أخبار المركز
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)
  • محمود قاسم يكتب: (الاستدارة السريعة: ملامح المشهد القادم من التحولات السياسية الدرامية في كوريا الجنوبية)
  • السيد صدقي عابدين يكتب: (الصدامات المقبلة: مستقبل العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في كوريا الجنوبية)
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)

الحرب التالية:

هل يمكن أن تنشب حرب عالمية مرة أخرى؟

30 أغسطس، 2014


** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الأول، أغسطس 2014.

"لماذا يبدو الكل متلهفاً على استخدام القوة العسكرية؟" هكذا عبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما في سؤال استنكاري، في معرض رحلته الآسيوية في أبريل 2014، التي هدفت لتنشيط ودعم تحالفات الولايات المتحدة في هذه المنطقة من أجل مواجهة الصعود الصيني، لكن الأسئلة عن الأزمات الدولية المتعددة ومدى استعداد الولايات المتحدة لاستخدام القوة العسكرية لحلها أو منعها من التفاقم لم تفارقه، وبدا وكأن العالم يسأل سؤالاً واحداً، عبرت عنه مجلة "الإكونوميست" وهو: ما القضية التي يمكن أن تحارب الولايات المتحدة من أجلها؟

بات سؤال الحرب مطروحاً بقوة على الساحة الدولية، في ظل التغير الذي يشهده النظام الدولي في موازين القوى، وحالة عدم الرضا من جانب عدد من القوى الصاعدة التي تحاول إنشاء ترتيبات جديدة تحقق أمنها ومصالحها بشكل أفضل. ولأن الحرب هي الوسيلة الأكثر فعالية في إعادة ترسيم الحدود والموازين الدولية، فإن اندلاع الحروب ــ إقليمية أو عالمية ــ يبدو مطروحاً في الفترة المقبلة.

من ناحية أخرى، يشهد هذا العام الذكرى المائة لاندلاع الحرب العالمية الأولى، والخامسة والسبعين لبداية الحرب العالمية الثانية، والخامسة والعشرين لنهاية الحرب الباردة، ومثلت هذه المصادفة التاريخية فرصة لعرض الرؤى السياسية والفكرية عن الواقع الحالي في إطار خطاب يستدعي الرموز والمقارنات التاريخية.

أولاً: التشابه بين الماضي والحاضر

أفرزت المخاوف المرتبطة بتحولات القوة في النظام الدولي حالة من عدم اليقين بشأن تطورات الأزمات المتعددة التي يشهدها العالم هذا العام، ما استدعى المقارنة مع الأزمات المتعددة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914، والتي عجزت القيادات السياسية والعسكرية وقتها عن تحديد ما إذا كانت ستتصاعد أم لا؟ وكان من بينها الحرب اليابانية الصينية 1894– 1895، وغزو السودان في 1898، والحرب الأمريكية- الإسبانية في عام 1898، وغيرها.

في أوائل القرن الماضي، تجاهلت القيادات السياسية والعسكرية في دول عديدة نُذُر الصدام الوشيك، بسبب شيوع فكرة أن الاقتصاد العالمي بلغ درجة من التعقيد والاعتماد المتبادل لا تجعل المواجهات العسكرية في صالح أي من الأطراف بسبب آثارها المدمرة على الاقتصاد، وهو ما يشبه إلى حد كبير مع فارق التطور التكنولوجي، مرحلة العولمة الاقتصادية الحالية.

