أسفرت التحديات التي فرضها فيروس "كوفيد- 19" على اقتصاديات العالم، بأشكال مختلفة ودرجات متباينة، عن تأثيرات طالت تحويلات العاملين العرب بالخارج، من زوايا مختلفة أبرزها ضعف تغذية الاحتياطات الخارجية عبر زيادة دخول العملات الأجنبية إلى البلاد، وتقلص دعم إيرادات الدولة ومساهمتها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتراجع توجيه الاستثمارات إلى المشروعات الصغيرة والمتوسطة والقطاع العقاري، وتخفيف حدة الأزمات الإنسانية خاصة في دول الصراعات المسلحة العربية، واحتواء تداعيات العقوبات الاقتصادية الخارجية.
أزمة عالمية:
لم تكن أزمة تراجع تحويلات العاملين بالمهجر خاصة بالدول العربية وإنما تشمل دول العالم ككل. فقد توقع البنك الدولي، في 22 إبريل الماضي، أن تتراجع التحويلات المالية للعاملين بالخارج حول العالم، في عام 2020، بنسبة تقترب من 20% نتيجة التبعات الاقتصادية التي خلَّفتها جائحة "كورونا". ووفقاً للبنك، من المتوقع أن تكون أوروبا ووسط آسيا من أكثر المناطق تأثراً، بحيث تشهد تراجعاً قدره 27.5% في تحويلات العاملين المغتربين لديها، تليها دول أفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 23.1%، ثم دول جنوب آسيا بنسبة 22.1%، وتأتي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المرتبة الرابعة بنسبة 19.7%، ثم أمريكا ومنطقة الكاريبي بنسبة 19.3%، وأخيراً شرق آسيا والمحيط الهادي بنسبة 13%.
وأضاف: "إن هذا التراجع، الذي يعد الأعنف في التاريخ الحديث، سيكون ناتجاً عن خسارة العاملين بالخارج لوظائفهم وفقدان رواتبهم خلال الأزمة الحالية في البلدان التي يعملون بها". كما أن هذا التراجع من المرجح استمراره في ظل انتشار الموجة الثانية من جائحة "كورونا" في العالم. فضلاً عن لجوء بعض دول الخليج مثل الكويت إلى إجراءات توطين العمالة لديها، لخفض نسبة البطالة، وهو ما يؤثر على أوضاع العمالة القادمة من دول الإرسال. وقد صدر أيضاًً تقرير عن معهد التمويل الدولي بلندن، في 3 يونيو الماضي، يشير إلى تبعات سلبية للجائحة على اقتصاديات الدول المصدرة للعمالة، وأبرزها مصر ولبنان والأردن.
ووفقاً لما ذكره البنك المركزي الأردني، في 13 سبتمبر الفائت، فإن تحويلات المغتربين الأردنيين تراجعت بنسبة 9.8% في الشهور السبعة الأولى من العام الحالي، إلى 1.38 مليار دينار أردني (1.94 مليار دولار)، ويرجع ذلك بصورة أساسية إلى تداعيات جائحة "كورونا" وانخفاض أسعار النفط. وينطبق ذلك أيضاً على المغتربين من دول عربية أخرى مثل اليمن، حيث توقع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، على نحو ما صرح به مديره التنفيذي أوكي لوتسما، في 19 أغسطس الماضي، تراجع تحويلات اليمنيين بالخارج التي تقدر بـ3.5 مليار دولار، بنسبة 70% خلال العام الجاري، مدفوعة بالركود الاقتصادي لجائحة "كورونا".
وعلى الرغم من تراجعها في عام 2020، لاتزال تحويلات العمالة العربية، وخاصة المصرية والسودانية والمغربية والتونسية والجزائرية واليمنية واللبنانية والأردنية والسورية، في المهجر تقوم بأدوار مختلفة، اقتصادية لكنها ذات أبعاد سياسية، يمكن تناولها على النحو التالي:
العملة الصعبة
1- ضعف تغذية الاحتياطات الخارجية عبر زيادة دخول العملات الأجنبية إلى البلاد: الأمر الذي تحتاجه بعض الدول العربية المتأزمة اقتصادياً مثل لبنان، حيث تضررت مداخيل القطاع الأوسع من اللبنانيين مع انهيار سعر صرف الليرة، وصاروا يتوقون لمصدر خارجي للأموال، أي التحويلات بالدولار، سواء عبر المصارف أو شركات تحويل الأموال، لاسيما في ظل ارتفاع الأسعار وتعثر الاقتصاد وتقلص مداخيل السياحة التي كانت تشكل ما يقرب من 20% من الناتج المحلي الإجمالي. ويشير أحد التقديرات إلى استفادة نحو 200 ألف عائلة من تحويلات خارجية للبنانيين يعملون في المهجر، وخاصة من دول أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، تليها دول الخليج العربي، وأفريقيا، وازدياد احتياج الأسر اللبنانية لهذه التحويلات خلال العام الجاري بعد تصاعد الحراك اللبناني وتداعيات جائحة "كورونا".
