في أعقاب سيطرة القوات العراقية على مدينة كركوك، وطرد قوات البيشمركة الكردية منها، في ١٦ أكتوبر الجاري، أعلن الرئيس مسعود البارزاني أن عددًا من قادة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني أعطوا أوامر لوحدات البيشمركة الكردية التابعة له بالانسحاب من عدة مواقع لتمكين القوات العراقية من السيطرة على المدينة. (1)
كما صرح الملا بختيار، مسئول الهيئة التنفيذية في المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني، بأن هناك مخاوف حقيقية من انقسام حكومة إقليم كردستان العراق إلى إدارتين، في إشارة إلى الانقسام السابق للإدارة الكردية في شمال العراق إلى إدارتين؛ إحداهما في السليمانية، والأخرى في أربيل ودهوك، وذلك حتى تم توحيدهما في عام ٢٠٠٦. وأضاف أن هذا الوضع قد ينتج عنه حرب أهلية، ويفضي إلى التدخل الإقليمي والدولي.(2)
وتُلقي هذه التصريحات الضوء على أحد أبرز العوامل التي أدت إلى إخفاق المحاولات الانفصالية الكردية في شمال العراق، وهو الانقسام العميق بين الأكراد، خاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، والاتحاد الوطني الكردستاني. وسوف يلقي هذا التحليل الضوء على هذه الانقسامات، وأبرز مؤشراتها، وتداعياتها على مستقبل إقليم كردستان العراق.
صراعات كردية ممتدة:
لطالما كانت العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني متوترة، وشهدت في بعض فتراتها مواجهات مسلحة بين الطرفين. ففي الفترة من عام ١٩٩٤، وحتى عام ١٩٩٨، دخل الحزبان في حرب أهلية، استنجد خلالها مسعود البارزاني بالرئيس العراقي الأسبق صدام حسين من أجل هزيمة القوات الموالية لجلال طالباني، رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني آنذاك (والرئيس العراقي في الفترة من ٢٠٠٥ وحتى ٢٠١٤).
وقد انتهى هذا الصراع في عام ١٩٩٨ من خلال وساطة أمريكية، والتي أدت في النهاية إلى إقامة إدارتين كرديتين في شمال العراق، إحداهما في السليمانية بقيادة الاتحاد الوطني، والأخرى في أربيل ودهوك بقيادة الحزب الديمقراطي.(3)
ومنذ عام ٢٠٠٥، بُذلت محاولات لتوحيد الإدارتين الكرديتين، تحت مظلة حكومة واحدة في أربيل. وفي عام ٢٠٠٦، شُكلت أول حكومة موحدة لإقليم كردستان العراق ضمت وزراء من الحزبين الكرديين، غير أنه كانت هناك العديد من المؤشرات على أن هذا التوحيد لم يكن كاملًا، فقد ظلت الأجهزة الأمنية التابعة للحزبين الكرديين غير موحدة.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الخلافات بين حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني ازدادت حدتها مؤخرًا بسبب التوجهات السلطوية لرئيس الإقليم مسعود بارزاني، والذي رفض التنازل عن منصبه رغم انتهاء ولايته في عام ٢٠١٥، كما منع انعقاد برلمان الإقليم منذ عام ٢٠١٥ بسبب سعي حركة جوران الكردية لإقالته من منصبه بعد أن تجاوز فترة ولايته الرئاسية، وهو ما أدى إلى تصاعد التوتر بين جوران وبارزاني.