كانت بريطانيا تلعب دوراً محورياً في توفير البنية التحتية التجارية، كما تلعب الولايات المتحدة الآن الدور نفسه فيما يتعلق بالبنية التحتية المعلوماتية، وكان لبريطانيا – كما للولايات المتحدة الآن مع الصين – علاقات اقتصادية وتجارية قوية مع منافستها الصاعدة ألمانيا، عززت من الرؤية السائدة بأن اندلاع الحرب بين القوتين مستبعد لقوة الروابط الاقتصادية. يزيد من درجة التشابه بين هاتين الفترتين التاريخيتين، أن كلاً منهما شهد فترة ممتدة من الرخاء الاقتصادي قطعتها أزمة مالية عالمية (1907/ 2007– 2008) أثارت تداعياتها تخوف القوى الصاعدة من أن النظم المالية والاقتصادية ومؤسساتها الدولية تعمل في صالح القوى "القديمة" وليس في صالحها، ما دفعها إلى محاولة إنشاء أوضاع جديدة أكثر ملاءمة لحماية هذه المصالح.

في الحالتين كانت هناك قوة عظمى تتمتع بالهيمنة السياسية على النظام الدولي، تواجهها قوة صاعدة تنافسها وتتمتع بديناميكية أكبر على المستوى الاقتصادي، وفي الحالتين أيضاً كانت لدى القوة المهيمنة القناعة بأن مؤسساتها وأيديولوجيتها السياسية تتمتع بشرعية أكبر من التي يعتمدها منافسوها، لهذا سعت بريطانيا للحفاظ على مركزها المهيمن، وحماية مصالحها من منافسة ألمانيا، كما تسعى الولايات المتحدة الآن للدفاع عن قواعد النظام الدولي ضد القوى الصاعدة التي تريد تغيير تلك القواعد.

كانت أزمات السنوات الأخيرة في القرن التاسع عشر، والأولى من القرن العشرين؛ مؤشراً على تحوّل الرؤية الاستراتيجية في أوروبا من رؤية سادت بعد عام 1815 تقوم على التعاون لحفظ السلم إلى رؤية جديدة أسست لمرحلة من التنافس الإمبريالي مع بداية القرن العشرين. واتسمت المرحلة الجديدة بتصاعد الإنفاق العسكري، ودخول القوى الدولية في سباق تسلح كانت فيه موازين القوة العسكرية غير مستقرة وتتغير باستمرار. يبدو ذلك أيضاً سمة من سمات النظام الدولي الحالي، ففي عام 2013، تجاوز الإنفاق العسكري في آسيا لأول مرة الإنفاق الأوروبي، وبالرغم من أن الولايات المتحدة لاتزال تتمتع بتفوق عسكري ساحق، فإن التطورات التكنولوجية، والاستراتيجيات الدفاعية التي تطورها الصين على سبيل المثال، تُقلل من فاعلية هذا التفوق إلى حد ما.

قُبَيل الحرب العالمية الأولى، أوجد التنافس العسكري وتحولات القوة حالة من الغموض جعلت بعض الأطراف ترى أنه من الأفضل أن تبادر بالهجوم العسكري قبل أن تقوى شوكة العدو بدرجة لا يمكنها التعامل معها، وهو ما قد يُصبح واقعاً في منطقة متوترة مثل شرق آسيا. في النهاية، تفجرت الحرب العالمية الأولى إثر حادث اغتيال ولي عهد النمسا والذي جر كل القوى الدولية إلى ساحة حرب طاحنة، فهل هناك بوادر لأن تحدث مثل هذه التفاعلات مرة أخرى في القرن الحادي والعشرين؟

ثانياً: رؤى نقدية

يختلف المحللون على مغزى هذه التشابهات فيما يتعلق بتطورات النظام الدولي، فعلى سبيل المثال، يذهب الأكاديمي الأمريكي الشهير (جوزيف ناي) إلى أن هناك فروقاً ذات أهمية بين الوضع الدولي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى والوقت الحالي، منها تطور الأسلحة النووية التي تجعل آثار الحرب المدمرة واضحة لكل صنّاع القرار، بينما لم يكن للقادة السياسيين والعسكريين أيام الحرب العالمية الأولى قدرة على تصور الآثار المدمرة الرهيبة التي تخلفها حرب عالمية في العصر الحديث.

