أطاحت احتجاجات "الكوتا" التي اندلعت، في مطلع يوليو 2024، بحكم الشيخة حسينة واجد، الذي استمر لنحو 15 عاماً متتالية. ولم يكن يتوقع كثيرون هذا السقوط السريع الذي تعرضت له رئيسة الوزراء، التي طالما وُصِفَت بأنها "سيدة آسيا الحديدية" ومن أكثر رؤساء الوزراء في العالم بقاءً في منصبها؛ فأكثر التقديرات المتفائلة كانت تعتقد أن الاحتجاجات الحالية قد تُجبِر الشيخة حسينة على إجراء بعض الإصلاحات السياسية، إلا أن ما جرى خلال الأسابيع الماضية غيَّر معادلة سياسية ظلت ثابتة في بنغلاديش قرابة ثلاثة عقود.
وبالطبع سوف تكون هناك تداعيات قادمة للمشهد الدراماتيكي لاستقلال الشيخة حسينة وشقيقتها، يوم 5 أغسطس، مروحية عسكرية متوجهة إلى الهند؛ وإعلان قائد الجيش الجنرال واقر الزمان، استقالتها وطمأنته المحتجين على أن النظام سوف يعود لطبيعته، ولقائه مع قادة أحزاب سياسية ونشطاء مدنيين؛ سواءً على صعيد الإعداد لخارطة طريق للمرحلة الانتقالية، أم على مستوى التوازنات السياسية التي سادت بنغلاديش لعقود خلت، أم على مستوى نظام وهيكل الحكم في السنوات المقبلة.
تحولات المشهد الأخير:
أظهر خروج الشيخة حسينة من المشهد السياسي مدى الهشاشة والضعف الكامن وراء مظاهر القوة التي سعت الشيخة إلى ترسيخها خلال العقود الماضية؛ بل وأظهر تفاعُل الحكومة ورئيسة الوزراء خلال الشهر الماضي أن فائض القوة الذي كانت تشعر به اصطدم بهذا الحراك الشبابي، الذي قاد أعنف احتجاجات في مسيرتها السياسية. في هذا الإطار، هناك عدة عوامل أدت إلى هذا السقوط السريع، من أبرزها ما يلي:
1 - تحوُل الحراك الطلابي إلى حركة جماهيرية: كانت الاحتجاجات ضد نظام الحصص الوظيفية في بنغلاديش أشبه بكرة الثلج التي تضخمت وتطورت بصورة سريعة؛ إذ اتسع نطاقها الجغرافي وأعداد المشاركين فيها، فبعدما كانت قاصرة على طلاب الجامعات؛ نجحت في استقطاب كافة فئات المجتمع، بما في ذلك المهنيين ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية. كما ارتفع سقف مطالب المحتجين، فعلى الرغم من إعلان الحكومة، يوم 21 يوليو، إعادة النظر في توزيع حصص الوظائف الحكومية وتقليص النسب المحددة لفئة أبناء "المقاتلين من أجل الحرية" في حرب الاستقلال؛ فإن ذلك لم يكن كافياً أو مقنعاً بالنسبة لقادة الحراك الطلابي، الذين اعتبروا أن قرار المحكمة العليا لا يضمن عدم عودة الحكومة إلى طرحه مره أخرى، وعليه استمرت الاحتجاجات في الميادين.
وبمرور الوقت، قدَّم قادة الحراك مجموعة من المطالب من بينها: قيام رئيسة الوزراء بالاعتذار العلني للمواطنين، ورَفْع حَظْر التجول، والمطالبة باستقالة وزير الداخلية، وتوفير الضمانات التي تمنع تعرُض المتظاهرين للمضايقات الأكاديمية أو الإدارية. وقد مَنَحَ الطلاب الحكومة مهلة للاستجابة لهذه المطالب، وعلقوا الاحتجاجات مؤقتاً؛ ولكن مع استمرار تعنُّت الحكومة وعدم تنفيذ هذه المطالب، تحولت الاحتجاجات إلى مواجهة أكبر مع النظام، وتمكَّن الحراك من تعبئة الرأي العام وحَشْد الجماهير ضد النظام الحاكم بصورة لم تكن متوقعة.
