كشف تقرير استخباري أمريكي سيحال إلى الكونجرس عن حراك إيراني- روسي لاختراق مناطق شرق سوريا بهدف إضعاف الوجود الأمريكي وحلفاء واشنطن، لاسيما ميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، بالإضافة إلى دعم هجمات مسلحة ضدها هناك، واعتبر التقرير أن كلاً من إيران وروسيا و"حزب الله" اللبناني، يحاولون تأمين وجودهم العسكري والاقتصادي الدائم بالمنطقة، وأن إيران انخرطت في منافسة مع روسيا الساعية لتأمين فرص اقتصادية ونفوذ طويل الأمد في سوريا، مشيراً إلى وجود مظاهر دالة على تعزيزات عسكرية إيرانية في قاعدة حلب السورية لمحاصرة "قسد".
وفى الأسبوع الأخير من مايو الماضي، تعرّض رتل أمريكي يصاحبه عناصر من "قسد" لهجوم على الحدود الإدارية بين محافظتى الحسكة ودير الزور شمال شرقى سوريا. وأشارت وكالة الأنباء الرسمية السورية "سانا"- التي كشفت عن تفاصيل العملية- إلى أن الهجوم نفذه مجهولون، باستخدام رشاشات وقذائف "آر بي جي". وقبله بنحو 10 أيام تقريباً، تعرضت ميليشيا "قسد" في مطار الطبقة العسكري غربى الفرات لهجوم من تنظيم "داعش" الإرهابي بأسلحة كاتمة للصوت ما أدى إلى مقتل عنصرين من حراسة المطار، بالتزامن مع هجوم آخر لمجهولين بقذيفة "آر بي جي" على مقر قيادة "قسد" في مدينة البصيرة بريف دير الزور الشرقي، ما أدى لأضرار مادية دون معلومات عن خسائر بشرية.
وإجمالاً، تكشف هذه الهجمات عن مستوى التحديات الأمنية التي تواجهها القوات خارج مناطق نفوذ النظام السوري وحلفائه، حيث يسيطر النظام على نحو 63% من مساحة البلاد، فيما تسيطر ميليشيا "قسد" على 26% بحسب تقارير خرائط الانتشار، لكنها تتقاطع في مناطق الشمال باتجاه الغرب مع قوات المعارضة السورية التي تسيطر على ما يقارب من 11% من تلك المناطق.
التحركات الإيرانية:
خلال الفترة الأخيرة، كشفت التحركات الإيرانية عند الحدود المشتركة العراقية- السورية عن مساعي طهران لزيادة مساحة التمدد في عمق تلك الحدود باتجاه الشمال في قطاع شرق سوريا لتأمين عبور الأسلحة والميليشيات عبر معبر البوكمال باتجاه غرب البلاد، وتعرضت قوافل التحركات الإيرانية إلى اعتراض من ميليشيا "قسد"، كما تعرضت لضربة أمريكية في 26 فبراير الماضي. وقامت طهران، في 22 مايو الماضي، بافتتاح قنصلية جديدة لها في حلب، يعتقد على نطاق واسع أنها تهدف إلى بناء شبكات اختراق تجاه مناطق سيطرة قوات المعارضة السورية و"قسد"، حيث لم تتمكن من التمدد لما هو أكثر من تلك المساحة، فيما تسعى قوات النظام إلى منع أية إمدادات من الوصول إلى مناطق "قسد" بهدف محاصرتها، بينما تعتمد قوات المعارضة في المقابل على الإمدادات التركية.
موقف القبائل:
وبينما تشتكي القوات العربية في شرق الفرات من تنامي النفوذ الكردي، فإن هناك سباقاً بين كل من تركيا وروسيا وايران على استمالة تلك القبائل. لكن على الجانب الآخر، يبدو أن خريطة علاقات القبائل مع الأطراف المتعددة في تلك الساحات ليست واحدة، فهناك تباين في علاقات القبائل التي تنتشر في منطقة الجزيرة وحوض الفرات بنسبة كبيرة ويبلغ تعدادها السكاني نحو 4 ملايين نسمة، ويمثلون أكثر من 85% من السكان في تلك المناطق. كما أن تحالفات القبائل مرنة وليست مستدامة بحسب التطورات الميدانية، بالإضافة إلى أن هناك انقساماً في المواقف داخل القبائل الكبيرة منها. لكن ميول بعض القبائل تعكس تقارباً، إلى حد ما، مع النظام السوري على خلفية وحدة موقفهما من الأكراد، إلى جانب وجود علاقات مع تركيا، التي تدعو زعامات القبائل إلى مؤتمرات من آن لآخر، فضلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن علاقة القبائل مع إيران تبدو ضعيفة إن كانت موجودة بالأساس.