وقد أدى توصل حركة جوران الكردية والاتحاد الوطني الكردستاني لاتفاق حول العمل المشترك في ١٧ مايو ٢٠١٦، إلى تصاعد التوتر بين الأخير والحزب الديمقراطي الكردستاني. وقد كان الاتفاق بين جوران والاتحاد الوطني تطورًا محوريًّا في سياسات الإقليم، لأنه لم يُنهِ سبع سنوات من الخلاف بين الطرفين، ولكنه مثّل كذلك محاولة لموازنة نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني. (4)
ولم تتوقف الخلافات الكردية على الساحة العراقية، بل امتدت الحرب الباردة بين الطرفين إلى سوريا، حينما قام الحزب الديمقراطي الكردستاني بفرض نوع من أنواع الحصار على الأراضي السورية القريبة من حدود إقليم كردستان العراق الخاضعة لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الموالي لحزب العمال الكردستاني التركي وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني في العراق(5)، وذلك لرفض الاتحاد الكردي مقاسمة السلطة مع المجلس الوطني الكردي الموالي لبارزاني.(6)
مؤشرات تجدد الصراعات:
أدت العديد من العوامل إلى تصاعد التوتر بين الطرفين مؤخرًا، والتي يمكن إيجازها على النحو التالي:
1-الموقف من استفتاء الاستقلال: تبنى كل من الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني مواقف متباينة من الاستفتاء. ففي حين كان بارزاني يصر على إجراء الاستفتاء، رغم الجهود الدبلوماسية والإقليمية والدولية، لإثنائه عن ذلك؛ فإن الاتحاد الوطني وحركة جوران عارضا إجراء الاستفتاء قبل إعادة تفعيل البرلمان الكردي، كما كان من الملاحظ أن الحزبين تبنيا مواقف أكثر اعتدالًا من مواقف بارزاني، إذ دعما العديد من المبادرات الإقليمية والدولية الرامية إلى تأجيل الاستفتاء، والوساطة بين حكومة إقليم كردستان والحكومة العراقية، للوصول إلى حل وسط للقضايا الخلافية العالقة بين الطرفين.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الموقف لم يكن موقفًا نخبويًّا، فقد كانت التوجهات الشعبية في محافظة السليمانية غير متحمسة للاستفتاء على الاستقلال، فبالنظر إلى استطلاعات الرأي التي أُجريت قبيل الاستفتاء في السليمانية وحلبجة، نجد أن ٦٦٪ من المستطلع آراؤهم، إما يرفضون الاستفتاء، أو أعلنوا امتناعهم عن التصويت. وعبّر الكثيرون منهم عن اعتقادهم بأن الاستفتاء ما هو إلا أداة في يد بارزاني للبقاء في السلطة، والتغطية على الفساد الحكومي، والوضع الاقتصادي المنهار.(7)
2- استغلال بارزاني للانقسامات داخل الاتحاد الوطني الكردستاني: اندلع صراع على قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني قبل وفاة مؤسسه جلال طالباني في ٣ أكتوبر ٢٠١٧. ويمكن الإشارة هنا إلى فصيلين أساسيين هما: فصيل هيرو طالباني، زوجة جلال طالباني، وأولاده(8)، من جانب، وفصيل آخر بقيادة كوسرت رسول علي، النائب الأول لسكرتير الاتحاد الوطني الكردستاني، وبرهم صالح، النائب الثاني، واللذان قاما بتأسيس كيان جديد في عام ٢٠١٦، اسمه "مركز القرار" في الحزب، في محاولة للسيطرة على حزب الاتحاد الوطني بعيدًا عن سيطرة أسرة طالباني، وهو ما اعتبرته هيرو طالباني كيانًا غير شرعي.(9)
وقد تحالف الفصيل الثاني بقيادة كوسرت وبرهم مع مسعود بارزاني، خاصة وأن كوسرت يشغل منصب نائب رئيس إقليم كردستان، فضلًا عن تماهيه مع الاتهامات التي وجهها بارزاني لقوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني بالانسحاب من كركوك بالتواطؤ مع الجيش العراقي(10)، في حين أن برهم صالح كان يَظهر دائمًا في جولات بارزاني التي كانت تروج لصالح الاستفتاء على الانفصال.(11)
وقد ترتب على هذا الوضع إثارة غضب فصيل هيرو طالباني، وساهم في تعزيز التحالف القائم مع حركة جوران، ضد ما اعتبروه محاولات من طالباني للهيمنة على إقليم كردستان العراق.
