أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

أدوات متعددة:

لماذا تصاعد توظيف الميليشيات للقوة الناعمة في الإقليم؟

15 فبراير، 2022


تُعرف القوة الناعمة بأنها قدرة "الفواعل" على التأثير على سلوك أو خيارات الآخرين للحصول على النتائج المرغوبة من خلال استخدام ما يُعرف بـ "الأصول الجاذبة". وعلى عكس القوة الصلبة التي تشير إلى القدرة على "القسر" و"الإجبار" لتحقيق الأهداف المرجوة، فالقوة الناعمة تُحدث آثارها من خلال النفوذ والإقناع دون الحاجة إلى استخدام التهديد أو حتى الحوافز. وفيما تطور مفهوم القوة الناعمة بالإشارة إلى الدولة باعتبارها الكيان الرئيسي المتمتع بأبعاد القوة المختلفة، يبدو أننا في مرحلة قد ينسحب فيها استخدام القوة الناعمة للفواعل من دون الدول ومن ضمنها الميليشيات المسلحة العاملة في مناطق الصراعات، لاسيما في الشرق الأوسط. 

ويكتنف استخدام الميليشيات لأدوات القوة الناعمة، إشكالية أساسية نابعة من طبيعة هذه الميليشيات وظروف نشأتها، فهي ظهرت في العديد من مناطق الصراعات باعتبارها من ضمن أشكال الاستجابة لانهيار بعض الدول وتراجع دورها وعجزها عن القيام بوظيفتها الأساسية المتمثلة في توفير الأمن لمواطنيها. وبينما كان الاضطلاع بمهام قتالية وعمليات عسكرية هي الوظيفة الأساسية للميليشيات في مناطق الصراعات، بدأت هذه الميليشيات في القيام بوظائف جديدة ثقافية واجتماعية وخدمية، الأمر الذي طرح العديد من التساؤلات حول الأسباب المُفسرة لهذا التحول، والمكاسب التي تجنيها الميليشيات من وراء لعبها هذه الأدوار، فضلاً عن المخاطر المترتبة على توظيف أدوات القوة الناعمة في علاقات الميليشيات بالدولة من جانب وبقواعدها الشعبية ومؤيديها من جانب آخر. 

القوة الناعمة للميليشيات: 

تجدر الإشارة إلى أن توظيف القوة الناعمة من قِبل الميليشيات، وإن اكتسب زخماً جديداً في الفترة الأخيرة، لا يمكن اعتباره مسألة جديدة بأي حال من الأحوال. فقد اعتبرت الميليشيات العراقية نفسها، ومنذ بداياتها الأولى، "حركات ثقافية اجتماعية" ذات أذرع تعنى بالرعاية الاجتماعية، وأذرع عسكرية تعمل بصورة مستقلة عن الدولة. ومنذ انهيار الدولة العراقية بعد عام 2003، شغل التيار الصدري الفراغ الذي تركته الدولة ومؤسساتها في ذلك الحين، وتحول التيار من شبكة دينية وثقافية واجتماعية إلى قوة مسلحة اكتملت أبعادها بتأسيس ما يُعرف بـ "جيش المهدي" الذي حمل لاحقاً اسم "سرايا السلام".

وتأسيساً على ذلك، يمكن القول إن الدور الديني والثقافي لهذه التشكيلات سبق في وجوده غيره من الأدوار العسكرية والأمنية. أما الأدوار الثقافية في أشكالها الجديدة فقد تمثلت في إنشاء الميليشيات أذرعاً إعلامية تشرف على الأنشطة الثقافية المختلفة من عروض مسرحية ومعارض وأفلام. فعلى سبيل المثال، يتضمن الهيكل التنظيمي لـ "الحشد الشعبي" في العراق "مديرية إعلام هيئة الحشد الشعبي"، والتي نظمت مهرجانات وفعاليات فنية ورياضية بهدف تخليد دور "الحشد الشعبي" لاسيما في محاربة تنظيم داعش، وذلك في خطوة تهدف إلى تعزيز وجوده الرمزي في المجتمع العراقي. وفي هذا الصدد، عرض مقر لـ "الحشد الشعبي" في مدينة البصرة العراقية، في مطلع يناير 2022، مسرحية تحمل عنوان "قيامة الأرض"؛ وهي تستعرض ما يقول الحشد إنها إنجازات حققها في السنوات الماضية، وذلك في إطار ما أطلق عليه مخرج العمل، الإيراني سعيد إسماعيلي، "حرباً باردة".

