الأمريكية لأطر التعاون الدولي (اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ نموذجا): يركز جل المحللين على مخاطر انسحاب الولايات المتحدة من المؤسسات والاتفاقيات الدولية، لكن تغير أولويات إدارة ترامب على المستوى الداخلي يمكن في حد ذاته أن يقوض عمل هذه المؤسسات والاتفاقيات، حتى دون أن تنسحب منها الولايات المتحدة رسميا، ويعد هذا واضحا فيما يتعلق بمستقبل اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ، والتي تستند إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في هذا الصدد. تتسم إدارة ترامب بموقف متشدد من قضية تغير المناخ، فيما يشبه الإنكار لكل ما اعتمده العلم من دلائل على تأثير النشاط الإنساني على رفع درجة حرارة الأرض ومخاطره.

وقد ترجمت ذلك بإعلان نيتها تقليص ميزانية جهاز حماية البيئة بشكل كبير، وبتعيين مسؤولين في مناصب ذات صلة بالقضية أعربوا علنا عن تشككهم في هذه الحقائق العلمية، كما أنها تعمل بصورة حثيثة على إلغاء كل القيود التي وضعتها إدارة أوباما من أجل حماية البيئة وتقليل الانبعاثات الحرارية، منحازة في ذلك إلى صناعتي الفحم واستخراج الطاقة الأحفورية. 

وفي إطار نية الإدارة مراجعة جميع الاتفاقيات الدولية والمتعددة الأطراف التي تمثل الولايات المتحدة طرفا فيها، وهي النية التي ضمنتها في مشروع قرار تنفيذي تم أيضا تسريبه للصحافة ومن ثم تأجل توقيعه، فقد ثارت مؤخرا قضية موقف الإدارة من اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ. وتشير التسريبات الصحفية إلى جدل دائر في الدوائر المقربة من ترامب، حيث تحثه ابنته إيفانكا على التمسك بالاتفاقية، ويدعمها في ذلك وزير الخارجية، بينما يحثه مستشاره المقرب بانون على الانسحاب منها. 

والجدير بالذكر أن هذه الاتفاقية طوعية وغير ملزمة، ولا تحتاج بالتالي للتصديق من الكونجرس، وتمثل التزاما طوعيا من الدول الموقعة بتخفيض الانبعاثات الحرارية التي تنتجها بنسب حددتها هي. وقد خرجت الاتفاقية إلى النور نتيجة سنوات من العمل الجاد في إطار الأمم المتحدة لتحقيق التوافق بين الدول الموقعة، ولذلك فإن موقف الولايات المتحدة منها شديد الأهمية، بوصفها ثاني أكبر منتج لهذه الانبعاثات بعد الصين.

وبينما يعد الانسحاب من هذه الاتفاقية، بل وربما بشكل أكثر راديكالية الانسحاب من الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ، موقفا شديد السلبية، فإن عدم انسحاب الولايات المتحدة، مع عدم التزامها بما قطعته على نفسها من التزامات فيما يتعلق بتقليل الانبعاثات الحرارية، يمثل أيضا خطورة كبيرة على تماسك الاتفاقية، ويهدد مستقبل التعاون الدولي في هذا الصدد. وفي ضوء إلغاء إدارة ترامب للتدابير التي اعتمدها أوباما بالنسبة لتقليل الانبعاثات الحرارية، فمن المستبعد أن تستطيع الولايات المتحدة الوفاء بهذه الالتزامات. وإذا ما حاولت إعادة التفاوض بشأنها فإن ذلك سيقوض الاتفاق برمته، حيث قد تتراجع دول أخرى، مثل الهند، عن تعهداتها أيضا. 

كما أنه من المقرر أن تجتمع الدول خلال العامين القادمين، في إطار منظمة الأمم المتحدة، من أجل مراجعة التزام كل دولة بتعهداتها، وتحقيق الشفافية فيما يتعلق بالتدبيرات التي اتخذتها. وتاريخيا، عولت المنظمات الدولية على الضغط الأمريكي لتحقيق التزام الدول بالتعهدات الدولية، فإذا لم تلتزم الولايات المتحدة، فليس من الواضح وجود طرف آخر يمكن أن يلعب هذا الدور. كما أن مسار المفاوضات المستقبلية بشأن التوافق حول تحقيق تخفيضات جديدة في الانبعاثات الحرارية سوف يكون مهددا إذا لم تلتزم ثاني أكبر دولة منتجة لهذه الانبعاثات بالتزاماتها في هذا الصدد.

تبرز هنا أيضا قضية دور الولايات المتحدة في دعم هذه الجهود الدولية من خلال التمويل. فجزء أساسي من تحقيق المعدلات المتوافق عليها مرتبط بتوفير تمويل أمريكي للدول الأكثر فقرا من أجل تطوير قطاع الطاقة النظيفة، والتكيف مع التداعيات السلبية لتغير المناخ مثل القحط وارتفاع منسوب مياه البحار. وقد تعهدت الولايات المتحدة بتقديم 3 بليون دولار لهذه الأغراض، تم دفع بليون منها في عهد أوباما، ويبدو من المستبعد أن تفي إدارة ترامب بتعهداتها في ضوء توجهاتها الفكرية في هذه القضية، ما يهدد نجاح الاتفاقية في تحقيق أهدافها. 

مأزق مزدوج: 

خلاصة القول تبدو توجهات إدارة ترامب واضحة فيما يتعلق بتراجع اهتمامها بالعمل من خلال المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، وفي تعارض أولوياتها الداخلية مع القواعد والاتفاقيات التي حكمت النظام الدولي في العقود السابقة. ولا يقتصر هذا التعارض على قضية تغير المناخ، بل يمتد ليشمل القواعد التي حكمت النظام الاقتصادي العالمي، خاصة فيما يتعلق بالتبادل التجاري، حيث ألمحت الإدارة مؤخرا إلى أنها لن تلتزم بالضرورة بقواعد وأطر منظمة التجارة العالمية فيما يتعلق بمنازعاتها التجارية، ما يهدد مصداقية المنظومة بأكملها.

يضع ذلك المنظمات الدولية في مأزق مزدوج، هو غياب القدوة والالتزام والقيادة من جانب قوة عظمى مثل الولايات المتحدة من ناحية، وتراجع الدعم المادي الكبير الذي كانت تقدمه من ناحية أخرى. وفي ظل تعدد الاتجاهات والجهات المؤثرة على صنع القرار، وغياب المؤسسية إلى حد كبير، لا يبدو في الأفق حتى الآن أن هناك من سيحد من التأثيرات السلبية لإدارة ترامب على تماسك بنية النظام الدولي.