2 - استخدام تحويلات البنغاليين في الخارج كسلاح ضغط: دفع استمرار الاحتجاجات مؤيدي الحراك الطلابي للتفكير في التحويلات المالية التي يرسلها المواطنون البنغال في الخارج كأحد الأسلحة التي يُمكِن توظيفها للضغط على الحكومة، فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، دعا المنظمون 10 ملايين بنغالي يعملون في الخارج إلى تجميد تدفُق التحويلات المالية التي تُقدَّر بنحو 2 مليار دولار شهرياً؛ وردت الحكومة على ذلك بحَثِّ المغتربين على مواصلة إرسال الأموال إلى الوطن، وبتوجيه البنوك إلى رَفْع سعر الدولار الأمريكي للتحويلات الواردة.
وربما فرضت هذه الدعوة من قادة الاحتجاجات مزيداً من القيود على الحكومة، خاصة وأن تحويلات البنغال في الخارج تُعد من مصادر الدخل الرئيسية؛ ويعني انخفاضها مزيداً من تفاقم الأزمات الاقتصادية التي تأثرت بفعل إغلاق العديد من المصانع والشركات، وتراجُع الإنتاجية في قطاع الملابس، الذي تضرر بصورة غير مسبوقة بفعل حظر التجول الذي فرضته الحكومة.
3 – التركيز على إسقاط النظام والدعوة لعصيان مدني: مع اتساع الفجوة بين الحكومة والحراك الطلابي؛ نظراً لاعتبار الحكومة أنها قامت بتلبية مطالبه عن طريق إعادة النظر في نظام الحصص الوظيفية، في مقابل رفض المحتجين هذا الأمر؛ بدا أن هناك انفصالاً تاماً بين الجانبين؛ لتنتقل مطالب قادة الاحتجاج الطلابي، وتحديداً يوم 3 أغسطس، إلى إسقاط الشيخة حسينة وإبعادها عن المشهد. وحينها بدأت الشيخة حسينة تكون أكثر مرونة وانفتاحاً وتواصلاً مع قادة الحراك، فتنازلت عن اتهامهم بأنهم مدفوعون بأجندات سياسية وبمؤامرات لإسقاطها؛ ولكن رفض قادة الحراك دعوة الشيخة حسينة غير المشروطة للحوار، ودعوا إلى عصيان مدني شامل، وطالبوا المواطنين بعدم دَفْع الضرائب وفواتير الماء والكهرباء والخدمات، وبتنفيذ إضرابات عامة من جانب موظفي القطاع العام والعاملين في قطاع مصانع الملابس؛ الأمر الذي من شأنه أن يصيب البلاد بشلل تام.
4 – استخدام القوة المفرطة والعنف: دخلت بنغلاديش في حالة غير مسبوقة من العنف، يوم 4 أغسطس، فيما أُطلِقَ عليه "الأحد الدامي"؛ إذ قُتِلَ 93 شخصاً على الأقل، بينهم 14 ضابط شرطة، وأُصيب مئات آخرون، في اشتباكات هي الأعنف منذ اندلاع الاحتجاجات في مطلع شهر يوليو؛ وهو ما شكل نقطة تحوُّل في مسار الشيخة حسينة؛ نظراً لعدة عوامل منها ما هو ظاهر مثل: إصرار الحكومة على مواجهة التصعيد بتصعيد مضاد في أول أيام تنفيذ العصيان المدني، وزيادة أعداد الضحايا والقتلى إلى أكثر من 300 فرد منذ بداية الاحتجاجات؛ ومنها ما هو كامن، ويتمثل بشكل أساسي في تخوُّف الجيش من أن تتسبب هذه الأحداث في نَشْر الفوضى والعنف، وربما أسهمت الضغوط الخارجية كذلك في شعور الشيخة حسينة بأنها محاصرة على كافة الجبهات.
