عقدت روسيا والصين تدريبات بحرية وجوية مُشتركة، باسم تمرين "الشمال - التفاعل 2023"، في الفترة من 20 إلى 23 يوليو 2023، في بحر اليابان، بمشاركة أكثر من 10 سفن و30 طائرة حربية من الجانبين، وذلك بهدف الحفاظ على أمن الممرات المائية الاستراتيجية في بحر اليابان، وتعزيز قدرة البلدين على حماية السلام والاستقرار الإقليميين في مواجهة التحديات الأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
سياقات مُضطربة:
جاءت المناورات الصينية الروسية المُشتركة، في ظل أجواء وسياقات إقليمية ودولية يشوبها التوتر والاضطراب، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
1. اعتبار "الناتو" الصين تحدياً منهجياً: جرت التدريبات بعد نحو أسبوع من انتهاء قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" التي استضافتها العاصمة الليتوانية فيلنيوس يومي 11 و12 يوليو 2023، وهي القمة التي اتهمت الصين بأنها تُشكل تحدياً منهجياً للنظام الدولي. كما أعرب الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، في 12 من الشهر ذاته، عن قلقه إزاء الحشد والتحديث العسكري للصين، بما في ذلك تحديث وتوسيع قدراتها النووية. وهي التهم التي قوبلت بالرفض الشديد من جانب بكين، والتي أكدت تبنيها موقفاً متعقلاً ومسؤولاً بشأن قضية الأسلحة النووية، والمحافظة على قوتها النووية عند أدنى مستوى مطلوب للحفاظ على الأمن القومي، مع إعلان رفضها توسع "الناتو" شرقاً تجاه "الإندوباسيفيك".
2. تزايد التعاون الدفاعي بين واشنطن وحلفائها الآسيويين: جاءت المناورات الصينية الروسية الأخيرة في وقت يشهد تنامياً ملحوظاً في وتيرة التعاون الأمني والدفاعي بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الآسيويين، ولاسيما اليابان وكوريا الجنوبية، وذلك في إطار جهود واشنطن وتحركاتها الهادفة لاحتواء وتطويق الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ من جهة، وتحييد خطر كوريا الشمالية من جهة أخرى. وقد تجلى هذا التقارب في عدد من المؤشرات أبرزها؛ اتفاق الرئيس الأمريكي جو بايدن مع رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا خلال القمة التي جمعت بينهما في واشنطن في يناير 2023، على توثيق التحالف العسكري بين البلدين، فضلاً عن قيام واشنطن، خلال يونيو 2023، بإرسال غواصتيْن نوويتيْن إلى كوريا الجنوبية، في إطار عملية نشر قطع بحرية أمريكية رئيسية في شبه الجزيرة الكورية.
3. توسع "الناتو" باتجاه آسيا: يتبنى حلف شمال الأطلسي توجهاً يهدف إلى تفعيل وتعزيز وجوده في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وكذلك في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من خلال تعميق علاقاته مع القوى الرئيسية، ومنها اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا. وفي هذا السياق، فقد قام الحلف، في يوليو 2023، بتدشين شراكة ثنائية جديدة للتعاون مع كوريا الجنوبية، بهدف تفعيل التعاون في مجالات الأمن السيبراني ومكافحة الإرهاب ومراقبة الأسلحة والتقنيات الجديدة. بالإضافة إلى إطلاق برنامج الشراكة الجديد مع اليابان، بهدف تعزيز التعاون في مجالات الحد من التسلح والتقنيات الجديدة والفضاء وسلاسل التوريد والمرونة والابتكار.
4. تنامي التوترات في شبه الجزيرة الكورية: شهدت الفترة الأخيرة تصاعداً لافتاً في مظاهر ومؤشرات التوتر وعدم الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية، إذ استمرت كوريا الشمالية، الحليف التقليدي لكل من الصين وروسيا، في عمليات إطلاق الصواريخ البالستية باتجاه أراضي كوريا الجنوبية واليابان، كما نددت بيونغ يانغ بإرسال واشنطن غواصة مزودة بأسلحة نووية إلى كوريا الجنوبية، وقالت إنها "قد تنطبق عليها شروط استخدام الأسلحة النووية"، علاوة على اختفاء جندي أمريكي كان ضمن مجموعة تقوم بجولة في المنطقة المنزوعة السلاح، لدى قيامه بعبور الحدود بصورة غير قانونية إلى كوريا الشمالية، وهو ما قد يزيد التوتر بين واشنطن وبيونغ يانغ.