ومن المتصور أن المصالح هى أحد الدوافع التي تُبنى عليها التحالفات. فعلى سبيل المثال، يشير مراقبون سوريون إلى أن النظام يسعى إلى استثمار موقف القبائل والعشائر في الحسكة مثل عشيرة البوعاصي، أو في دير الزور كعشائر العكيدات والبكارة، بعد تشكيلها لجناح عسكري مناوئ لـ"قسد " والوجود الأمريكي، لاسيما بعد الاتفاق بين الأكراد وواشنطن على بيع النفط كأحد روافد الاقتصاد الكردي، على نحو أثار حفيظة القبائل العربية التي يستخرج النفط من مناطقها. كما انخرطت تركيا في الجدل الذي ثار حول هذا الملف، حيث انتقدت إبرام تعاقد بين شركة "دلتا كيرسينت إينريجي" الأمريكية والأكراد معتبرة أنه يشكل خطوة لتعزيز الانفصال في سوريا، مشيرة إلى أن ذلك الإجراء يأتي على حساب موارد الشعب السوري. وعلى الرغم من تأكيد التقارير المحلية وصدور العديد من البيانات بشأنها، إلا أن الإدارة الأمريكية نفت الأمر هذا الأسبوع. وكان السينارتور الأمريكي ليندسي غراهام قد أعلن، في 30 يوليو 2020، عن توقيع اتفاق بين "قسد" وشركة نفط أمريكية لتحديث الآبار التي تضررت نتيجة الحرب على "داعش".
سباق روسي- أمريكي:
بطبيعة الحال، ينعكس السباق على اختراق تلك المناطق بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ففي أوقات عديدة وقعت احتكاكات ما بين القوات العسكرية على الجانبين، بل إن روسيا وجهت انتقادات قوية لقيام الولايات المتحدة الأمريكية بتطوير قواعد عسكرية في الشمال السوري، بالإضافة إلى أن عملية الانسحاب الأمريكي التي كان قد أعلن عنها الرئيس السابق دونالد ترامب، في ديسمبر 2018، تحولت عملياً ووفق المؤشرات الميدانية إلى عملية إعادة انتشار. وخلال العام الجاري، استحدثت القوات الأمريكية قاعدتين جديدتين إحداهما في منطقة المالكية شمال شرق الحسكة في يناير 2021، والأخرى في منطقة تل علو في اليعربية بريف الحسكة الشرقي في فبراير من العام نفسه. سبق ذلك بشهور تأسيس روسيا لقاعدة عسكرية جديدة للمروحيات الهليوكوبتر في منطقة القامشلي شمال شرق سوريا، بالإضافة إلى تعزيز قواعدها الرئيسية في حميميم بإضافة مدارج جديدة لهبوط الطائرات العسكرية، لاسيما طائرات النقل.
وخلال قمة الناتو التي عقدت الأسبوع الجاري، كانت هناك إشارات أمريكية صدرت عن الرئيس جو بايدن بأن هناك توجهاً لتعاون مشترك في سوريا، وربما كان الهدف من ذلك توجيه رسائل استباقية من واشنطن لموسكو قبيل قمة جنيف التي تجمع بايدن مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في 16 يونيو الجاري.
في المحصلة الأخيرة، يمكن القول إن معادلة الاشتباك بين القوى الخارجية على الساحة السورية تشهد تسارعاً في السباق على خريطة الانتشار، وهى خريطة متغيرة وشديدة التعقيد، في ظل طبيعة العلاقات الحاكمة لها، والأهداف السياسية التي تسعى لها الأطراف المختلفة، لكنها تظل كاشفة على أن تلك العلاقات لن تشهد تغيراً باتجاه تعاون الأطراف بقدر ما تشهد عمليات اختراق وتمدد للقفز بين المناطق المختلفة بعد أن وصلت الأطراف إلى مداها على خريطة الانتشار العسكري، وأصبح العامل الحاكم في هذه المعادلات هو المصالح التي يسعى كل طرف إلى حصدها في ظل تراجع حدة الصراع في سوريا، وتصاعد التنافس على هندسة مرحلة ما بعد الصراع وفق طبيعة تلك المصالح.