أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

بوتين نموذجاً:

حدود "عقلانية" الدول في إدارة السياسات الخارجية

26 يناير، 2024


عرض: هند سمير

ينظر سياسيون وخبراء في الغرب إلى قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتدخل العسكري في أوكرانيا في فبراير 2022 بأنه لم يكن عملاً عقلانياً، انطلاقاً من فرضية أن القادة العقلانيين يبدؤون الحروب فقط إذا كان من المرجح أن يفوزوا بها، ومع بدء حرب كان من المفترض أن يخسرها، بدا الظن الغالب أن بوتين قد أظهر عدم عقلانيته. على الجانب الآخر تركز وجهة نظر أخرى على انتهاك بوتين للمعايير الدولية الأساسية، إذ يرى أصحاب هذا المنظور أن السبب الوحيد المقبول أخلاقياً لخوض الحرب هو الدفاع عن النفس، في حين أن تدخل روسيا في أوكرانيا يُعد من وجهة نظر البعض بمثابة حرب استعمارية.

إلا أن كتاب "كيف تفكر الدول؟.. مدى عقلانية السياسة الخارجية" للمؤلفين جون ميرشايمر وسيباستيان روساتو والذي صدر في عام 2023 يفند تلك الادعاءات السابقة، وكيف أنها غالباً ما تكون غير صحيحة، وتستند إلى فهم خاطئ لمفهوم عقلانية الدولة في إدارة علاقاتها الخارجية. لذا، يفحص الكتاب فرضية الفاعل العقلاني في السياسة العالمية من خلال الإجابة عن سؤالين رئيسيين، أولاً، ما العقلانية؟؛ ثانياً، هل الدول فعلاً فاعلون عقلانيون؟ 

فرضية الفاعل العقلاني:

يصف الزعماء الأمريكيون خصومهم الأجانب بأنهم غير عقلانيين، ففي الـ25 عاماً الماضية، تم تسمية رؤساء أمثال، صدام حسين ومحمود أحمدي نجاد وهوغو تشافيز ومعمر القذافي وكيم جونغ أون وفلاديمير بوتين بأنهم "غير عقلانيين"، أو "غير منطقيين" أو غيرها. وفي بعض الحالات تم تشبيههم حتى بأدولف هتلر، الذي يُصوّر في كثير من الأحيان كرمز لعدم العقلانية. 

وإذا كانت هذه الادعاءات صحيحة، فإن علم العلاقات الدولية التقليدي يواجه مشكلة كبيرة لأن الكثير منه يستند إلى افتراض أن الدول فاعلون عقلانيون، كما أن تهم عدم العقلانية تجعل من المستحيل على قادة الدول تصميم سياسات خارجية فعّالة. لذلك، ثمة أهمية لتحديد ماهية "العقلانية" في السياسة الدولية، إلا أنه قبل ذلك يتعين التمييز بين بعض الجوانب الرئيسية للفاعلين ذوي الصلة والبيئة التي يعملون فيها. إذ إن هناك فارقاً مهماً بين صانعي السياسة والدول، كما قد يختلف معنى العقلانية بين الأفراد والجماعات، وكذلك بالنسبة للأهداف التي يحددها صانعو السياسة والدول واستراتيجياتهم لتحقيق تلك الأهداف. 

هنا، يشير الكتاب إلى أن هناك فارقاً بين "العقلانية الاستراتيجية"، و"عقلانية الأهداف". فـ"العقلانية الاستراتيجية" في السياسة الدولية تتعلق بكيفية فهم صانعي السياسات والدول لوضعهم واتخاذ القرارات المستقبلية في عالم مليء بعدم اليقين. بالتالي، تتمثل المهمة الرئيسية في تحديد ما هي الطرق الجيدة، أو العقلانية، مقابل الطرق السيئة، أو اللاعقلانية للقيام بذلك.

يستخدم صانعو القرارات العقلانيون نظريات موثوقة لفهم الوضع الذي يواجهونه واتخاذ قراراتهم، بينما يعتمد صانعو القرار غير العقلانيين على نظريات غير موثوقة أو عدم وجود نظريات على الإطلاق. أما بالنسبة للدول العقلانية، فإنها لا تقوم فقط بتأسيس سياستها على نظريات موثوقة، ولكنها تشارك أيضاً في التفاوض والحوار حول تلك السياسات. تتضمن هذه العملية الحيوية وغير المقيدة مناقشة قوية بين صانعي السياسات، بالإضافة إلى اختيار سياسي نهائي من قبل فاعل رئيسي. في المقابل، فإن الدول غير العقلانية لا تقوم بتأسيس سياستها على نظريات موثوقة أو تكون غير تفاوضية، إما لأن مناقشاتها الداخلية ليست قوية ومقيدة أو لأنها لا تتخذ قراراً سياسياً نهائياً.