رسائل ردع:
سعت كل من الصين وروسيا من خلال إجراء تدريبات "الشمال - التفاعل 2023"، إلى إيصال عدد من الرسائل إلى الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
1. الاستعداد لاندلاع حرب حقيقية: تؤشر المناورات العسكرية الأخيرة بين الصين وروسيا على وجود درجة عالية من الاستعداد العسكري من قبل البلدين تجاه احتمال اندلاع أي حرب حقيقية في المنطقة، يكون أحد البلدين أو كليهما طرفاً فيها. وهو ما يتضح من خلال النظر إلى طبيعة التدريبات والتي تضمنت، وفقاً لخبراء عسكريين صينيين، عمليات ضد الألغام البحرية والطائرات والسفن والغواصات، والتي تتوافق بشكل وثيق مع مسألة حماية الطرق البحرية الاستراتيجية، كما تضمنت التدريبات أيضاً قيام الصين وروسيا بنشر أسلحة ومعدات قتالية رئيسية، هذا إلى جانب أنها المرة الأولى التي تشارك فيها قوات بحرية وجوية روسية معاً في تلك التدريبات.
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى مطالبة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، جيش بلاده، أثناء زيارته مقر قيادة المسرح الشرقي للجيش، في 6 يوليو 2023، بضرورة الاستعداد للحرب والقتال، للدفاع عن السيادة الوطنية والأمن، وكذلك ضرورة تعميق التخطيط للحرب والقتال، من خلال التركيز على التدريب العسكري للدخول في مواجهات قتالية فعلية. وهو ما يؤشر على وجود إدراك من جانب أعلى مستويات القيادة الصينية بما يُمثله الاضطراب الذي يشهده العالم في الوقت الراهن من تداعيات على أمن واستقرار الصين، ما يستوجب ضرورة الاستعداد للحد من تداعياته، حتى ولو تطلب الأمر خوض الحروب.
2. زيادة وتيرة التعاون العسكري الصيني والروسي: أظهرت المناورات مدى التطور الذي وصل إليه التعاون العسكري بين الصين وروسيا. وهو ما يؤشر على احتمالية تعاون البلدين بشكل وثيق في أي صراع أو أزمة مستقبلية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمصالحهما الجوهرية، قد تندلع في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، أو في منطقة "الإندوباسيفيك"، وتحديداً فيما يتصل بقضية تايوان ذات الأهمية الاستراتيجية للصين، أو فيما يتصل بالنزاع حول جزر الكوريل المتنازع عليها بين روسيا واليابان. ومما يؤكد هذا التوجه أن التعاون العسكري بين البلدين، شهد خلال الفترة الأخيرة تنامياً ملحوظاً في وتيرة تفاعلاته، من قبيل الزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين العسكريين في البلدين، وكذلك إجراء المزيد من المناورات العسكرية المشتركة.
3. تحدي الهيمنة الأمريكية: تتمثل إحدى الرسائل البالغة الأهمية للمناورات في توجيه رسالة ضمنية إلى الولايات المتحدة مفادها أنها ليست القوة الوحيدة التي تمتلك سلطة اتخاذ القرار العسكري في القارة الآسيوية ومنطقة "الإندوباسيفيك"، وإنما هناك أيضاً قوى كبرى ومحورية ذات تأثير كبير في تحديد اتجاه التفاعلات العسكرية في المنطقة، وهو ما يشير إلى أن أية تحركات عسكرية مستقبلية من جانب واشنطن ستُقابل بتحركات مضادة مماثلة من جانب الصين وروسيا، وهو الأمر الذي ينذر بتنامي عوامل ومصادر تهديد الأمن والاستقرار في تلك المنطقة، واتجاهها نحو مزيد من العسكرة، وبالتالي زعزعة الأمن والاستقرار الإقليميين.