ما بعد الشيخة حسينة:
فتحت استقالة الشيخة حسينة الباب أمام عدد من التساؤلات، يرتبط بعضها بالشيخة ذاتها، ومستقبل الحراك الطلابي، وطبيعة التفاعلات السياسية القادمة، والأدوار المُحتمَلَة لعدد من القوى والأحزاب السياسية، وهو ما يمكن الوقوف عليه على النحو التالي:
1 – احتمال نهاية الصراع بين عائلتي مجيب وضياء على السلطة: يُمكِن أن تكتب نهاية حُكم الشيخة حسينة بداية جديدة للنظام السياسي في بنغلاديش بعيداً عن هذا الصراع العائلي بينها وبين الشيخة خالدة ضياء رئيسة الوزراء السابقة، فلم تعرف بنغلاديش رئيس وزراء منذ عام 1991 إلا بين السيدتين القويتين؛ وهو أمر له خلفيات تاريخية تعود إلى تاريخ تأسيس بنغلاديش في عام 1971 عقب انفصالها عن باكستان؛ إذ سيطر على الحياة السياسية حزبان رئيسيان وعائلتان سياستان، فقد ارتبط حزب رابطة عوامي بالشيخ مجيب الرحمن، زعيم الاستقلال ومؤسس الدولة، والذي حكم البلاد منذ عام 1971 حتى اغتياله في عام 1975، في حين ارتبط الحزب الوطني البنغالي بالجنرال ضياء الرحمن، الذي تولى زمام الأمور منذ عام 1977 حتى عام 1981.
ومنذ الإطاحة بالحكم العسكري في بنغلاديش وتنحية الجنرال محمد حسين إرشاد، في عام 1991، تناوب على حكم البلاد الشيخة حسينة الابنة الأكبر للشيخ مجيب الرحمن، وخالدة ضياء زوجة الجنرال ضياء الرحمن، فحكمت الأخيرة البلاد لنحو 10 أعوام على فترتين مختلفتين، بينما حكمت الشيخة حسينة أكثر من 20 عاماً من بينهما 15 عاماً متتالية. وخلال تلك الفترة تمتعت عائلتا ضياء ومجيب بنفوذ سياسي كبير، فمثلاً كان محمد ظل الرحمن، عم الشيخة حسينة رئيساً لبنغلاديش (2009 – 2013)، وتولى ابنها منصب مستشار رئيس الوزراء، وكان يتم تأهيله لرئاسة الحكومة بعد الشيخة حسينة.
بناءً على ذلك، ربما يفتح التحول السياسي الذي تشهده بنغلاديش حالياً الطريق أمام ظهور وجوه سياسية جديدة؛ ما يؤدي إلى درجة من درجات دوران النخبة أو على أقل تقدير خَلْق نخبة جديدة غير تلك التي تحكمت في مجريات الأمور طيلة العقود الماضية.
2 - الإشكاليات المرتبطة بترتيبات المرحلة الانتقالية: مع إعلان استقالة الشيخة حسينة، دخلت بنغلاديش في مرحلة انتقالية جديدة؛ إذ اتخذ الجيش مجموعة من الإجراءات السريعة؛ بهدف طمأنة الحراك الطلابي والعمل على استعادة الهدوء، من بينها: الإعلان عن ضرورة تشكيل حكومة مؤقتة في أسرع وقت، وحل البرلمان، ورَفْع حظر التجول، بالإضافة إلى الإفراج عن رئيسة الوزراء السابقة وزعيمة المعارضة خالدة ضياء، وكذلك الأشخاص الذين اعتُقِلُوا خلال الاحتجاجات، والإعلان عن إطلاق سراح جميع السجناء، بما في ذلك المعتقلين من الحركة الطلابية المناهضة للتمييز.
وعلى الرغم من حالة التفاؤل والاحتفاء بسقوط الشيخة حسينة؛ فإن هناك مخاوف كبيرة بشأن ترتيبات ما بعد المشهد الأخير. على سبيل المثال، تُثار شكوكٌ كبيرة حول عملية انتقال السلطة، وما إذا كان بإمكان الجيش أن يساعد على انتقال سلس للسلطة، أم أنه سيضع نفسه طرفاً مركزياً في المعادلة؟ هذه المخاوف ترتبط بالتاريخ السياسي لبنغلاديش؛ إذ شهدت منذ عام 1975 حتى عام 2011، ما لا يقل عن 29 انقلاباً عسكرياً، كما حكم العسكريون البلاد نحو 14 عاماً من تاريخها. وفي هذا الإطار، يُمكِن فَهْم لماذا أعلن قادة الحراك الطلابي أنهم لن يدعموا أي شكل من أشكال الحكم بخلاف الحكومة التي يدعمها الطلاب، وقالوا إنهم لن يقبلوا بحكومة يدعمها الجيش أو حكومة رئاسية مع حالة الطوارئ. ومع ذلك، تُظهِر الملامح الأولية أن قائد الجيش والرئيس البنغالي أداروا مشهد ما بعد استقالة رئيسة الوزراء وفقاً لقواعد الدستور؛ ما قد يعني ضمنياً عدم وجود رغبة في الخروج عن القواعد الدستورية المنظمة لترتيب انتقال السلطة.