من ناحية أخرى، فإن "أيديولوجية الحرب" صارت أضعف بكثير اليوم، كما أن الولايات المتحدة لديها ـ بسبب فارق القوة الذي لايزال كبيراً ـ سعة أكبر من الوقت للتعامل مع المشاكل التي تثيرها القوى الصاعدة، على عكس وضع بريطانيا في القرن الماضي. ويكمن خطر هذه المقارنات التاريخية – من وجهة نظر ناي – في أنها توجه التفكير في تطورات النظام العالمي داخل إطار فكري يُنذر بـ حتمية "بحتمية الحرب"، وهذه الطريقة في التفكير قد تكون في حد ذاتها سبباً في انزلاق العالم نحو الحرب بالفعل.

أما جاكوب هيلبرون، رئيس تحرير دورية "ذا ناشيونال إنترست"، فينظر إلى الاختلافات من زاوية طريقة التفكير السائدة لدى القوى العظمى. فلم يكن لدى القادة البريطانيين مثلاً إدراك واضح لتداعيات تحول موازين القوى على استمرار هيمنة الإمبراطورية، والخطر الذي يمثله اندلاع الحرب عليها. ليست لدى القوى الكبرى الآن مثل هذه الأوهام؛ فالدول الأوروبية قد توافق على فرض عقوبات اقتصادية ضد روسيا، لكنها ليست على استعداد للانخراط في مواجهة عسكرية معها، وروسيا ليست بأي حال في قوة الاتحاد السوفييتي، وليست لديها القدرة على شن الهجمات التوسعية التي يتخوف منها البعض.

ربما تكون المقارنة التاريخية الأهم التي يجب على الجميع أخذها في الاعتبار، بحسب هيلبرون، هي التداعيات المدمرة لمعاهدة فرساي، التي خلقت شعوراً قومياً بالمهانة في ألمانيا يشابه الشعور الذي خلفه انهيار الاتحاد السوفييتي في روسيا، كما أن الصين أيضاً لديها إحساس بالمهانة القومية نتيجة هزيمتها أمام اليابان، لايزال حاضراً بقوة في خطابها السياسي.

ويذهب هيلبرون إلى أن إحساس الدول الصاعدة بالمظلومية التاريخية لا يجب الاستهانة بتداعياته على التفاعلات الدولية، حيث إن السياسات الغربية تساهم في دعم هذا الخطاب الذي يضع الغرب في موضع العدو. ومن هذه السياسات السعي الغربي الحثيث لمد وجود حلف الناتو إلى حدود روسيا، وشن الحرب على العراق، والتدخل في ليبيا، وكلها أمور سمحت للصين وروسيا بتصوير الولايات المتحدة على أنها قوة انتهازية تخدم مصالحها، وتستخدم نشر الديمقراطية كسلاح للإطاحة بالنظم التي لا تروق لها، ما ساعد على تقويض مصداقية قواعد النظام الدولي.

ثالثاً: استدعاء التاريخ في التفاعلات الإقليمية

كان شينزو آبي، رئيس الوزراء الياباني، هو البادئ باستدعاء المقارنة مع مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى على الساحة الآسيوية، حيث أشار في خطابه أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس هذا العام إلى أنه «على الصين أن تتعلم من دروس التاريخ المتعلقة بتطور التنافس بين بريطانيا وألمانيا قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى». أراد آبي بذلك أن يكرس صورة اليابان بوصفها قوة ديمقراطية راسخة مثل بريطانيا تواجه قوة ديكتاتورية صاعدة تمثل خطراً على السلم العالمي، وهي الصين.

لم تكن المقاربة موفقة، فإضافة طبعاً إلى الاحتجاجات الصينية المتوقعة، أثارت نقاشاً واسعاً حول من هي الدولة الساعية لإثارة المشاكل، الصين أم اليابان، بتصاعد المد «القومي» المتطرف فيها، وموقفها من الصراعات الإقليمية السابقة؟ فعلى عكس ألمانيا، فإن اليابان لم تتقبل بشكل يرضي جيرانها مسؤوليتها عما سببته من دمار ومعاناة للدول التي وقعت تحت احتلالها، وهي تسعى الآن للعودة إلى ما تسميه «وضع الدولة الطبيعية»، فيما يتعلق بتطوير واستخدام قدراتها العسكرية.

