يبدو أن إيران ستواجه صعوبات شديدة في الحصول على النقد الأجنبي في إطار العقوبات الأمريكية التي بدأت الحزمة الأولى منها في 7 أغسطس الماضي وستصل إلى ذروتها في 4 نوفمبر القادم. ومن المقرر أن تشمل العقوبات الأمريكية كافة الأنشطة الاقتصادية بما فيها النفط، وهو ما سيدفع إيران، على الأرجح، إلى إعادة بناء شبكتها المالية الخفية التي وفرت لها موارد من النقد الأجنبي لتمويل الاستيراد ومواصلة نشاطها بالشرق الأوسط، سواء من خلال شبكات تهريب النقد عبر الحدود أو على متن الرحلات الجوية، أو الشركات الوهمية، أو عبر شبكات مصرفية، بجانب احتمال استخدام العملات الإليكترونية. ورغم أهمية هذه الشبكات للاقتصاد الإيراني، إلا أنها لن تجنب العملة الإيرانية الضغوط المستمرة التي ستتعرض لها في الفترة المقبلة.
تدهور العملة:
انخفض سعر صرف الريال الإيراني بشدة منذ تطبيق الولايات المتحدة الأمريكية الحزمة الأولى من العقوبات على إيران في أغسطس الماضي، حيث تراجعت العملة في السوق غير الرسمية لأكثر من 150 ألف ريال مقابل الدولار الأمريكي مقابل قيمتها البالغة نحو 106 ألف ريال في بداية أغسطس الماضي، ولتزيد في الوقت نفسه الفجوة مع السوق الرسمية، حيث تصل قيمتها حاليًا إلى نحو 42 ألف ريال مقابل الدولار الواحد.
ومن المقرر أن تفرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على كافة المعاملات المالية والتجارية لإيران بما فيها النفط، وفي إطار الحزمة الأولى من العقوبات، فرضت وزارة الخزانة عقوبات على تجارة إيران للمعادن والذهب وشراء الدولار وإصدار أو تسهيل إصدار الديون السيادية بجانب عقوبات أخرى على قطاع السيارات.
أما في نوفمبر المقبل، فسوف تشمل العقوبات موانئ الشحن الإيرانية بما فيها شركة الشحن الملاحية، إلى جانب بعض الشركات النفطية، وهى شركة النفط الوطنية وشركة ناقلات إيران وشركة نفط إيران للتجارة، بجانب منع المؤسسات المالية الأجنبية من تقديم الخدمات المالية والمصرفية والتأمينية للمؤسسات الإيرانية كافة.
وعلى ضوء هذه العقوبات، يتوقع أن يتضرر الاقتصاد الإيراني بشدة في الفترة المقبلة، ويتزامن ذلك مع انسحاب الشركات الأجنبية من مشروعاتها بالسوق الإيرانية في الأشهر الماضية. ومن المرجح أيضًا أن تنخفض صادرات إيران النفطية لأقل من مليون برميل يوميًا مقابل نحو 2.5 مليون برميل في الأشهرة الماضية، وهو ما يعني فقدانها لجزأ كبير من المصدر الرئيسي للنقد الأجنبي، على نحو سيؤدي بلا شك إلى مزيد من تدهور العملة الإيرانية.
وسائل مختلفة:
سوف تدفع العقوبات الأمريكية إيران إلى تنشيط وتجديد شبكتها المالية الخفية التي شكلتها في الفترة التي فرضت فيها العقوبات السابقة عليها (2012-2015) كغطاء لتوفير جزء من احتياجات البلاد من النقد الأجنبي، وذلك على النحو التالي:
1-شبكات النقد: بات من الواضح مؤخرًا أن السلطات الإيرانية تسهل عمل شبكات تجارة العملات الأجنبية عبر حدودها مع بعض الدول المجاورة، وذلك على غرار ما حدث أثناء فترة تشديد العقوبات السابقة عليها، والتي وفرت لها وقتها، بحسب بعض التقديرات، ما لا يقل عن مليار دولار نقدًا.
وفي الفترة الأخيرة، نشطت تجارة العملة بالفعل على الحدود الإيرانية- الأفغانية، حيث يعبر المهربون الحاصلون على تأشيرات المرور الإيرانية من خلال المعابر البرية المختلفة على طول الحدود لبيع الدولار للتجار الإيرانيين مقابل الريال الإيراني بأسعار مغرية تتعدى سعر الصرف الرسمي بالسوق الإيرانية بطبيعة الحال.
ويوميًا، يتم تهريب حوالي 5 مليون دولار عبر حدود البلدين، وفق المتحدث باسم البنك المركزي الأفغاني إيمال هاشور، يضاف إليها 7 مليون دولار أخرى من خلال المطارات. وبالمثل، تشير بعض الترجيحات إلى أن إيران في الوقت الراهن تعمل على تنشيط تهريب العملات الأجنبية على طول الحدود مع العراق، وذلك بالتعاون مع الميليشيات الموالية لها والتي تشارك في السيطرة على المنافذ الحدودية.