دخل الدولة
2- تقلص دعم إيرادات الدولة ومساهمتها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية: تساهم تحويلات المغتربين العرب بالخارج في ضخ أموال بما يزيد من دخل الدولة، والتي توظف في عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. واللافت للنظر أن ثمة تراجعاً واضحاً لتحويلات العاملين بالخارج في زيادة إيرادات الدولة في العديد من الحالات العربية خلال عام 2020، والذي تأثر بجائحة "كورونا" وسياسات التقشف التي طبقتها بعض دول الاستقبال. فعلى سبيل المثال، أدت حالة التقشف والبطالة في عدد من الدول الأوروبية (وخاصة فرنسا وبلجيكا وألمانيا) إلى تقليص حجم التحويلات المالية الواردة إلى تونس والجزائر والمغرب.
نوافذ الاستثمار
3- تراجع الاستثمارات في المشروعات الصغيرة والمتوسطة: تذهب بعض النسب المتبقية من تحويلات العمالة العربية المهاجرة بالخارج إلى تأسيس بعض الشركات التجارية الصغيرة أو المتوسطة الحجم، على نحو ما كانت تستغله أسر مصرية من تحويلات أبناءها بالخارج، وإن تأثرت بشكل كبير بعد انتشار جائحة "كورونا"، إضافة إلى الاستثمار في القطاع العقاري، وهو ما تقوم به بعض أسر اللبنانيين التي تتلقى رواتب أبنائها بالعملة الصعبة خلال العامين الماضيين.
إعاشة الأسر
4- تخفيف حدة الأزمات الإنسانية خاصة في دول الصراعات المسلحة العربية: وهو ما يرتبط بتأثير انتشار "كوفيد- 19" على تراجع إرسال تحويلات المغتربين اليمنيين في الخارج، والتي تعتمد عليها الآلاف من الأسر كمصدر رئيسي للدخل. وقد تزايد الاحتياج لهذه التحويلات بعد استيلاء المتمردين الحوثيين على الشرعية الدستورية في اليمن.
وفي هذا الإطار، قال وزير التخطيط والتعاون الدولي اليمني نجيب العوج، خلال ترأسه اجتماعاً افتراضياً بمشاركة نائب الممثل المقيم للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في اليمن ناهد حسين ورئيسة فريق التعاون الدولي الإقليمي للاتحاد الأوروبي كارولينا هيدستروم والمدير الإقليمي للشرق الأوسط لوكالة التنمية الدولية السويدية بيتر لندبيرج، في 13 أكتوبر الجاري: "إن الاقتصاد اليمني تراجع 6% نتيجة عدة أسباب أبرزها انخفاض تحويلات المغتربين اليمنيين وتدهور عائدات الضرائب والجمارك وانهيار العملة المحلية"، لافتاً النظر إلى أن "تلك الأسباب أدت إلى تفاقم الوضع الإنساني لشريحة كبيرة من السكان حيث يحتاج 24 مليون مواطن يمني لمساعدة إنسانية وأكثر من 60% يعانون من انعدام الأمن الغذائي".
عقوبات خانقة
5- احتواء تداعيات العقوبات الاقتصادية الخارجية: وينطبق ذلك على السودان، إذ تحتاج حكومة عبدالله حمدوك إلى تحويلات السودانيين بالخارج لإنعاش الوضع الداخلي المأزوم من ناحية واحتواء تأثيرات العقوبات الاقتصادية الأمريكية على مدى عقدين من ناحية أخرى، الأمر الذي أدى إلى توسع شبكات السوق الموازية التقليدية لتسهيل توصيل التحويلات المالية من خارج السودان من دون المرور بالجهاز المصرفي الذي فرضت العقوبات الاقتصادية قيوداً شديدة عليه.
تحديات مختلفة:
خلاصة القول، إن تحويلات المغتربين في الخارج للدول العربية تمثل مصدراً رئيسياً للدخل القومي، بحيث تتجاوز في كثير من الأحيان تدفقات الاستثمارات الأجنبية والمنح الخارجية والمساعدات الإنمائية، وكذلك تتجاوز عائدات النفط والغاز المصدر للخارج مثلما ينطبق على تحويلات اليمنيين بالخارج. كما أن تلك التحويلات تخفف الضغط على ميزان مدفوعات الدول المصدرة للعمالة. غير أن جائحة "كورونا" أثرت عليها بدرجة كبيرة، وإن كان ذلك يحتاج إلى دراسات أكاديمية لضبط معدلات الثبات والتغير في حجم هذه التحويلات.
يضاف إلى ذلك أن هناك إشكاليات مختلفة تتمثل في عدم وجود قواعد بيانات دقيقة بشأن الحجم الحقيقي للعمالة العربية المهاجرة بالخارج، وهو ما ينطبق على كل العمالة العربية بدون استثناء. علاوة على غياب التقديرات الدقيقة للأموال التي يتم تحويلها، في بعض الأحيان، في ظل ضعف دور المصارف الرسمية، على نحو ما برز جلياً في حالتي اليمن والسودان، وهو ما يلقي الضوء على الفجوة بين سعر العملات الأجنبية والعملة الوطنية، داخل الجهاز المصرفي وفي السوق السوداء.
فضلاً عن ضعف العلاقة بين الأجهزة الحكومية والجهة المعنية بالعاملين بالخارج في بعض الحالات، على نحو يعكس شكوكاً متبادلة، ويؤدي إلى نتائج متناقضة. كما أن تأثيرات هجرة الكفاءات العربية تبدو بالغة على الاقتصاديات الوطنية رغم العائدات المالية التي ترسلها، إذ يتم حرمانها من "العقول المبتكرة والمبدعة".