ويشير عدد من المؤشرات إلى أن فصيل هيرو قد تمكن من حسم الصراع الداخلي في الحزب لصالحه؛ إذ إن كوسرت رسول لا يتمتع بشعبية كبيرة بين كوادر الاتحاد الوطني، كما أن برهم صالح لا يتمتع بدعم قيادات البيشمركة الكردية، الذين يشغلون مناصب بارزة في حزب الاتحاد الوطني.(12 )
ومن جهة ثانية، فإن هيرو وأبناءها يسيطرون على قوات البيشمركة الكردي. وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الرأي العام في محافظة السليمانية، المعادي لمسعود البارزاني، يري أن شعبية كوسرت وبرهم قد تضررت كثيرًا هناك.
3- الانسحاب من كركوك: أشار رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي إلى أن فصيل هيرو طالباني أثبت وطنيته، ودعمه لوحدة العراق(13). وتُشير بعض الأخبار إلى أن سيطرة الجيش العراقي على كركوك بسهولة نسبية يرجع إلى اتفاق سري بين بغداد وأبناء طالباني، بوساطة إيرانية( 14). في حين أكد بافل طالباني، نجل الزعيم الكردي جلال طالباني، أن الانسحاب كان تكتيكيًّا، ولم يتم إلا بعد وفاة حوالي مائة عنصر من البيشمركة الكردية، والتيقن من أن الجيش العراقي يمتلك قوة نيران أكبر( 15).
وقد سعى بارزاني لتبرير هزيمته أمام الجيش العراقي بإلقاء اللوم على الاتفاق المشار إليه بين الاتحاد الوطني والحكومة العراقية للانسحاب من كركوك، خاصة وأن الانسحاب أضعف من المركز السياسي لبارزاني في الإقليم، حيث مثّل فقدان هذه الأراضي التي تحتوي على احتياطات نفطية هامة نهايةً لمشروعه الانفصالي.
تداعيات الخلافات الكردية:
بالنظر إلى التطورات السابق الإشارة إليها، فإنه من المتوقع أن ينجح فصيل هيرو طالباني في إحكام سيطرته على الاتحاد الوطني الكردستاني، خاصة بعد قيام الرئيس العراقي فؤاد معصوم (كردي)، بالموافقة على قرار إقالة محافظ كركوك السابق، نجم الدين كريم، والذي قام بإشراك المحافظة في الاستفتاء غير الشرعي الذي أجراه بارزاني على الاستقلال، بل ودعمه للانفصال عن العراق، وذلك بالمخالفة لتوجيهات الحكومة المركزية، فضلًا عن قيام حزب الاتحاد الوطني بترشيح ريزجار علي، عضو المكتب السياسي في الاتحاد الوطني، لتولي هذا المنصب.( 16)
ومن المتوقع أن يزداد التفاهم بين الحكومة المركزية وحزب الاتحاد الوطني، وهو الأمر الذي قد يترتب عليه ضمان وحدة الأراضي العراقية، ومزيد من العزلة لمسعود بارزاني. كما قد يصل الطرفان إلى تفاهمات حول التحويلات المالية للسليمانية، وهو ما قد يُساعد المحافظة في تجاوز الأزمة المالية، بما يُعزز من شرعية الاتحاد الوطني في السليمانية.
أما بالنسبة للعلاقة بين الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي، فإنه يتوقع أن يتعمق الانقسام الكردي بين إدارتين كرديتين، إحداهما في السليمانية، والأخرى في أربيل ودهوك، حتى وإن حافظ الأكراد على شكل الحكومة الموحدة ممثلة في حكومة إقليم كردستان العراق. وفي حالة تصاعد الاحتقان بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، فإن حكومة إقليم كردستان العراق قد تنقسم إلى إقليمين فيدراليين، وهو سيناريو قد يكون مستبعدًا، ولكنه يظل قائمًا، بما يرتبه ذلك من نهاية فعلية للمحاولات الانفصالية الكردية في المدى المنظور، وإن كان سيتوجب على الحكومة العراقية أن تجد حلًّا عادلًا للقضايا الخلافية العالقة بين حكومة إقليم كردستان العراق والحكومة المركزية، بما يضمن وحدة الأراضي العراقية والتقاسم العادل للثروة والسلطة بين مكونات الشعب العراقي.