برز طلاب المدارس والجامعات كإحدى القوى الرئيسية في الحراك الاحتجاجي الذي شهدته بعض دول الإقليم، خلال تفاعلات عام 2019، بدرجات متفاوتة، على نحو ما انعكس في كل من السودان والجزائر ولبنان والعراق وإيران، عبر أنماط مختلفة منها المظاهرات الحاشدة، والمسيرات المتحركة، والوقفات الأسبوعية، والاعتصامات المفتوحة، وقطع الطرق، بحيث مثّل الطلاب دور "المعارضة السياسية" غير المنظمة، الأمر الذي يمكن تفسيره في ضوء حزمة من الأبعاد، منها السياق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الداخلي المُحفِّز للاحتجاج، وضيق فرص ومجالات العمل أمام الشباب المتعلم، وخصائص السلوك السياسي لدى الحركات الطلابية، ووجود قنوات اتصال مباشرة بين "جماعات" الطلاب، ودعم بعض القوى السياسية المعارضة لاحتجاجاتهم.
وقد كانت أعمال الاحتجاج التي مارسها الطلبة، خلال تفاعلات عام 2019، بمثابة الشرارة التي أدت إلى اتساع نطاق العنف غير الرسمي، في العديد من المناطق داخل بعض دول الشرق الأوسط، فامتدت إلى مناطق أخرى غير أسوار المدارس ومديريات التربية والتعليم والمعاهد والجامعات، وشاركت فيها قوى وجماعات أخرى من المجتمع. ولذلك تحرص الحكومات على الحيلولة دون امتداد التظاهرات الطلابية إلى الشوارع، وتحاول قدر الإمكان أن تجعلها في إطارها الضيق.
ويلاحظ هنا أن دور الطلبة شمل مناطق المركز والأطراف، وإن تزايد في العواصم والمدن الكبرى ببعض دول الإقليم، في أعمال الاحتجاج، ويرجع ذلك إلى ضخامة أعداد الطلاب في هذه المدارس وتلك الجامعات. كما أن تركز التفاعلات السياسية ومراكز صنع القرارات والسياسات في العواصم يجعل طلبة مدارسها وجامعاتها أكثر وعياً وإحساساً بالمتغيرات السياسية الجارية، على المستويين الداخلي والخارجي، ومن ثم أكثر استعداداً للاستجابة ورد الفعل.
وهنا تجدر الإشارة إلى فشل بعض الحكومات في توظيف الحركة الطلابية من أجل بلورة المساندة السياسية لها. غير أنه مع اتساع قاعدة الاحتجاجات الإيرانية ضد نظام الحكم على خلفية ارتفاع أسعار البنزين، حاول الأخير إخراج مظاهرات موالية له في عدة محافظات اعتماداً على عناصر من ميليشيا "الباسيج"، بجانب الطلاب الأجانب الذين يدرسون على نفقة النظام. ويشير أحد التقديرات إلى أن هناك ما يقارب 120 ألف طالب للعلوم الدينية يدرسون في حوزات إيران وجامعاتها الدينية.
أنماط مختلفة:
اتخذ دور الطلبة في حركات الاحتجاج ببعض دول الشرق الأوسط عدة أنماط، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- المظاهرات الحاشدة: كان طلبة المدارس والجامعات في طليعة قوى الاحتجاج في المظاهرات التي خرجت من ساحات الاحتجاج الرئيسية سواء في العاصمة أو المدن الكبرى. فعلى سبيل المثال، شهدت السودان في 30 يوليو 2019 مظاهرات هى الأكبر في تاريخ البلاد بعد مقتل ثلاث طلاب من المرحلة الثانوية، حيث ردد الطلاب هتافات تطالب بالقصاص من قتلة زملائهم مثل "الدم بالدم ما بنقبل الدية" و"الدم بالدم لو حتى مدنية"، وهو ما حمل إشارة لعدم قبولهم بغير القصاص حتى لو سلم المجلس العسكري السلطة لحكومة مدنية.