ويبدو خطاب القيادات السياسية الحالية في اليابان وكأنه يتجاهل دروس التاريخ، ويثير مخاوف الدول المجاورة مثل الصين وكوريا الجنوبية من عودة الممارسات اليابانية التوسعية. على سبيل المثال، زار شينزو آبي في يناير 2014، النصب المشهور للقيادات العسكرية اليابانية، والذي يضم رفات عدد من القادة الذين تم توصيفهم كمجرمي حرب. استدعت هذه الزيارة اعتراضات شديدة اللهجة من دول الجوار، ونقداً علنياً شديداً نادر الحدوث من حليفة اليابان الوثيقة، الولايات المتحدة. كما أن رئيس الوزراء تم تصويره في شهر أبريل 2014 في طيارة حربية يابانية تحمل أرقام 731 على الذيل، وهو رقم وحدة عسكرية في الجيش الإمبراطوري الياباني كانت مسؤولة عن ممارسات «بغيضة» ضد سجناء من الصين ودول آسيوية بل وأوروبية أيضاً.

وتأتي في نفس الإطار تصريحات آبي والعديد من مسؤولي إدارته، التي تشكك في مسؤولية الدولة اليابانية عن الانتهاكات المتعلقة باستغلال نساء من الدول التي وقعت تحت الاحتلال الياباني بشكل واسع «للترفيه» عن الجنود اليابانيين، والمعروفة بقضية «نساء المتعة»، والتي تظل قضية شديدة الحساسية بالنسبة لكل من الصين وكوريا الجنوبية. وتثير مساندة آبي للمسؤولين المتورطين في هذه التصريحات المخاوف من أن هذا الموقف لا يعبر فقط عن توجهات الحزب، بل أيضاً عن توجهات قطاعات في المجتمع الياباني، والتي تبدو عاجزة عن إدراك الحساسية التي تمثلها هذه القضية وغيرها بالنسبة للدول المجاورة، وتداعيات هذا الخطاب على الاستقرار الإقليمي.

حتى الآن، لاتزال ردود أفعال الصين والكورية الجنوبية على هذه التصرفات، ردوداً سياسية، منها استجابة الصين هذا العام لمبادرة كورية جنوبية لتشييد نصب في مدينة هانكين في شمال شرق الصين لأحد الرموز الوطنية الكورية الذي اغتال أول رئيس وزراء لليابان في عام 1909، تعتبره كلٌّ من الدولتين كوريا الجنوبية والصين رمزًا للتحرر الوطني؛ بينما صرحت اليابان بأنها تأسف لتكريم شخصية «إرهابية». كما نجح الرئيس الصيني في إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء حضوره فاعليات الأولمبياد الشتوية في سوتشي، بعقد احتفال مشترك بين البلدين في الصين العام المقبل في الذكرى السبعين للانتصار على «الفاشية»، أي النظام الإمبراطوري الياباني، في الحرب العالمية الثانية. وبالإضافة إلى تذكير العالم بالممارسات اليابانية أثناء الحرب العالمية، يهدف ذلك إلى تقويض محاولات رئيس وزراء اليابان الحثيثة لتقوية علاقاته مع بوتين.

على الساحة الأوروبية أيضاً عاد التاريخ وسجالاته إلى السطح بوضوح مرة أخرى، وكانت أزمة منطقة اليورو هي العامل الأكثر وضوحاً في إثارة الضغائن التاريخية، حيث تَزَامَنَ مع سياسات التقشف الشديدة التي تبنتها العديد من دول الطرف الأوروبية، مثل إيطاليا والبرتغال واليونان، تصاعد مد الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة، ومنها من له توجهات فاشية واضحة. كما كان الموقف الألماني المتشدد من أزمة الديون اليونانية بالذات سبباً في عودة الاتهامات بالنازية والعنجهية، وظهرت صور لأنجلا ميركل تُشبِّهها بهتلر.

