يكشف تكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة اللبنانية عن وجود اتجاه نحو تقليص حدة التوتر بين القوى السياسية، خاصة بين تيار المستقبل وكل من التيار العوني وحزب الله وحركة أمل، لاسيما في ظل الأزمة السياسية والاقتصادية التي تواجهها لبنان في المرحلة الحالية، فضلاً عن الضغوط التي تفرضها التطورات التي تشهدها بعض الملفات الإقليمية التي تنعكس ارتداداتها على الداخل اللبناني بشكل مباشر.
وقد حصل الحريري، خلال الاستشارات النيابية الملزمة التي أجراها رئيس الجمهورية ميشال عون في 22 أكتوبر الجاري، على 65 صوتاً نيابياً من أصل 120 صوتاً، بينما رفض 53 نائب تسميته، علماً بأن هناك نائبين لم يحضرا الاستشارات، ومن ثم تم تكليفه رسمياً من قبل الرئيس عون للبدء في عملية تأليف الحكومة.
وقد تبع تكليف الحريري إجراء استشارات غير ملزمة مع الكتل النيابية والنواب المستقلين في مجلس النواب في اليوم التالي من التكليف. وفي هذ السياق، تشير تقارير عديدة إلى وجود توافق نسبي بين غالبية القوى السياسية على تمرير تشكيل الحكومة في أسرع وقت، وهو ما انعكس في المطالبة بالتركيز على ضم اختصاصيين لإنقاذ لبنان، وتكشف تلك التقارير عن قبول الحريري تسمية الكتل النيابية الوزراء بشرط ألا يكونوا حزبيين، وذلك مع وجود بعض التمايزات في المطالب، حيث طالب التيار الوطني الحر بتشكيل حكومة "تكنوسياسية"، كما دعا حزب القوات اللبنانية إلى تطبيق مبدأ المداورة في الحقائب الوزارية.
مشهد متغير:
ربما تشهد لبنان خلال الفترة المقبلة تغيرات على المستوى السياسي وخريطة توزيع الأدوار، وذلك على النحو التالي:
1- تهدئة مع العونيين: تصاعدت حدة التوتر في الفترة الأخيرة بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل خاصة مع زعيمه سعد الحريري، مما أسفر عن عدم تسميته في الاستشارات النيابية الملزمة، وذلك بالرغم من تقبل الرئيس ميشال عون تولي الحريري رئاسة الحكومة، وتحركه لحلحلة أى عقد لإنجاح مهمته، بدءاً من التكليف وصولاً إلى ممارسة مهامه الحكومية، ويُشار في هذا الصدد إلى أن عقد لقاء بين الحريري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل يوحي بأن عون تدخل لتقليص مساحة الخلافات بينهما، وأن الهدف هو الإسراع بتشكيل الحكومة في الفترة القادمة.
2- حسابات حزب الله: تطرح موافقة حزب الله، ضمنياً، على تسمية الحريري بالرغم من عدم تسميته في الاستشارات الملزمة، دلالة مهمة تتمثل في أنه يبدو حريصاً على إعادة الزخم لعلاقته بجبران باسيل الرافض لتسمية الحريري، كما أن موقف الحزب لا يخرج عن إطار تكرار عدم تسميته في الحكومات الثلاث السابقة التي رأسها، مع تأكيد الحزب الاستعداد للتعاون مع الرئيس المُكلَّف، مما يعني أن هناك دعماً من قبل الحزب وحركة أمل للحريري في مهمته، ولعل وفد تيار المستقبل الذي عقد لقاءات مع الجانبين (برئاسة النائبة بهية الحريري) قبل الاستشارات الملزمة، كان له دور في تذليل العقبات تجاه تسمية الحريري.
3- تمايزات داخلية: كشفت الاستشارات الملزمة عن تمايز في المواقف داخل الكتل السياسية، حيث تبنى النائب جان طالوزيان موقفاً مخالفاً لكتلة "الجمهورية القوية" (حزب القوات اللبنانية) من تسمية الحريري، وفي السياق نفسه آثر النائبان عدنان الطرابلسي وجهاد الصمد مخالفة قرار "اللقاء التشاوري" (7 نواب سنة من بينهما النائبين) بعدم تسمية الحريري، وذلك باعتبار أن الوضع الداخلي لا يحتمل مناكفات سياسية مع تيار المستقبل وزعيمه، مما سيكون له أثر داخل تلك القوى السياسية، ولن يؤدي بالضرورة لتصدعها، ولكنه سيدفعها إلى إجراء مراجعات في مقاربتها للمشهد السياسي وعلاقتها بمكونات الحكم.
4- مرونة ملحوظة: يتخذ الحريري نهجاً مرناً في التعامل مع جميع الفرقاء السياسيين والرأى العام الداخلي، وهو ما تجلى في تصريحه بعد تكليفه بأنه ينوي تشكيل حكومة اختصاصيين غير حزبيين لتنفيذ المبادرة الفرنسية، وفي الوقت نفسه أشارت اتجاهات عديدة إلى نيته ترك الكتل النيابية تسمية وزراءها وفق تلك المعادلة، ويدعمه في ذلك التوجه فرنسا التي تدفع لتشكيل حكومة في أسرع وقت، وهى التي ارتأت الوصول إلى تسوية غير معلنة بين القوى السياسية على قاعدة "الكل فائز" شريطة تقديم تنازلات لإنقاذ الوضع الحالي من الانهيار.
وفي هذا السياق، يُرجح أن يكون شعار المرحلة المقبلة هو تشكيل حكومة بتوافق سياسي مرحلي، مع تحييد أى جهات معارضة عن المشهد الداخلي إن لم توافق على ذلك الشعار الجديد، مما قد يدفعها لمقابلة مرونة الحريري بمرونة مماثلة.
5- حكومة الضرورة: بغض النظر عن التحديات التي قد تواجه الحريري في تشكيل الحكومة، والتي تتعلق بعددها، وتوزيع الحقائب الوزارية خاصة الوازنة، ومحاولة التمثيل الأكبر لجميع المكونات اللبنانية حكومياً، فإن المسار الذي قد يتُبع يتمثل في تشكيل حكومة تكنوقراط بانتماءات سياسية غير بارزة، على أن يكون الحريري همزة الوصل مع القوى السياسية لاحتواء مخاوفها من فقدان نفوذها في السلطة التنفيذية، وفي الوقت نفسه الضغط على الوزراء لعدم اتخاذ مواقف متحيزة من فصيل معين، وفي المقابل ستلتزم القوى السياسية بعدم مهاجمة الوزراء بناءً على اعتبارات طائفية أو سياسية، مما يشير إلى احتمال حدوث تغير في الخطاب الإعلامي للقوى السياسية بشكل لا يفرض تداعيات سلبية على المشهد السياسي.
ختاماً، من الواضح أن التسوية غير المعلنة بين الفرقاء السياسيين، مع وجود تمايزات استثنائية، سيكون لها صدى إيجابي على المشهد الداخلي اللبناني في الفترة المقبلة، وذلك في محاولة استعادة ثقة المواطنين من جهة، وتجاوز الضغوط الداخلية والخارجية من جهة أخرى، ولكن في الوقت نفسه سيظل الترقب الحذر من قبل النخبة الحاكمة قائماً للحفاظ على نفوذها مع عدم اتخاذ مواقف راديكالية، مثل عرقلة تأليف الحكومة أو عملها بعد التشكيل، لأن البديل ستكون تكلفته مرتفعة عليها في حالة تبني اتجاه مضاد.