يواجه الحزب الليبرالي الكندي، بقيادة جاستن ترودو، تراجعاً حاداً في نسب تأييده الشعبي، وبالتوازي، أعلن حليفه "الحزب الديمقراطي الجديد" إنهاء هذا التحالف وسحب 4 وزراء من الحكومة، يتزامن هذا مع اقتراب الانتخابات الكندية العامة المقررة في أكتوبر 2025، والتي قد تشهد فوزاً محتملاً لحزب المعارضة الرئيسي "حزب المحافظين" مدفوعاً في ذلك بعدد من العوامل الاقتصادية والسياسية.
مُؤشرات كاشفة:
شهدت شعبية رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، تراجعاً كبيراً في الفترة الراهنة، وهو ما تجلى في عدد من المظاهر كما يلي:
1. نتائج استطلاعات الرأي: تُظهر أغلب بيانات استطلاعات الرأي الأخيرة أن شعبية ترودو في أدنى مستوياتها على الإطلاق؛ إذ كشف استطلاع أجرته مؤسسة "إبسوس" -في الفترة ما بين 6 و10 سبتمبر 2024- أن 28% فقط من الكنديين يعتقدون أن ترودو يستحق إعادة انتخابه، مع استعداد 26% فقط للتصويت لصالح الليبراليين، بينما اعتقد 44% أن أحزاب المعارضة يجب أن تهزم الحكومة.
وخلال الفترة من 29 فبراير إلى 6 مارس 2024، أجرت مؤسسة "أباكوس داتا" استطلاعاً وطنياً لـ1500 شخص لاستكشاف العديد من الموضوعات المتعلقة بالسياسة الكندية والأحداث الجارية، وهنا تقدم المحافظون في الاستطلاع بفارق 18 نقطة على الليبراليين؛ مما يعني أنه إذا أجريت انتخابات اليوم، فإن 42% من الناخبين الملتزمين سوف يصوتون للمحافظين، مقابل 24% لليبراليين، و18% للحزب الديمقراطي الجديد، و4% لحزب الخضر.
2. تراجع نفوذ الحزب الليبرالي: واجه الحزب الليبرالي سلسلة من الانتكاسات السياسية خلال عام 2024، أبرزها إعلان الحزب الديمقراطي الجديد بقيادة جاغميت سينغ، في سبتمبر 2024 إنهاء "اتفاق الدعم والثقة" الذي أبرمه مع حكومة الأقلية الليبرالية في مارس2022، والذي كان يؤمّن لها البقاء في السلطة حتى نهاية ولايتها عام 2025، وهنا أشار سينغ إلى أن الليبراليين "خذلوا الناس" ولا يستحقون فرصة أخرى مع الكنديين.
إضافة إلى ذلك، تعرضت حكومة ترودو لضربة انتخابية مدمرة بعد خسارتها لمقعدين نيابيين في دائرتين تُعدان من معاقل الحزب الليبرالي، أحدهما في تورونتو والآخر في مونتريال، في انتخابات فرعية جرت على التوالي أواخر يونيو ومنتصف سبتمبر 2024، هذا إلى جانب انسحاب أربعة وزراء في الحكومة من بينهم وزيرة الرياضة، كارلا كوالترو، ووزير الشؤون الشمالية، دان فاندال، وغيرهم، من الترشح للانتخابات العامة المقبلة.
وعلى الرغم من نجاح حكومة ترودو في اجتياز التصويت بحجب الثقة مرتين في أواخر سبتمبر وأوائل أكتوبر 2024؛ بسبب فشل حزب المحافظين في حشد دعم حزبي المعارضة الآخرين، كشفت مصادر متعددة أن ترودو يواجه ضغوطاً متزايدة إثر قيام عدد متزايد من النواب الليبراليين بتنسيق الجهود لإجباره على التنحي والاستقالة من منصب زعيم الحزب؛ لكي يترك شخصاً آخر يقود الحزب في الانتخابات العامة المقبلة، وبناءً عليه، وقّع 20 نائباً على الأقل على وثيقة لاستقالة ترودو، مع اكتفاء آخرين بالتعبير عن دعمهم للقضية.