ويعد توزيع المساعدات على المؤيدين والداعمين، أحد أدوات القوة الناعمة التي توظفها الميليشيات. وفي هذا الإطار، يمكن التمييز بين مسارين تنتجهما الميليشيات؛ المسار الأول هو توزيع المساعدات من الموارد الخاصة لهذه الميليشيات. وهنا أشارت العديد من التقارير إلى القوة الاقتصادية التي تتمتع بها بعض الميليشيات والتي يأتي الجزء الأكبر منها من القوى الراعية لها. بينما يتمثل المسار الثاني في سيطرة الميليشيات على المساعدات الدولية من خلال التحكم في المستفيدين من هذه المساعدات وتخصيص جانب كبير منها لأسر الميليشيات والداعمين والمؤيدين. وكشفت دراسة أجرتها "الرابطة السورية لكرامة المواطن" في نوفمبر 2021، عن دور الميليشيات في توزيع المساعدات الإنسانية. وخلصت هذه الدراسة إلى أن نسبة كبيرة من المساعدات الإنسانية المُقدمة من المنظمات الأممية والدولية الأخرى، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 50%، لاسيما في مناطق سيطرة النظام السوري يتم تسليمها مباشرة إلى القوات العسكرية للنظام والميليشيات المتحالفة معها والتي بدورها تقوم بتوزيعها على عوائل الميليشيات المحلية. وتعد سيطرة الميليشيات على المساعدات إحدى "أصولها الجاذبة" في هذا الإطار. 

إضافة إلى ما سبق، تستخدم الميليشيات النساء كأحد مداخل تعزيز نفوذها في المجتمعات المحلية؛ ففي منطقة دير الزور السورية بدأت الميليشيات الإيرانية في جذب النساء للانضمام إليها، وتدريبهن على بعض الأدوار المساعدة غير القتالية؛ مثل التمريض وتقديم الرعاية الصحية الطارئة ورعاية الأطفال. ولعل اجتذاب النساء لصفوف الميليشيات، يسمح بالوصول إلى المجتمعات المحلية من جانب، ويعزز فرص قبول هذه الميليشيات وسط هذه المجتمعات من جانب آخر.

أما تقديم الخدمات فيعد شكلاً آخر للقوة الناعمة للميليشيات، وقد شجع من هذا الدور تراجع الخدمات في العديد من المناطق المأزومة بالصراعات. فعلى خلفية تراجع دور الحكومات وعجز مؤسساتها في بعض الدول عن تقديم الخدمات لمواطنيها، أُتيحت الفرصة أمام بعض الميليشيات لملء الفراغ وتقديم هذه الخدمات. وعلى غرار مديرية الإعلام التابعة لـ "الحشد الشعبي"، قامت مديرية الهندسة العسكرية بإعادة تأهيل الطرق المتضررة من الأمطار، كما شرع الحشد في إطلاق حملات خدمية مع بداية عام 2022 في عدد من المدن العراقية التي تعاني انهيار الخدمات الأساسية فيها.  

أما أبرز أصولها الجاذبة، فقد وظفتها الميليشيات المتنافسة في مساعيها لجذب المزيد من المنتسبين إليها. ففي الجنوب السوري، على سبيل المثال، حيث يشتند التنافس بين الميليشيات الإيرانية والقوات السورية وشركات الأمن الخاصة الروسية، تُوظف هذه الأطراف جميعها أدوات القوة الناعمة لجذب مزيد من الشباب. ومن هذه الأدوات؛ التعهد بتوفير الحماية لاسيما للسوريين الذين سبق وانشقوا عن النظام السوري وقواته المسلحة في مقابل الانضمام لصفوف الميليشيات. إذ تتعهد الميليشيات بتوفير الحماية لهؤلاء من ملاحقات النظام في مقابل الانضمام إليها. كما تقدم الميليشيات حوافر اقتصادية، كان أبرزها المساعدة في فك الرهن العقاري الذي فرضه النظام السوري على الممتلكات لاسيما في المناطق الحدودية الجنوبية والشرقية، ومن ثم إعطاء أصحابها فرصة التصرف فيها في مقابل الانضمام إلى صفوف الميليشيات. وفي كلتا الحالتين، لعبت الميليشيات دور الوسيط بين النظام السوري من جانب، والمجندين المحتملين من جانب آخر، مستفيدة من علاقتها الخاصة بالنظام. 