العقلانية وإدارة الأزمات:

هل الدول عقلانية في سياستها الخارجية خاصة في صنعها للاستراتيجيات الكبرى واتخاذ القرارات في حالات الأزمات؟ للإجابة عن هذا السؤال يسعى الكتاب إلى فحص حالات تاريخية لتحديد ما إذا كانت الدول تستند في كثير من الأحيان إلى نظريات موثوقة في صياغة سياستها، وأن قراراتها كانت نتيجة لعملية تداول؟

في هذا الشأن، يصف الكتاب خمس حالات لاتخاذ قرارات استراتيجية كبرى، بالإضافة إلى خمس حالات لاتخاذ قرارات خطرة لدعم الحجة الأساسية التي ساقها الكتاب بأن الدول وصناع القرار يفكرون ويتصرفون بشكلٍ عقلاني ومتكرر. وبالرغم من أن كل واحدة من هذه الحالات العشر قد تم تقديمها كمثال من قبل وجهات نظر أخرى على عدم العقلانية، إلا أن الكتاب يثبت أنه في كل حالة، كانت عملية اتخاذ القرار قائمة على النقاش وأدت إلى سياسة تستند إلى نظرية موثوقة.

ومن بين هذه الحالات العشر، سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرض الهيمنة الليبرالية بعد الحرب الباردة، وتوسع حلف شمال الأطلسي بعد الحرب الباردة، والسياسات الأمريكية تجاه أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وشرق آسيا بعد الحرب الباردة. ومن بين الحالات الأوروبية، قرار ألمانيا ببدء الحرب العالمية الأولى وغزو الاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية، وكيفية مواجهة فرنسا للتهديد النازي قبل الحرب العالمية الثانية. هناك أيضاً بعض الحالات اليابانية بما في ذلك قرارها بمهاجمة الولايات المتحدة في بيرل هاربور.

 ومع ذلك قد لا تتصرف الدول دائماً بعقلانية، وللتدليل على ذلك أدرج المؤلفان أربع حالات من "السلوك غير العقلاني للدولة"، بما في ذلك الغزو الأمريكي لخليج الخنازير في كوبا في عام 1961، فضلاً عن القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة بغزو العراق في عام 2003. وفي كلتا الحالتين، استحوذت مجموعات صغيرة من المسؤولين رفيعي المستوى على عملية صنع القرار، وتم منع عملية نقاشية جادة. كما أشار المؤلفان إلى أن القرارات غير العقلانية يمكن أيضاً أن تكون نتيجة لنظريات غير موثوقة مثل: نظرية الدومينو، والنظريات العنصرية، أو طرق تفكير نظرية مثل: القياس والاستدلال.

عقلانية الهدف:

يرى بعض العلماء أنه ليس هناك فائدة كبيرة من مناقشة عقلانية الأهداف لأنه لا يوجد ما يُعد هدفاً عقلانياً أو غير عقلاني. بالنسبة لهؤلاء، هناك نوع واحد من العقلانية فقط، وهو ما يطلق عليه العقلانية الاستراتيجية. ولا يتفق ميرشايمر وروساتو مع هذا الرأي، إذ يريان أنه إذا كانت العقلانية تعني فهم العالم بغرض التحرك فيه تحقيقاً لأهداف معينة، فإن تفسير هذا المفهوم يجب أن يشمل كيفية تفكير الدول في أهدافها بالإضافة إلى كيفية تحقيقها. 

ويشير المؤلفان إلى أنه على الرغم من أن الدول العقلانية لديها دائماً العديد من الأهداف، فإنها تعتبر البقاء على قيد الحياة هو الهدف الأهم. تحظى هذه الملاحظة بدعم واسع الانتشار، ولكن ليس بدعم جماعي، إذ ترى بعض نظريات العلاقات الدولية أن تفضيل البقاء ليس علامة على عقلانية الأهداف.

في المقابل، هناك أدلة وفيرة على أن الدول تطرح هدفاً عقلانياً؛ وهذا يعني أنها سعت للبقاء وأعطت الأولوية للبقاء على غيره من الأهداف. وإن كان هذا لا يعني أن الدول دائماً تتمكن من البقاء. فقد انهار الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا بعد انتهاء الحرب الباردة. ولكن في كل حالة، كان القادة يفضلون الحفاظ على سلامة بلدانهم. في الواقع، لم يجد المؤلفان سوى مثال واحد على عدم عقلانية الهدف في التاريخ، وهو: سلوك ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية.

ووفقاً للمؤلفين، من الممكن أن تكون عقلانياً وتفشل في تحقيق أهدافك، فقد يكون هناك أكثر من نظرية موثوقة لموقف معين، ويمكن أن تكون هناك مشكلات في المعلومات. إضافةً إلى الحظ والظروف التي يمكن أن تغير الأمور بطرق غير متوقعة. بمعنى آخر، يمكنك أن تفعل كل شيء بشكلٍ صحيح وتفشل في الوصول إلى النتائج المرجوة.