تداعيات مُحتملة:
قد تُسفر التدريبات العسكرية المشتركة بين الصين وروسيا، عن عدد من التداعيات، يمكن إلقاء الضوء عليها على النحو التالي:
1. تصاعد منسوب التوتر في المنطقة: أبدى مسؤولون حكوميون في اليابان وجزيرة تايوان، مخاوف كبيرة من أن يؤدي تكرار إجراء التدريبات والتحركات العسكرية الروسية والصينية بشكل متزايد في المياه والمجال الجوي في منطقة شرق آسيا، إلى إمكانية قيام الصين وروسيا بتسيير دوريات مشتركة بشكل منتظم لقواتهما الجوية والبحرية في وقت قريب.
ومما يعزز هذا التوجه، التصريح الذي نقلته وسائل إعلام بريطانية عن وزير الدفاع الصيني، لي شانغ فو، خلال لقائه قائد البحرية الروسية الأدميرال نيكولاي يغمينوف، الذي زار الصين في إطار التدريبات، ومفاده ضرورة قيام الجانبين بتنظيم تدريبات ودوريات مشتركة بصفة منتظمة.
وهو التطور الذي من شأنه أن يزيد من التوتر في المنطقة، خاصة في ظل الوجود الدائم للقطع البحرية الأمريكية في المنطقة، الأمر الذي قد ينذر بحدوث صدام أو احتكاك بين القطع البحرية أو الطائرات الحربية للدول الثلاث.
2. تسريب بيانات أنظمة التسليح الأمريكية: أبدى المسؤولون العسكريون الأمريكيون مخاوفهم من إمكانية قيام روسيا بتبادل البيانات الخاصة بالحرب في أوكرانيا مع الصين، ولاسيما تلك التي تتضمن عمليات عسكرية ضد أنظمة الدفاع الجوي الأمريكية والتابعة لحلف "الناتو"، لما قد يترتب على ذلك من إضرار بالمصالح الأمريكية، ولاسيما تسرب التكنولوجيا العسكرية وأنظمة التسليح الأمريكية إلى الصين.
3. تضامن مع بيونغ يانغ: شهدت الفترة التالية لإجراء التدريبات الصينية الروسية المشتركة، قيام مسؤولين رفيعي المستوى من البلدين بزيارات متزامنة إلى كوريا الشمالية، للمشاركة في الاحتفال بذكرى مرور 70 عاماً على الهدنة التي أنهت الحرب الكورية. حيث قام وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بزيارة إلى بيونغ يانغ، وصفت بأنها نادرة، التقى خلالها زعيم البلاد كيم جونغ أون، وأجرى معه محادثات وُصفت بـ"الودية"، كما تفقد خلالها أحدث الأسلحة الكورية الشمالية وأكثرها تطوراً، ومن بينها صواريخ بالستية عابرة للقارات وطائرات مسيّرة.
كما قام وفد صيني، برئاسة لي هونغ تشونغ، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، بزيارة بيونغ يانغ، والتقى كيم جونغ أون، الذي تعهد بتطوير العلاقات بين بلاده والصين.
ومن الواضح أن بيونغ يانغ، تحاول من خلال استقبالها للمسؤولين الروس والصينيين، توجيه رسالة إلى واشنطن وحلفائها مفادها وقوف روسيا والصين إلى جوارها في مواجهة تهديدات واشنطن لها.
وفي التقدير، يمكن القول إن تمرين "الشمال - التفاعل 2023" يعكس تطور التعاون العسكري بين الصين وروسيا، في مواجهة الضغوط الأمريكية والغربية التي يتعرضان لها، ولاسيما ما يتعلق منها بمحاولة واشنطن وحلف "الناتو" تطويق بكين وموسكو، إلا أن ذلك لا يعني أن التصعيد بينهما سوف يصل إلى حد المواجهة المباشرة، لما للأخيرة من كُلفة عالية على كلا الطرفين، خاصة مع تأكيد وزارة الدفاع الصينية أن التعاون بين بكين وموسكو في مجال الدفاع يقوم على "عدم الانحياز وعدم المواجهة وعدم استهداف أطراف ثالثة، ويلتزم بالحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة والعالم، دون أن يشكل تهديداً لأي دولة". وهو ما يعني أن التصعيد بين الجانبين سيظل في حدود معينة دون تجاوزها.