وأدت الخلافات بين الدول الأوروبية، والصعود الواضح للقوة الألمانية بعد الأزمة، إلى ظهور تحذيرات من مسؤولي دول عانت كثيرًا من ويلات الحروب الأوروبية، مثل بولندا، من خطر الانشقاقات على تماسك المشروع الأوروبي وقدرته على الاستمرار، وكان من ضمن هذه التحذيرات، ما أشار إليه السياسي المخضرم من لوكسمبرج، جون كلود جونكر، في أواخر عام 2013 من تشابه التوتر الذي ساد العلاقات الأوروبية في ذلك العام مع الوضع المتأزم السائد في عام 1913.

وبالرغم من أن ألمانيا تعد أكثر الدول الأوروبية حساسية فيما يتعلق بالتمسك بالخيارات الدبلوماسية، ونبذ الحرب كوسيلة لتسوية النزاعات، فقد نشرت مجلة «ديرشبيجل» الألمانية (عدد 28 أبريل 2014) مقالاً تحت عنوان «الحرب في أوروبــا؟»، دفع بأنه بعد عشرين عاماً من السلام كانت فيها فكرة اندلاع حرب في أوروبا لا يمكن تخيلها، جاءت الأزمة الأوكرانية لتجعل اندلاع الحرب احتمالا مطروحاً مرة أخرى. وأورد المقال أن الزعيمة الألمانية ميركل التي نشأت وعاشت سنوات طويلة تحت الحكم الموالي للاتحاد السوفييتي في ألمانيا الشرقية، بدأت تدرك بوضوح مساوئ الحكم التسلطي الذي أصبح بوتين عنوانًا له، وأنها بدأت في اتخاذ موقف أكثر تشددًا من روسيا.

من ناحية أخرى، هاجم مسؤولو دول مثل بولندا وأيسلندا بشدة ووضوح عمليةَ ضم منطقة القرم إلى روسيا، محذرين من نواياها التوسعية. وربما كان بوتين نفسه أكثر زعماء القارة استدعاء للتاريخ، بمقولته المشهورة إن انهيار الاتحاد السوفييتي يعد أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين. كما أنه يستخدم على الصعيد الداخلي خطاباً قومياً يدعو لإعادة الأمجاد التاريخية لروسيا، ودورها المتميز على الساحة الدولية، ويتهم الغرب، خاصة الولايات المتحدة، بمعاداة روسيا، والعمل على إضعافها.

خاتمة

معضلة الدول الصاعدة أنها تريد الاستفادة من البنية التحتية الاقتصادية والتجارية والمعلوماتية التي أسستها وتسيطر عليها بشكل أو بآخر "القوة المهيمنة"، لكنها باستمرار تتساءل عما إذا كانت قواعد اللعبة السائدة تضعف قوتها وقدرتها على الصعود. وتلجأ هذه القوى الصاعدة إلى تكوين نطاق إقليمي يمكنها من أن تفرض "قواعد" تعمل لصالحها، وتوفر لها قدراً من الحماية ضد محاولات "القوة المهيمنة" لإضعافها، أو تقييد حركتها.

هذا ما حاولت روسيا أن تشكله من خلال مشروع الوحدة الأوراسية، وهو أيضاً الذي تهدف إليه من ضم شبه جزيرة القرم، وتعمل الصين على تشكيل النطاق الآمن من خلال علاقاتها التجارية القوية في آسيا من ناحية، ومن خلال بسط سيطرتها على مجموعات الجزر الصغيرة المحيطة بها في بحري الصين الشرقي والجنوبي، ما يعطيها قدرة أكبر على حماية خطوط النقل البحري التي تعتمد عليها لنقل صادراتها ووارداتها من الطاقة، لكن الدول الصاعدة تصطدم في محاولاتها هذه بقوى إقليمية أخرى لها مصالح مختلفة، ما قد يتسبب في صراعات إقليمية.