2- المسيرات المتحركة: وهو ما يبدو جلياً في حالة لبنان، حيث انطلقت بعض المسيرات من عدة مناطق واتجهت نحو عدد من المرافق الحكومية والخدمية للاحتجاج أمامها، وتمركزت أمام مقر وزارة التربية والتعليم. كما التحق طلاب المدارس والجامعات العراقية بموجة الاحتجاجات الشعبية في بداية أكتوبر 2019، وكان وجودهم لافتاً في ساحة التحرير وسط بغداد التي تعد المركز الرئيسي للاحتجاجات، وسرعان ما امتد إلى مناطق أخرى، وكان آخرها طلاب مدارس وكليات محافظة المثني جنوب البلاد.
3- الوقفات الأسبوعية: وينطبق ذلك على الطلبة في الجزائر الذين برز دورهم في الاحتجاجات يومى الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع، وأدى ذلك إلى زيادة زخمها، بسبب رفض العهدة الخامسة لبوتفليقة، ومكافحة رموز الفساد، وهو ما تحقق فعلاً. غير أن هناك مطالب أخرى لم تتحقق ومنها رحيل بقية رموز النظام البوتفليقي السابق ورفض إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين واسترجاع الأموال المنهوبة من الخارج وإقامة جمهورية ثانية، والتي استمر الطلبة في رفعها حتى الجمعة الـ40 في 22 نوفمبر الجاري.
4- الاعتصامات المفتوحة: ويمثل تكتيكاً اتبعه الطلبة المحتجون في حالات مختلفة، على نحو أدى إلى تعطل الدراسة في المدارس والجامعات والمعاهدة بصورة شبه كاملة في غالبية المناطق اللبنانية، منذ اندلاع الاحتجاجات في 17 أكتوبر 2019. كما انتشرت وحدات من الجيش العراقي قرب المدارس في العاصمة بغداد، في 21 نوفمبر 2019، لمنع الطلبة من المشاركة في الاحتجاجات، والتي وصلت إلى حد الاعتصام، وهو ما أطلق عليه "أصحاب القمصان البيضاء" الذين ينتفضون لأول مرة منذ 67 عاماً (آخر ثورة طلابية ضد النظام الملكي في 20 نوفمبر 1952).
5- قطع الطرق: على نحو ما حدث في البقاع بجنوب لبنان، في أكثر من بلدة وقرية، حيث انضم طلاب المدارس الثانوية إلى المتظاهرين ورفضوا الالتحاق بالمدارس. وتكرر ذلك بالنسبة للطلاب المحتجين في عدد من الجامعات السودانية خلال إبريل الماضي دعماً للحراك الشعبي في البلاد.
محددات تفسيرية:
إن هناك مجموعة من العوامل التفسيرية لازدياد دور الطلاب في مسار الاحتجاجات في الشرق الأوسط، وهو ما انعكس في اللافتات التي حملوها والتغريدات التي أطلقوها والتصريحات التي أدلوا بها لوسائل الإعلام، ويتمثل أبرزها في:
1- السياق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الداخلي: وهو ما يمثل عاملاً مُحفِّزا للاحتجاج داخل كل الدول المذكورة، حيث تعاني من مشكلات مختلفة، أسهمت في خروج قطاعات واسعة من الرأى العام في مناطق مختلفة. فالطلاب هم أبناء مختلف طبقات المجتمع، وتفرض المشكلات المختلفة تأثيراتها عليهم. وغالباً ما تكون المواقف الطلابية أقرب إلى مواقف القوى الرافضة للأوضاع والسياسات والنظم القائمة.
وفي هذا السياق، تثور قوى الاحتجاج، وفي القلب منها الطلبة، على التراجع في مستوى المعيشة وتدهور نوعية الحياة والأوضاع المالية والاقتصادية، والتدهور الذي أصاب الخدمات، لاسيما على صعيد قطاعات الكهرباء والمياه والنفايات والرعاية الصحية والخدمة التعليمية والضمان الاجتماعي، على نحو يدفع إلى ضرورة إصلاح البنى التحتية المترهلة.