تفسيرات مُتعددة:
جدّد الكنديون تفويضهم لترودو في عامي 2019 و2021، ولكن بعد مرور ثلاث سنوات على ذلك انقلبت تلك الفئات على ترودو الذي تراجعت شعبيته بصورة هائلة؛ نظراً لعدد من الأسباب على النحو التالي:
1. أزمة الإسكان: تُواجه سوق الإيجارات الكندية ارتفاعاً غير مسبوق، حيث زادت تكلفة امتلاك بيت في كندا بنسبة 66% منذ أن تولى ترودو السلطة في عام 2015، ويعزى هذا الارتفاع بصورة رئيسية إلى زيادة في عدد طلاب ما بعد المرحلة الثانوية الذين يوقعون عقود إيجار قبل الخريف، وإلى مستوياتٍ غير مسبوقة من النمو السكاني. فاقمها تناقص المعروض من المساكن بسب تباطؤ معدل بناء مساكن جديدة.
2. تآكل الدعم العام للهجرة: تعرضت سياسات ترودو القائمة على انفتاح كندا على المهاجرين، من خلال استقبال اللاجئين من سوريا وأوكرانيا وغيرهم، وصدور برنامج العمال الأجانب، في الآونة الأخيرة لانتقادات متزايدة؛ بسبب ارتفاع تكلفة السكن، والضغط على نظام الرعاية الصحية، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب؛ إذ ارتفعت نسبة الكنديين الذين يعارضون حجم الوافدين الجدد للعام الثاني على التوالي –تشير الإحصائيات إلى أن ما يقرب من 6 من كل 10 أشخاص يعتقدون أن كندا استقبلت مهاجرين بشكل مبالغ فيه- وفقاً لاستطلاع أجراه معهد البيئة، وهذه هي المرة الأولى منذ عام 1998 التي يتم فيها تبني هذا الرأي بأغلبية واضحة.
بالتوازي، قفزت أعداد العمال الأجانب الذين يعملون بشكل مؤقت من 109 آلاف في عام 2018 إلى ما يقرب من 240 ألفاً في عام 2023. أما أعداد المقيمين بشكل غير دائم، وبينهم عمال أجانب يعملون بشكل مؤقت وطلاب وطالبي لجوء، فقد زادت عن الضعف فارتفعت من 1.3 مليون في عام 2021 إلى أكثر من ثلاثة ملايين في الأول من يوليو الماضي وذلك بحسب مصلحة الإحصاء الكندية؛ أي أن هؤلاء أصبحوا يمثلون 7.3% من مجمل سكان كندا البالغ عددهم 41 مليوناً.
3. تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد: أفادت عدّة تقارير بأن التضخم وارتفاع أسعار الفائدة أسفرا عن تآكل القدرة الشرائية لدى الكنديين منذ عام 2022، ولاسيما في الأسر ذات الدخل المنخفض. فقد أصبح الشعب الكندي يتحمل ديوناً أكبر على الدخل مقارنة بأي دولة أخرى من مجموعة السبع. حيث ينفق الكنديون ما يبلغ متوسطه 15% من الدخل المتوفر بين أيديهم لسد الديون؛ أي بزيادة تعادل 1.5% نقطة منذ عام 2021.
إضافة إلى ذلك، تعاني كندا من بطء في نموها الإنتاجي، وهذا ما ألقى بظلاله على الأجور. أما الاستثمارات فكانت قوية في حقول النفط والغاز، أما الاستثمارات في المجال التقني والبحث والتطوير والتعليم فأصبحت أقل في كندا مقاربة بما هي عليه في أي دولة أخرى من دول مجموعة السبع الغنية.