ويرتبط بذلك إشكالية أخرى تتعلق بشكل وطبيعة الحكومة المؤقتة التي يسعى الحراك الشبابي لتشكيلها، فقد تم الاستقرار على الدكتور محمد يونس، الخبير الاقتصادي والحائز على جائزة نوبل، لتولي رئاسة الحكومة الجديدة، والتي من المُقرَّر الإعلان عن تشكيلها يوم 8 أغسطس. ورغم ذلك تظل معضلة التوافق بشأن المرشحين للحكومة قائمة، وكذلك بشأن توزيع الحصص والحقائب الوزارية، والأوزان النسبية المختلفة لكل طرف. كما يتمثل التحدي الأكبر في احتمال إطالة أمد المرحلة الانتقالية، فوفقاً للدستور يجب أن تُجرَى الانتخابات في غضون 90 يوماً من حل البرلمان، وهو ما سيكون محلاً للاختبار خلال الفترة المقبلة، والتي ستكشف عن مدى قدرة الحكومة المؤقتة على إدارة المرحلة الانتقالية، وصولاً للانتخابات، ولكن في ظل حالة الاستقطاب السياسي الحاد الذي تشهده البلاد، وتراجُع فعالية الأحزاب السياسية؛ فربما تصطدم أية ترتيبات مستقبلية بدرجة ما من الخلاف وعدم التوافق؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى دخول بنغلاديش في مرحلة انتقالية مفتوحة.
3 - مخاوف محدودة من الفوضى: في أعقاب استقالة الشيخة حسينة، أظهرت مجموعة من المشاهد قيام محتجين بتنفيذ هجمات على مبانٍ حكومية وحَرْق مقرات الحزب الحاكم، وتدمير أصول الدولة والممتلكات العامة؛ الأمر الذي يطرح تساؤلات حول حدود الفوضى وغياب النظام الذي يُمكِن أن يُصاحِبَ المرحلة الانتقالية، في ضوء حالة الاستقطاب السياسي، وربما الرغبة في الانتقام السياسي من أنصار النظام السابق من قوى أخرى، خاصةً من تيارات الإسلام السياسي.
أيضاً، ارتبط المشهد الأخير باحتمال تنفيذ أعمال عنف ضد الأقليات؛ إذ قال مجلس الاتحاد الهندوسي، إن مئات المنازل والشركات والمعابد الهندوسية تعرضت للتخريب منذ الإطاحة برئيسة الوزراء؛ إذ تم تخريب ما بين 200 إلى 300 منزل وشركة أغلبها هندوسية، كما لحقت أضرار بنحو 20 معبداً. وربما قد تُضاعف حالة الفوضى هذه، التحديات التي يُمكِن أن تواجه المرحلة الانتقالية؛ ما لم يتم استعادة دور الدولة وأجهزة إنفاذ القانون.
أخيراً، لقد كان واضحاً منذ إعلان الحراك الطلابي حالة العصيان المدني، وعدم التعاون الشامل مع الحكومة، وتقليص مطالب المحتجين إلى مطلب واحد هو الإطاحة بحكم الشيخة حسينة، أن الأمور تسير في تجاه إنهاء سيطرة رئيسة الوزراء، التي شغلت المنصب لمدة 20 عاماً خلال الـ28 عاماً الماضية، على حكم بنغلاديش؛ إلا أن هذه النهاية السريعة للمرأة الحديدية بعد نحو شهر من بداية الاحتجاجات ربما كانت مفاجئة إلى حد ما؛ وهو ما يعود ربما إلى تفضيلها حقن الدماء وتدخُّل الجيش لعدم انتشار الفوضى وقوة الحراك الطلابي والشعبي الناتج بشكل أساسي عن عوامل اقتصادية ومعيشية وسوء توزيع العوائد الإنتاجية في البلاد وانسداد الأفق السياسي أمام مشاركة قوى فاعلة أخرى في المشهد السياسي في ظل طول فترة بقاء الشيخة حسينة في رئاسة الوزراء وسيطرة حزب رابطة عوامي على زمام الأمور.