هذا فضلاً عن الاحتجاج ضد الأوضاع السياسية التي تهيمن عليها نخبة محدودة، على نحو يجعل احتجاج الطلاب إعلان تمرد ضد النخبة الحاكمة في السودان والجزائر ولبنان والعراق وإيران. وقد تبدو الاحتجاجات الطلابية في بداية اندلاعها اقتصادية لكنها ذات أبعاد سياسية، إذ تظاهر آلاف الطلبة في السودان للمطالبة بتوفير الخبز وأسعار مناسبة للوقود في نهاية ديسمبر 2018، ثم سرعان ما تطورت إلى المطالبة بإسقاط حكم البشير.
2- ضيق فرص ومجالات العمل أمام الشباب المتعلم: ويرتبط ذلك طردياً بارتفاع معدلات التعليم العالي في هذه الدول، ومن ثم زيادة أعداد الخريجين الذين هم بحاجة إلى فرص عمل، مع الأخذ في الاعتبار ضعف أو عدم وجود ضمانات مستقبلية كافية بعد التخرج، وتتساوى في ذلك الدول النفطية (العراق وإيران) والدول غير النفطية، الأمر الذي يعكس الفجوة بين مخرجات التعليم وسوق العمل.
ويتوازى تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية – إلى جانب المشكلات الاجتماعية– في هذه الدول، بما يعنيه ذلك من ضيق فرص ومجالات العمل المتاحة أمام الشباب، مع ارتفاع تكاليف الحياة وأعباء المعيشة، وكل ذلك من شأنه زيادة مشاعر الإحباط والاغتراب والقلق لدى الطلبة، ومن ثم زيادة احتمالات اتجاههم إلى الاحتجاج في مواجهة النظم الحاكمة بدلاً من اضطرارهم للهجرة إلى الخارج، كما هو الحال مع الشباب اللبنانيين.
3- خصائص السلوك السياسي لدى الحركات الطلابية: فالأخيرة هى إحدى صور الحركات الشبابية، والخصائص السيكولوجية لمرحلة الشباب تفرض تأثيراتها في تصوراته ومواقفه السياسية، فتتسم في الغالب بالخيالية والمثالية، ورفض الواقع والسعى إلى التجديد. ومن ثم، يصبح أكثر اندفاعاً واستعداداً للاحتجاج، للبحث عن الهوية والسعى لتأكيد الذات، بالإضافة إلى عدم تبلور المسئولية الاجتماعية عند الطالب، إذ أن دوره الاجتماعي لم يتحدد بعد.
وفي هذا السياق، يشير اتجاه سائد في الأدبيات إلى أن قطاعاً ليس بالقليل من الطلبة خصوصاً والشباب عموماً داخل الدول المذكورة "مُسيَّس"، وإن كان من خارج الهياكل التقليدية مثل الأحزاب والحركات والتيارات السياسية التقليدية. وبعبارة أخرى، فإن ما يسمى بـ"فورة" الشباب التي كانت سبباً في الدعوة إلى التحول منذ عقد من الزمن لازالت قائمة والفرصة التي أتاحتها لازالت سانحة.
4- وجود قنوات اتصال مباشرة بين "جماعات" الطلاب: يوفر تجمع أعداد كبيرة من الطلاب داخل أسوار المدارس والمعاهد والجامعات مجالاً واسعاً للتفاعل فيما بينهم، الأمر الذي يؤدي إلى بلورة نوع من الوعى والإدراك المشترك لدى القطاع الأكبر من الطلبة حول العديد من القضايا التي تتعلق بهم كفئة اجتماعية، أو حول بعض القضايا التي تتعلق بالهموم والمشكلات التي تواجه مجتمعاتهم.