أسباب مُفسرة:

تتعدد الأسباب المُفسرة لتزايد لجوء الميليشيات المسلحة في مناطق الصراعات لأدوات القوة الناعمة، ولعل أبرزها ما يلي:

1- كسب التأييد الشعبي والشرعية: تأتي محاولة كسب التأييد الشعبي ومن ثم تعزيز شرعية وجودها، على رأس الأسباب التي قادت الميليشيات إلى هذا التحول باتجاه توظيف أدوات القوة الناعمة. وتكتسب هذه الأدوات أهمية بالغة لاسيما في مواجهة التراجع الملحوظ في تأييد هذه الميليشيات. ومن أمثلة الميليشيات التي شهدت تراجعاً في التأييد الشعبي، "الحشد الشعبي"؛ فهذه الميليشيا تمتعت في البداية بشعبية واسعة في أوساط المجتمع العراقي لاسيما بين الشيعة الذين لديهم تفضيلاتهم فيما يتعلق بالتشكيلات شبه العسكرية. ففي عام 2015، على سبيل المثال، أيد نحو 99% من الشيعة الذين جرى استفتاؤهم في إحدى الدراسات استخدام قوات "الحشد الشعبي" لمقاتلة داعش. كما تطوع نحو 75% من الرجال بين 18 و30 سنة للانضمام إلى قوات الحشد قبل عام 2016. بيد أن هذا المستوى من التأييد شهد انخفاضاً حاداً في السنوات الأخيرة. ويمكن تفسير هذا التراجع في الشعبية إلى جملة من العوامل؛ لعل من أبرزها الانتهاكات التي ترتكبها هذه الميليشيات، وشيوع ثقافة الإفلات من العقاب، فضلاً عن ارتباط تلك الميليشيات بنفوذ بعض القوى الإقليمية والدولية؛ الأمر الذي قوض من قبولها في أوساط المجتمعات المضيفة لها. 

ولعل الانقسام المجتمعي الحاد حول قبول دور الميليشيات يبدو واضحاً في السياق العراقي، فبينما يؤيد قطاع من المجتمع "الحشد الشعبي" بل ويبالغ في إضفاء طابع القداسة عليه، واصفاً إياه بـ "الحشد المقدس الذي لا يجوز انتقاده"؛ هناك من يُحمّل "الحشد الشعبي" مسؤولية المشكلات التي يعانيها العراق، لأنه لا يخضع للمساءلة لا أمام الدولة ولا أمام القانون، فضلاً عن كون الحشد انعكاساً للمساعي الإيرانية والشيعية الهادفة إلى ممارسة سياسة "الغلبة والفوقية".

ولم يكن انخفاض التأييد مقتصراً على الحشد الشعبي في العراق، ففي سوريا أيضاً تراجع الدعم الشعبي للميليشيات المدعومة إيرانياً في شرق وجنوب سوريا؛ بسبب عدم قدرة هذه الميليشيات على تغيير الواقع الذي تعانيه أهالي هذه المناطق والمتمثل في انعدام الخدمات الأساسية والتدمير الذي لحق البنية التحتية. 

2- دخول الحياة السياسية: إن أحد الأسباب الأخرى المُفسرة لتوظيف الميليشيات لمختلف أدوات القوة الناعمة، يتمثل في دخول هذه الميليشيات معترك الحياة السياسية، الأمر الذي تطلب منها توظيف مختلف الأدوات لكسب التأييد السياسي. ولعل ظهور "الحشد الشعبي" في العراق ككيان سياسي بعد الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجالس المحافظات في عام 2018، ما يدلل على هذا الأمر. وفي هذا الإطار، تسعى الميليشيات للنأي بنفسها عن هذا التوصيف من خلال التأكيد على الأدوار الأخرى التي تلعبها، كما أشارت إلى ذلك دراسة لمركز "بروكنجز الدوحة" والتي أكدت أن الميليشيات العراقية تشدد على هويتها كحركات اجتماعية ثقافية أو سياسية اجتماعية، وفقاً لرؤيتها، رافضة توصيف نفسها كميليشيات. فتنظيم "عصائب أهل الحق"، على سبيل المثال، يعمل على تعزيز صورته كحركة اجتماعية ثقافية منخرطة في عملية بناء الدولة على الرغم من تاريخه العنيف، موظفاً في ذلك أدوات ثقافية لنشر الجاذبية الفكرية للتنظيم في أوساط المجتمع الشيعي. 

ختاماً، يمكن القول إن ثمة تحولاً كبيراً قد طرأ على أدوار الميليشيات المسلحة في دول الصراعات، خاصة في الشرق الأوسط، وإن أبرز سمات هذا التحول هو اضطلاع هذه الميليشيات بأدوار ثقافية واجتماعية ودينية وسياسية، مستفيدة من الفراغ الذي خلفه انهيار بعض الدول؛ وهو ما قد ينبئ عن أدوار مستمرة من هذا القبيل لتلك الميليشيات بعد انتهاء الصراعات في هذه الدول.