اتخذت فرنسا خطوات عديدة من أجل تطوير العلاقات الثنائية مع العراق في شتى المجالات المختلفة، بشكل دفع اتجاهات عديدة إلى طرح تساؤلات حول دوافع هذا الاهتمام، خاصة في ظل التحديات العديدة التي تواجهها العراق في الوقت الحالي. ويمكن رصد أبرز المؤشرات الدالة على وجود اهتمام فرنسي لافت بتطوير العلاقات مع العراق، وذلك من خلال ما يلي:
1- دعم إجراء الانتخابات المبكرة: أعلنت الأمم المتحدة، في 17 نوفمبر الجاري، أنها "ترحب بمساهمة فرنسا بمبلغ مليون يورو لمشروع تقوده لدعم ومساعدة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات". وأشار البيان الصادر عن المنظمة الدولية إلى أن "المساهمة ستساعد في نشر المستشارين الانتخابيين التابعين للأمم المتحدة، بينما تستعد المفوضية العليا المستقلة للانتخابات المقبلة". بدوره، قال برونو أوبير سفير فرنسا في العراق أن "الانتخابات المقبلة فرصة للعراقيين لإسماع صوتهم، وهذه المساهمة تُظهر دعم فرنسا القوي والمستمر للعراق".
2-تجدد الضربات ضد "داعش": كشفت وزارة الدفاع العراقية، في 12 نوفمبر الجاري، أن "الطيران الفرنسي، بأمر من قيادة العمليات المشتركة العراقية، نفذ ضربات جوية في جبال قره جوغ بقضاء مخمور التابع لمحافظة نينوى"، وأضافت أن "الضربات الجوية أسفرت عن مقتل 3 إرهابيين، وتدمير 4 أوكار لهم". ورغم أن تلك الضربات من المفترض أن تكون طبيعية نظراً لأن فرنسا طرف في التحالف الدولي ضد "داعش"، إلا أنه من اللافت أن باريس كانت قد قلّصت بشكل واضح دورها في العمليات ضد التنظيم داخل العراق، حيث قامت بشن ضربة واحدة في العراق في يوليو الماضي، وذلك بعد توقف دام حوالي ثمانية أشهر بعد الضربة التي وجهتها ضد التنظيم داخل العراق في نوفمبر 2019.
3- زيارات متعددة لبغداد: وفي مقدمتها الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2 سبتمبر الماضي، والتي التقى خلالها بالرئاسات الثلاثة ورئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني. ويُشار في هذا الصدد إلى أن هذه الزيارة كانت أول زيارة رسمية لرئيس دولة لبغداد منذ تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة في مايو الماضي. وتعهد ماكرون خلال الزيارة بدعم العراق في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية، وشدد على أن التعاون الدفاعي بين البلدين يجب أن يحترم سيادة العراق. كما أن وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي كانت قد قامت بزيارة لبغداد وأربيل في 28 أغسطس الماضي، وسبقها وزير الخارجية جان ايف لودريان بزيارة في 16 يوليو الماضي.
اعتبارات مختلفة:
يمكن تفسير الاهتمام الفرنسي اللافت بتوسيع نطاق العلاقات الثنائية مع العراق انطلاقاً من اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- رفع مستوى التعاون الاقتصادي: تحاول الحكومة الفرنسية الاستفادة من بعض الفرص الاقتصادية المتاحة عبر التعاون مع بغداد. ولعل أبرز مظاهر سعى الطرفين لتعزيز التعاون بينهما في هذا المجال كانت مذكرات "إعلان النوايا" الثلاثة، والتي وقع عليها الجانبان خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفي الكاظمي لباريس في 19 أكتوبر الماضي. وتستهدف تلك المذكرات دعم التعاون بين الجانبين في مجال تعزيز القدرات المؤسساتية لوزارة الزراعة العراقية، بما في ذلك تبادل الخبرات في مجال الزراعة والتدريب والتعليم البيطري والصحة النباتية والبحوث الزراعية، بالإضافة إلى قيام باريس بإنشاء قطار مُعلَّق في بغداد. كما أن الكاظمي سبق وأكد خلال زيارة ماكرون للعراق على أنه تم التباحث بشأن مشروع محطة نووية لمعالجة نقص الكهرباء تحت إشراف وكالة الطاقة الذرية. ولفت الكاظمي إلى أن الجانبين بحثا مشروع مترو لبغداد.