فعلى سبيل المثال، يشارك الطلاب اللبنانيون في الاعتصامات والمسيرات للمطالبة بتغيير المناهج الدراسية التي أصبحت بدائية وتقليدية لا تلبي حاجات سوق العمل. كما يتظاهر بعض الطلاب للتنديد بكتب التاريخ المعتمدة في المناهج الدراسية والتي لا تتطرق إلى أبعاد مهمة من تاريخ البلاد. فبسبب الانقسام السياسي والطائفي الحاد، لا يجمع اللبنانيون على رواية أو سرد مشترك للأحداث الكبرى التي طبعت تاريخ الجمهورية بعد الاستقلال الذي احتفل اللبنانيون في 22 نوفمبر الجاري بذكراه السادسة والسبعين.
ولا تركز كتب التاريخ في لبنان على بعض الأحداث التاريخية التي فرضت تحولات أساسية في الدولة، على غرار الحرب الأهلية التي اندلعت في الفترة من عام 1975 وحتى عام 1990، إلى جانب الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000، وبعده الانسحاب السوري في عام 2005 على خلفية التداعيات التي نتجت عن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وهو سياق أدى إلى الافتقاد للذاكرة الجماعية.
5- دعم بعض القوى السياسية والمجتمعية احتجاجات الطلاب: على نحو يمنح زخماً لها بسبب تعدد الأطراف المساندة لها، إذ رحب رئيس الوزراء العراقي الأسبق رئيس "القائمة الوطنية" إياد علاوي في تغريدة عبر "تويتر" بمظاهرات الطلبة العراقيين في 27 أكتوبر 2019 قائلاً: "موقف مشرف لطلبة المدارس والجامعات بدعمهم ومساندتهم للمظاهرات المطلبية من أجل المضى بالإصلاح الشامل والكامل"، وهو ما جاء في أعقاب إضراب كليات ومدارس بغداد عن الدوام.
كما دعم احتجاجات الطلبة في الجزائر وجود مظاهرات لمعلمي المرحلة الابتدائية، في بعض الفترات الزمنية من عام 2019، إذ طالب المحتجون بتعديل اختلالات القانون الأساسي الذي لا يكون إلا بإعادة تصنيف أساتذة الأطوار "المراحل" الثلاثة في نفس الرتب القاعدية (ابتدائي- إعدادي- ثانوي)، وإعادة تصنيف أستاذ رئيسي وأستاذ مدرب، ومراجعة ساعات العمل لأساتذة التعليم الابتدائي مع نظراءهم في التعليم الإعدادي والثانوي، على نحو دفع بالكثيرين إلى التوجه إلى مهن حرة أو التدريس بمدارس خاصة.
معوقات هيكلية:
كل تلك الاعتبارات تجعل الطلبة أكثر استعداداً للمغامرة وممارسة أعمال الاحتجاج ضد النظم القائمة. وعلى الرغم من أن الطلبة قد يشكلون معارضة قوية لهذه النظم، إلا أنهم لا يملكون طرح بدائل لها، إذ يحتاج ذلك إلى حركة سياسية منظمة وفعالة أوسع من الحركة الطلابية.
كما أن النشاط الطلابي في بعض الأحيان قد يكون "موسمياً"، فهو يتزايد خلال فترات الدراسة، وما أن تأتي الامتحانات والإجازات الصيفية حتى يتراجع نشاطهم، وإن كان ذلك لا يصلح للتعميم على كل الحالات، إذ أن السلطات الجزائرية، على سبيل المثال، حاولت تبكير عطلة الجامعات لإضعاف مشاركة الطلبة في الاحتجاجات، وهو ما لم يحدث، حيث ساهم الطلبة في الحفاظ على التعبئة في تلك الاحتجاجات.
نواة معارضة:
ولعل دروس الحراك الاحتجاجي في طبعة 2019 وطبعة 2011 ببعض دول الإقليم تشير إلى أن الطلبة صاروا إحدى الفئات الاجتماعية الصانعة له والمشاركة فيه، وإن تركزت وقفاتها أمام المدارس والمعاهد والجامعات ومديريات التربية والتعليم، مع تزايد سقف مطالبها والتي تغذيها المشاعر المتنامية لدى الفئات الاجتماعية بالاستبعاد الاجتماعي، وهو ما سوف يستمر خلال المرحلة المقبلة.