4. تفاقم أزمات ملف المناخ: واجهت حكومة ترودو فضيحة تتعلق بـ"صندوق الفساد الأخضر" التابع لتكنولوجيا التنمية المستدامة في كندا، والذي تبلغ قيمته مليار دولار، حيث تم إلغاء البرنامج في وقت سابق من هذا العام بعد أن اكتشف المراجع العام تضارب المصالح ومنح عقود بملايين الدولارات لجهات غير مؤهلة للحصول على التمويل ولمشروعات لا تتعلق بالتكنولوجيا الخضراء.
كما تراجع دعم الكنديين لترودو أيضاً بسبب ضريبة الكربون عام 2019، لأنها فرضت رسوماً على انبعاثات الغاز الدفيئة، والتي أصبحت تعادل اليوم 50 دولاراً كندياً للطن الواحد، ومن المقرر أن ترتفع بنحو 15 دولاراً كندياً بالسنة لتصل إلى 170 دولاراً كندياً للطن الواحد في عام 2030، وهو ما أسهم في زيادة معاناة الأسر عند احتساب التكاليف غير المباشرة لهذه الضريبة التي ستؤدي –حسبما أشارت عدة تقارير- إلى حدوث "شتاء نووي"؛ أي مصاعب حياتية في توفير التدفئة وربما المواد الغذائية لدى قطاعات كبيرة من الكنديين؛ ولهذا السبب لم يعد هنالك أي تأييد لضريبة الكربون.
5. تدهور أداء الحكومة في الدفاع والسياسة الخارجية: فاقم سوء موقف ترودو ما اُعتبر تراجع نفوذ حكومته الليبرالية في الشؤون الدولية، تجلى ذلك في خسارة كندا محاولتها الحصول على مقعد غير دائم في مجلس الأمن عام 2020، حيث خسرت المنافسة أمام كل من النرويج وأيرلندا، وبفارق يقارب الـ20 صوتاً، بالإضافة إلى ذلك فقد تواترت الانتقادات لحجم الإنفاق الكندي على الدفاع، حيث إنها تنفق 1.3% فقط من الناتج القومي الإجمالي على الدفاع، بتراجع كبير عن نسبة 2% التي يجب أن تنفقها أي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي.
يضاف إلى ذلك، تدهور العلاقات الكندية مع أهم دولتين في آسيا، "الصين والهند"، ففي 14 أكتوبر، طردت كل من الهند وكندا أعلى مبعوث لكل منهما في الدولة الأخرى، في خضم الخلاف المتواصل بين الدولتين بخصوص جريمة قتل شخصية انفصالية من السيخ في مقاطعة "كولومبيا البريطانية" في كندا، خلال العام الماضي؛ وهو ما فسّره عدد كبير من الكنديين بأنه مجرد محاولة لصرف الانتباه عن التحديات التي يواجهها ترودو في الداخل، كما تراجعت العلاقات مع الصين في ضوء القرارات المتبادلة بين الطرفين والخاصة بفرض عوائق جمركية على واردات الطرفين لكل منهما للآخر، والتي بدأت بإعلان كندا سعيها لفرض جمارك ضخمة على السيارات الكهربائية الصينية.
6. الموقف من أحداث غزة: مع تزايد حدّة القصف الإسرائيلي على مُختلف مناطق قطاع غزة، اتخذ البرلمان الكندي والحكومة الكندية ثلاثة مواقف تعبر عن بداية تحول في الموقف الكندي تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث قرروا وقف جميع شحنات الأسلحة إلى إسرائيل، وقبل هذا بيوم صوت البرلمان لصالح حل الدولتين، كما أعلنوا استئناف تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
انطلاقاً من هذا، أشار البعض لاحتمالية تراجع شعبية ترودو بسبب فقدانه لدعم الناخبين اليهود الذين يشعرون بأن ترودو لم يفعل ما يكفي لجعل المجتمعات تشعر بالأمان وأسهم في معاداة السامية. كذلك، أثار موقف ترودو الداعم لـ"وقف إطلاق النار الإنساني الفوري" في غزة حفيظة الفاعلين الرئيسيين في تجمعه الحزبي، كما كشفت الحرب أيضاً عن عدم وجود صوت عربي أو إسلامي قوي حول طاولة حكومته؛ مما أدى إلى تفاقم خطوط الصدع الناشئة في حزبه المحاصر.