2- زيادة مبيعات الأسلحة: تستهدف باريس بشكل واضح زيادة صادراتها من الأسلحة لبغداد. ويتضح ذلك من خلال تصريحات وزير وزير الدفاع العراقي جمعة عناد في 17 نوفمبر الجاري، والتي أشار خلالها إلى أن الهدف الأساسي من زيارته لفرنسا في 13 من الشهر نفسه، هو تعزيز قدرات الجيش العراقي بأحدث الأسلحة والمعدات. وأوضح أن هناك رغبة بالتعاقد لشراء طائرات "رافال الجيل الرابع بلس" من فرنسا.
3- محاربة التطرف الداخلي: من اللافت أن تصاعد الانخراط الفرنسي في الحرب ضد خلايا تنظيم "داعش" في العراق يتزامن مع تزايد الاهتمام الحالي من جانب الحكومة الفرنسية بمحاربة التطرف في الداخل، وهو ما يبدو جلياً من خلال الاستعداد لطرح مشروع قانون "الانفصالية الإسلاموية" في البلاد. ولا ينفصل الانخراط الفرنسي المتزايد في الحرب على خلايا "داعش" في العراق عن التحذيرات الأممية والغربية الأخيرة من إمكانية تصاعد نشاط التنظيم من جديد على الساحتين العراقية والسورية.
ويُشار في هذا الصدد إلى أن فرنسا تحاول في الوقت الحالي الضغط على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للإبقاء على الحضور العسكري الأمريكي في العراق من أجل ضمان محاصرة أفضل لتنظيم "داعش"، وهو ما يتضح من خلال تصريحات وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في 13 نوفمبر الجاري، والتي أكد خلالها على أن بلاده ستطلب من الولايات المتحدة عدم الانسحاب من العراق لاستمرار محاربة الإرهاب.
4- ممارسة ضغوط ضد تركيا: تشهد الفترة الأخيرة تجاذباً واسعاً بين أنقرة وباريس بسبب تناقض أجندات الطرفين الإقليمية. ويبدو في هذا الإطار أن أحد الدوافع الرئيسية لفرنسا لتعزيز العلاقات مع العراق يتعلق بسعيها إلى مزاحمة تركيا في ساحة هامة مثل العراق. ويبدو أن أنقرة أدركت مغزى التحركات الفرنسية، على نحو دفعها إلى المسارعة بتوجيه دعوة لرئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني لزيارتها بعد لقائه بالرئيس الفرنسي في بغداد في سبتمبر الماضي.
كما وجهت أنقرة أكثر من دعوة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لزيارتها قريباً. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قال، خلال زيارته الأخيرة لبغداد، أن "التدخلات الخارجية من شأنها إضعاف الحكومة والدولة العراقية، ومن مصلحة المجتمع الدولي دعم العراق، لأنه يمتلك إرادة إصلاحية واضحة"، وذلك في إشارة ضمنية للعمليات العسكرية التركية في شمال العراق، وأضاف: "نحن هنا اليوم في بغداد وسنكون هنا غداً".
ختاماً، من الواضح إذن أن حرص فرنسا على تعزيز التعاون الثنائي مع العراق في المجالات المختلفة يأتي في سياق سعيها إلى توسيع نطاق دورها في عملية إعادة صياغة الترتيبات الأمنية والسياسية التي تشهدها دول ومناطق الأزمات في الشرق الأوسط، على نحو يبدو جلياً أيضاً في انخراطها النشط داخل لبنان في الفترة الحالية.