تحرص إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل رحيلها في يناير المقبل على تقليص الحضور العسكري الأمريكي في العراق، وهو ما تجلى في إعلان وزارة الدفاع الأمريكية في 17 نوفمبر الجاري عن سحب 500 جندي من العراق في الفترة المقبلة، لتنخفض بذلك أعداد القوات الأمريكية في العراق من 3000 إلى 2500 جندي.
اعتبارات عديدة:
يمكن تفسير مسعى إدارة ترامب قبل رحيلها لتخفيض أعداد القوات الأمريكية في العراق، في ضوء الاعتبارات التالية:
1- تراجع تأثير ضغوط البقاء: جاء قرار الإدارة الأمريكية بتقليص أعداد القوات الأمريكية في العراق بعد أيام قليلة من إقالة وزير الدفاع السابق مارك إسبر في 9 نوفمبر الجاري، ومن ضمن أبرز دوافع الإقالة، كما تشير تقارير عديدة، وجود خلافات بين ترامب وإسبر بشأن التواجد الأمريكي في الخارج، حيث سبق وقاوم الأخير محاولات الرئيس المتقطعة لإصدار أوامر بإعادة القوات الأمريكية من الخارج. ويُشار في هذا الصدد إلى أن المواقف السابقة لوزير الدفاع الأمريكي الجديد بالوكالة كريستوفر ميلر تشير إلى أنه مؤيد لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في الخارج.
وقد أشار ميلر، في معرض تعليقه على قرار تخفيض القوات الأمريكية في العراق، إلى أن القرار تم اتخاذه بناءً على توجيهات الرئيس ترامب، وبعد التشاور مع مجلس الأمن القومي والقادة العسكريين. كما أن تعيين ميلر للكولونيل في الجيش دوغلاس ماكريغور في منصب مستشار أول للبنتاجون يوجه إشارة بأن إدارة ترامب تريد الإسراع في تقليص الحضور العسكري الأمريكي في الخارج، خاصة وأن الكولونيل ماكريغور يعد من أشد المطالبين بإنهاء الحضور العسكري الأمريكي الخارجي لرؤيته أن واشنطن ليس لديها مصالح وطنية للقيام بذلك.
2- الحرص على تبني خطوات مخالفة لنهج بايدن: تعكس طبيعة الفريق الانتقالي لوزارة الدفاع، وتصعيد الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن لكوادر تربطهم صلات قوية بالصناعة العسكرية تغيراً محتملاً في نظرته لقضية التدخلات الخارجية، وهو ما دفع اتجاهات عديدة إلى اعتبار أن هذا التغير بات أكثر ترجيحاً مع تعيين انتوني بلينكن وزيراً للخارجية، والمعروف عنه دفاعه عن التدخل العسكري الأمريكي في دول مثل ليبيا وسوريا والعراق.
3- تنفيذ الالتزامات الخاصة بمخرجات الحوار الاستراتيجي: تحاول إدارة ترامب من خلال إعلانها الأخير عن تخفيض حضورها العسكري في العراق الظهور في صورة الملتزم بمخرجات الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد، حيث سبق وأشار البيان الختامي لجولة الحوار الاستراتيجي الثانية التي جرت في واشنطن في أواخر أغسطس الماضي، إلى اتفاق الطرفين على مواصلة الولايات المتحدة تخفيض عدد قواتها المتواجدة في العراق في ضوء التقدم المتميز بشأن التخلص من تهديد تنظيم "داعش"، إلا أنه أقر بقاء جزء من القوات الأمريكية ضمن التحالف الدولي ضد التنظيم وفي إطار مرحلة جديدة مرتقبة تركز على تدريب وتجهيز ودعم القوات الأمنية العراقية.
4- تحديات تأمين المصالح الأمريكية: ترتبط خطوة تقليص الحضور العسكري الأمريكي في العراق بالعقبات التي تواجه الحكومة العراقية في سبيل فرض قيود على تحركات وأدوار الميليشيات التي تقف وراء استهداف المصالح الأمريكية في البلاد. ولعل أبرز مظاهر الإقرار الأمريكي بذلك كان الدعوة اللافتة التي وجهتها السفارة الأمريكية في بغداد في 18 أكتوبر الماضي للحكومة العراقية بوضع المجاميع المسلحة تحت سيطرة الدولة بشكل نهائي، على اعتبار أن هذا الأمر هو الطريقة الوحيدة لوقف المزيد من إراقة الدماء. ويُشار في هذا الصدد إلى أن ميليشيات الحشد الشعبي تسببت في إحراج غير مسبوق للحكومة العراقية على مدار الأشهر الأخيرة بسبب استهدافها المتكرر للمصالح الأجنبية.
5- التوافق مع مساعي تقليص الحضور الأمريكي في سوريا: لا تنفصل جهود تقليص الحضور العسكري الأمريكي في العراق عن الخطوات الأخيرة التي اتخذت على مستوى تخفيض عدد القوات الأمريكية في سوريا أيضاً. إذ قامت القوات الأمريكية في 15 نوفمبر الجاري بسحب رتل مكون من 50 عربة مدرعة ودبابة تابعة للجيش الأمريكي في شمال شرق سوريا، كما أشارت تقارير عديدة في 7 نوفمبر الجاري إلى أن ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية "قسد" ستعلن في شهر ديسمبر المقبل عن تشكيل "قوات حرس الحقول النفطية" لتستلم مهام حماية الحقول النفطية في مناطق شمال شرق سوريا من القوات الأمريكية.
حضور مستمر:
مع ذلك، لا يتوقع أن تتطور خطوة تقليص الحضور الأمريكي في العراق إلى انسحاب شامل في الفترة القادمة، وذلك لسببين هما:
1- مراقبة إيران: تُعوِّل واشنطن على الإبقاء على حضور عسكري مقبول في الساحة العراقية، وذلك من أجل التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة من نقطة انطلاقه الرئيسية، وهى الجبهة العراقية والتي تعد المصدر الرئيسي للنشاطات الإيرانية في الإقليم. ويُشار في هذا الصدد إلى تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 20 أغسطس الماضي بأن "بلاده لديها عدد محدود من الجنود في العراق لكنها هناك للمساعدة في حال أقدمت إيران على أى شيء". كما يُتوقع أن يحرص الرئيس بايدن على الإبقاء على حضور للقوات الأمريكية في الساحة العراقية، وسيكون الدافع الرئيسي لذلك هو التصدي لنشاط تنظيم "داعش" المتصاعد.
2- ضغوط الحكومة العراقية: تشير تصريحات المسئولين الأمريكيين في الفترة الأخيرة إلى وجود رغبة عراقية للإبقاء على دور عسكري أمريكي في البلاد. إذ قال قائد القيادة المركزية في الجيش الأمريكي "سنتكوم" الجنرال كينيث ماكينزي في 19 نوفمبر الجاري بأن بغداد تريد استمرار الوجود العسكري الأمريكي من أجل محاربة خلايا تنظيم "داعش".
ختاماً، من الواضح أنه رغم أن خطوة تقليص الحضور الأمريكي في العراق كانت محور توافق بين بغداد وواشنطن طبقاً لمخرجات الحوار الاستراتيجي بين الجانبين وتعد تحركاً طبيعياً في ضوء استمرار التهديدات الأمنية للقوات الأمريكية في العراق، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة أطرافاً عديدة لديها رغبة في استمرار الوجود العسكري الأمريكي في العراق، لاعتبارات تتجاوز الحرب على الإرهاب وتمتد إلى ممارسة ضغوط قوية على إيران في إطار التصعيد المتبادل بين الطرفين.