وينطبق ذلك على معارضة اليابان للتمدد الصيني، ومعارضة الدول الأوروبية للتمدد الروسي، ونتيجة لتحالفات الولايات المتحدة الأمنية في كل من أوروبا وآسيا، فقد يتم الزج بها في هذه النزاعات لتتصاعد إلى حرب عالمية، ما يعيد إلى الأذهان الأزمة المركبة التي تفاقمت قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، التي وصفها مؤرخ مشهور بأنها "الأكثر تعقيداً في التاريخ".

وبالعودة إلى زيارات أوباما الخارجية في الفترة الأخيرة، نجدها تأتي في إطار محاولات "القوة المهيمنة" لتفعيل شبكة تحالفاتها في الحفاظ على مكانتها الدولية التي تبدو مهتزة بشكل كبير. وبدا أوباما في موقف لا يحسد عليه وهو يحاول الدفاع عن سياسته الخارجية التي تعتمد على الخيار الدبلوماسي، في محاولة لإدارة مرحلة معقدة من العلاقات الدولية بطريقة تجنب الولايات المتحدة الدخول في حروب تسرع في تقويض ما بقي لها من قوة ونفوذ تحت اسم الحفاظ على أسس النظام الدولي أو مكانتها ومصداقيتها؛ وهو سوء التقدير الذي وقعت فيه قوى عظمى سابقة، مثل تورط بريطانيا في حرب السويس عام 1956.

يقع أوباما بين المطرقة والسندان فيما يتعلق بإدارة الأزمات، حيث يتهمه معارضوه في الداخل الأمريكي، وكثير من حلفائه في مختلف مناطق التوتر حول العالم، بإهدار الدور القيادي الأمريكي، وتعريض أسس النظام الدولي وأمنهم الذي تعهدت الولايات المتحدة بالدفاع عنه، للخطر بسبب رفضه استخدام القوة العسكرية لصد محاولات "تغيير قواعد اللعبة"، لكن هناك من جانب آخر استطلاعات الرأي داخل الولايات المتحدة التي تشير بوضوح إلى عدم تقبل الشعب الأمريكي أي "مغامرات عسكرية" أو إنفاق موارد أمريكية على التزامات خارجية، حيث تبلغ نسبة المعارضين لأي تورط خارجي أكثر من خمسين بالمائة، وهي النسبة الأعلى في نحو خمسة عقود جرى فيها استطلاع للرأي بشأن هذا الموضوع.

الخطاب التاريخي العائد بقوة إلى الساحة الأوروبية، يعطي إشارات توحي بتوجهات مختلفة عن تلك التي سادت القارة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي آسيا، يؤشر الخطاب إلى أن الخلافات التاريخية العميقة لاتزال تلقي بظلال كثيفة على التفاعلات الدولية. ولذلك، تمثل عودة المساجلات التاريخية التي تتسم بالعدائية بعداً يزيد من تعقيد الحالة الدولية الراهنة، ويكمن الخطر في أن ذلك قد يلعب دوراً في تغيير تقييم الدول المتنافسة للموقف الاستراتيجي، بحيث "تنزلق" بشكل ما إلى المواجهة العسكرية، كما كانت الحال مع الدول المتحاربة في عام 1914، التي وصلت في النهاية إلى قناعة بأن الحرب هي الخيار الحتمي.

لكن على الرغم من ذلك، فإن كثيرين وإن بدوا – حسب صيغة معدلة لتعبير الرئيس الأمريكي أوباما– متلهفين على استخدام القوة العسكرية، فإنهم سوف يتوقفون على الأرجح على عتبة استخدامها، حيث لا يحتمل أحد في القرن الجاري تكلفة حرب عالمية أخرى، سواء كان منتصراً أو خاسراً، لذا قد لا تقع الحرب رغم الوصول إلى أعتابها.