مُستقبل ترودو:
على الرغم من أن ترودو لم يشر إلى أنه يفكر في مغادرة منصبه أو الاستقالة؛ فإن التكهنات زادت بشكل كبير في الدوائر السياسية الكندية حول مستقبله في الحكم، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
1. تراجع فرص ترودو الانتخابية: أشارت بعض المصادر إلى أن انسحاب الحزب الوطني الديمقراطي من اتفاقه مع الحزب الليبرالي -بحجة أن الليبراليين ضعفاء، ويفقدون ثقة الجمهور- سيزيد من مصداقية ادعاءات حزب المحافظين بقيادة بيير بوليفير، التي تقول منذ فترة طويلة إن البلاد بحاجة إلى تغيير في الحكومة؛ وهو ما سيُعزّز فرصهم للفوز بالانتخابات المقبلة ويقلل فرص حكومة ترودو في الوقت ذاته.
2. استمرار ترودو في الحكم: تؤكد بعض التقديرات أن جاستن ترودو قد يظل رئيساً لوزراء كندا حتى العام المقبل؛ لأن إنهاء "اتفاق الدعم والثقة" من قبل الحزب الوطني الديمقراطي لا يعني أن الحكومة الليبرالية سوف تسقط، فمازال الليبراليون والحزب الوطني الديمقراطي يتقاسمون أولويات مُشتركة كما هو الحال في السياسة الاجتماعية، وقد يواصل الجانبان التعاون والتصويت معاً على هذه القضايا في الأشهر المقبلة لتمرير مشروعات القوانين في البرلمان، ناهيك عن أن الحزب الوطني الديمقراطي ليس لديه اهتمام كبير بإسقاط الليبراليين قريباً؛ لأن سينغ سيحتاج إلى وقت طويل لتكوين هوية منفصلة عن هوية ترودو بعد دعمه لفترة طويلة. كذلك، يمكن لليبراليين أيضاً تمرير تشريعات بدعم من حزب الكتلة الكيبيكية -ثالث أكبر حزب في مجلس النواب- في المسائل التي قد لا يتفقون فيها مع الديمقراطيين الجدد.
أخيراً، تقضي القواعد البرلمانية بأن يكون لدى أحزاب المعارضة الثلاثة إجمالي سبع فرص خلال الفترة من 16 سبتمبر إلى 10 ديسمبر لتقديم أي اقتراحات ترغب فيها، ومن المرجح أن يحظى حزب المحافظين، وهو أكبر حزب معارض، بثلاث من هذه الفرص لإسقاط ترودو، لكن توقيت اقتراحات المعارضة هو في أيدي زعيمة مجلس النواب الليبرالي كارينا غولد، التي يمكنها عرقلة الأمر كله. ناهيك عن أن هزيمة الليبراليين في مثل هذا الاقتراح ستعني إجراء انتخابات شتوية؛ وهو أمر لا يحظى بشعبية لدى الناخبين، وقد يكون من الصعب التنبؤ بالنتائج؛ مما سيعطي الحزب الوطني الديمقراطي فرصة لإيقاف أي مسعى لإسقاط الحكومة.
وفي التقدير، يمكن القول إنه من غير المتوقع إجراء الانتخابات الكندية قبل أكتوبر 2025؛ ومع ذلك، قد يتغير هذا إذا انقلب النواب على الليبراليين، أو إذا ذهب ترودو نفسه إلى الحاكم العام ليطلب إجراء انتخابات مُبكرة. ورغم توقع الكثير من المراقبين أن تشهد البلاد وصول حزب المحافظين المعارض للسلطة بقيادة بيير بوليفير؛ فإن التحالفات والصفقات السياسية ستمثل عاملاً رئيسياً في تحديد الفائز القادم.