العقلانية في السياسات الدولية:

لقد تحدى النقاد الافتراض القائل إن الدول هي جهات فاعلة عقلانية، بحجة أن صناع السياسات غالباً ما يتخذون قرارات غير عقلانية بسبب القيود المعرفية. واشتدت هذه الانتقادات على مدى العقدين الماضيين، إذ قدَّم علماء النفس السياسي ومنظرو الاختيار العقلاني أبحاثاً تجريبية لرفض فكرة أن قادة الدولة عقلانيون بشكلٍ متكرر. ومع ذلك، يرى مؤلفا الكتاب أن الدول عقلانية؛ مما يعني أنها تبني سياساتها على نظريات موثوقة وتنخرط في عملية صنع السياسات القائمة على النقاش. ويحذر المؤلفان من الخلط بين العقلانية والأخلاق، مسلطين الضوء على أن صناع القرار العقلانيين يركزون على الاستراتيجيات الفعالة، حتى لو كانت تنطوي على تهديدات أو عنف، مما يعكس الواقع القاسي للسياسة الدولية.

 وعلى الرغم من أن ميرشايمر كان من أشد المنتقدين لقرار الولايات المتحدة قبول انضمام الدول الشيوعية الأوروبية السابقة إلى منظمة حلف شمال الأطلسي، فإنه يرى أن هذا كان قراراً عقلانياً؛ لأنه كان يستند إلى نظريات ذات مصداقية. فمجرد اختلافك مع شخص ما لا يجعله غير عقلاني.

وعلى صعيد الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة، وعلى عكس الانتقادات الشائعة، يُجادل المؤلفان بأن قرار روسيا بالتدخل العسكري في أوكرانيا كان عقلانياً، فهما يؤكدان أن قادة روسيا عملوا استناداً إلى نظرية موثوقة، معارضين بذلك الافتراضات القائلة إن بوتين كان مدفوعاً في قراره بالرغبة في فتح أوكرانيا وبلدان أخرى في أوروبا الشرقية لإنشاء إمبراطورية روسية عظمى. 

فمن وجهة نظر الكُتاب، فإن بوتين ومستشاريه كانوا يفكرون من منطلق نظرية توازن القوى المباشرة، إذ كانوا ينظرون إلى الجهود التي يبذلها الغرب لجعل أوكرانيا حصناً على حدود روسيا باعتبارها تهديداً وجودياً لا يمكن السماح له بالاستمرار. باختصار، كانت هذه حرباً للدفاع عن النفس تهدف إلى منع حدوث تحول سلبي في ميزان القوى.

جدير بالذكر أن موسكو فضَّلت التعامل مع التهديد المتزايد على حدودها من خلال الدبلوماسية العدوانية، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يكونوا على استعداد للاستجابة لمخاوف روسيا الأمنية. في هذه الحالة، اختار بوتين الحرب. ويشكك العديد من المراقبين في هذه النقطة، فيزعمون أن بوتين عمل بمفرده من دون مساهمة جادة من المستشارين المدنيين والعسكريين، الذين كانوا سينصحونه بما هو ضد محاولته المتهورة لبناء الإمبراطورية. 

وتحكي الأدلة المتاحة قصة مختلفة: فقد تبادل مرؤوسو بوتين وجهات نظره حول طبيعة التهديد الذي يواجه روسيا، كما تشاور معهم قبل اتخاذ قرار بشأن الحرب. وينعكس الإجماع بين الزعماء الروس بشأن المخاطر الكامنة في علاقة أوكرانيا مع الغرب في مذكرة عام 2008 التي كتبها سفير واشنطن لدى روسيا آنذاك ويليام بيرنز؛ وحذرت من أن انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" هو أبرز الخطوط الحمراء بالنسبة للنخبة الروسية (وليس بوتين فقط). 

ويشير ميرشايمر إلى أنه خلال أكثر من عامين ونصف من المحادثات مع الفاعلين الروس الرئيسيين، لم يجد حتى الآن أي شخص ينظر إلى انضمام أوكرانيا إلى "الناتو" على أنه أي شيء آخر غير تحدٍّ مباشر لروسيا. كما يرى ميرشايمر أن قرار روسيا بالحرب مع أوكرانيا لم يكن عقلانياً فحسب، بل لم يكن شاذاً أيضاً وفقاً لنمط تفكير الروس في التهديدات المباشرة لبلادهم.

المصدر:

John J. Mearsheimer and Sebastian Rosato, “How States Think-The Rationality of Foreign Policy”, Yale University, 2023.