وقد تلجأ إيران إلى نقل العملات الصعبة على متن الرحلات الجوية المتجهة إليها من بعض الدول المجاورة، وهذه الوسيلة استخدمتها بالفعل في السنوات الماضية للالتفاف على العقوبات الدولية، ومثلت لها طريقًا آخر لنقل النقد الأجنبي.
2- شركات وهمية: لا شك أيضًا أن الشركات الوهمية سيكون لها دور جوهري في الفترة المقبلة لتوفير العملات الصعبة لإيران خاصة الدولار، وذلك مثلما حدث في السنوات الماضية وفق ما أكدته تقارير لمجلس الأمن الدولي بأن إيران حصلت على مئات الملايين من الدولارات باستخدام شركات وهمية تنشط في بعض الدول المجاورة لها وتنسق عملها مع البنك المركزي الإيراني والشركات الإيرانية للحصول على النقد الأجنبي اللازم لتمويل واستيراد السلع.
وقد دفع ذلك وزارة الخزانة الأمريكية لمراقبة الأنظمة المالية في الدول المجاورة، وبناءً عليه وضعت عددًا كبيرًا من الشركات الوهمية في قائمة العقوبات الأمريكية، وذلك مثلما حدث عام 2013 عندما تم إدراج 37 شركة في تلك القائمة اعتبرتها تعمل على مساعدة إيران للالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة عليها.
3- شبكات مصرفية: يتكامل مع الآلية السابقة لجوء إيران لاستخدام شبكات معقدة من المعاملات المالية والمصرفية خارج حدودها من أجل إجراء التحويلات المالية اللازمة لتمويل الاستيراد أو لدعم حلفائها في منطقة الشرق الأوسط. وعلى سبيل المثال، أجرت شركات صرافة وبنوك في العراق ودول أخرى تحويلات مالية تحت غطاء تجاري لتمويل "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري إلى جانب حزب الله. وما كان من الإدارة الأمريكية إلا أن وضعت مصرف البلاد الإسلامي العراقي تحت طائلة العقوبات الأمريكية في مايو الماضي.
وقد يكون من الصعب الآن أن تجد إيران أريحية كافية في إجراء تحويلات مالية من الحسابات البنكية الخارجية التابعة لها نظرًا لتشديد الرقابة الأمريكية على النظامين الماليين العالمي والإقليمي، لكن هذا لا ينفي أن إيران قد يكون لديها شركات وهمية وحسابات بنكية غير مكشوفة قد تساهم في إجراء هذه المعاملات.
4- عملات بديلة: طرحت إيران في الآونة الأخيرة إمكانية استخدام عملات بديلة لإجراء معاملاتها المالية مع الأسواق الدولية. وفي هذا الصدد، تخطط وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، بالتعاون مع البنك المركزي، لتدشين عملة رقمية خاصة بها متداولة في المصارف من أجل الالتفاف على العقوبات. وربما تشجعها تجربة فنزويلا في هذا المجال، حيث استحدثت في الأشهر الماضية عملة رقمية خاصة بها مدعومة باحتياطيات النفط وذلك للالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة على قطاع النفط.
وفي الوقت نفسه، تكثف إيران من تحركاتها مؤخرًا لحث شركائها التجاريين على إجراء التعاملات التجارية معها بالعملات المحلية. وفي هذا السياق تم الاتفاق بالفعل مع الصين على استخدام العملات المحلية للبلدين بدلاً من الدولار في التبادلات التجارية الثنائية، بحسب ما أعلن وزير الاقتصاد مسعود كرباسيان(الذي سحب مجلس الشورى الإسلامي الثقة منه مؤخرًا) في يونيو الماضي، كما تتواصل إيران مع تركيا وروسيا لاستخدام العملات المحلية في التجارة أيضًا.
حدود الفاعلية:
ليس معلومًا على وجه الدقة كم وفرت إيران من شبكتها المالية الخفية في فترة تشديد العقوبات عليها من قبل المجتمع الدولي، لكنها على أقل تقدير ساهمت في سد جزء ولو ضئيل من احتياجاتها من النقد الأجنبي المطلوبة للاستيراد أو تمويل نشاطها في الشرق الأوسط. وبالتوازي مع ذلك أيضًا، تبدي أطراف دولية عديدة، على غرار روسيا والاتحاد الأوروبي، استعدادها لتفعيل نظام مدفوعات آمن يقوم على المقايضة لكى تتمكن إيران وشركاتها من إجراء التعاملات التجارية دون التعرض للعقوبات الاقتصادية.
ورغم ذلك، فإن هذه الآليات لن تكون كافية لتفادي آثار العقوبات الأمريكية، لا سيما أن إيران لديها احتياجات كبيرة من النقد الأجنبي، سواء اللازمة لتمويل الواردات أو الموازنة العامة. وبينما تبلغ وارداتها أكثر من 50 مليار دولار سنويًا، من المتوقع أن تنخفض إيرادات صادراتها بأكثر من النصف إلى 30 مليار دولار أو أكثر قليلاً، على نحو سيضع عملتها تحت ضغوط مستمرة طيلة فترة العقوبات الأمريكية المفروضة عليها.