تشهد بنغلاديش احتجاجات عنيفة منذ مطلع شهر يوليو 2024، تنديداً بنظام الحصص في الوظائف العامة؛ إذ أدت إلى مقتل أكثر من 100 شخص حتى الآن، وسط اتخاذ السلطات إجراءات من بينها فرض حظر التجول ونشر الجيش، وهو ما فاقم هذه الأزمة التي ينظر إليها البعض باعتبارها أكبر تحدٍّ لرئيسة الوزراء، الشيخة حسينة، منذ فوزها بولاية رابعة على التوالي في أعقاب الانتخابات التي عُقدت في يناير الماضي. ويتناول هذا التحليل أسباب الاحتجاجات الحالية في بنغلاديش، وتطوراتها، وتأثيراتها المُحتملة.
أسباب الاحتجاجات:
كان قرار المحكمة العليا في بنغلاديش، يوم 5 يونيو الماضي، والذي أفضى إلى العودة لنظام الحصص في الوظائف الحكومية، المحرك الرئيسي الذي أشعل فتيل الاحتجاجات الحالية. إذ تُعارض شريحة كبيرة من المواطنين هذا القانون باعتباره يُميز بينهم؛ بل إنه يفتقد، من وجهة نظر المحتجين، لمعايير الإنصاف، خاصةً وأن غالبية المواطنين ينظرون إلى الوظائف العامة على أنها أكثر استقراراً وأعلى أجراً من العمل في القطاع الخاص. وفي هذا الإطار، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 400 ألف خريج يتنافسون على 3 آلاف وظيفة سنوياً؛ ومن هنا يمكن فهم كيف تسببت العودة إلى نظام "الكوتا" في الوظائف العامة في رد الفعل العنيف وتلك الاحتجاجات الواسعة.
وكان نظام الحصص الوظيفية في بنغلاديش، والذي بدأ العمل به منذ عام 1972؛ يهدف إلى توفير الدعم لعدد من الفئات، وأُدخل عليه مجموعة من التعديلات منذ إقراره، إلا أن النسخة الأخيرة من النظام كانت تخصص نحو 56% من الوظائف العامة لعدد من الفئات؛ إذ يحصل أفراد عائلات المقاتلين الذي شاركوا في حرب الاستقلال عن باكستان عام 1971 على نحو 30% من تلك الوظائف، و10% للنساء، و10% للأشخاص من المناطق المتخلفة في النمو، و5% للسكان الأصليين، و1% لذوي الاحتياجات الخاصة. ويطالب المحتجون بإلغاء الامتيازات الممنوحة للفئات السابقة؛ باستثناء الفئتين الأخيرتين.
اتجاهات التصعيد:
يمكن الوقوف على طبيعة الاحتجاجات والتفاعلات المصاحبة لها في بنغلاديش، وتعاطي الحكومة معها، وفقاً لمجموعة من الأنماط والاتجاهات الرئيسية، وذلك على النحو التالي:
1- اتساع نطاق وجغرافيا الاحتجاجات: بدت الاحتجاجات في بنغلاديش مثل "كرة ثلج"؛ إذ اتسع نطاقها وعدد المؤيدين لها بصورة ملحوظة خلال الأسابيع الماضية؛ إذ بدأت من جامعة دكا، وهي أقدم جامعة في البلاد، قبل أن ينضم إليها طلاب في جامعات أخرى، ثم بعد ذلك تحولت إلى موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات؛ إذ دعا المحتجون يوم 18 يوليو الجاري إلى إغلاق كامل في جميع أنحاء البلاد؛ باستثناء مركبات خدمات الطوارئ. وهذه المرة، انضم طلاب الجامعات الخاصة في العاصمة إلى طلاب الجامعات العامة وطلاب المدارس الثانوية والكليات؛ الأمر الذي جعل الاحتجاجات تأخذ نمطاً أشبه بـ"حراك الكل ضد الحكومة".
2- محاولات حكومية للتقليل من الأزمة: مع بداية الاحتجاجات، حاول ممثلو حزب "رابطة عوامي" الحاكم والحكومة إنكار صلتهم بالأزمة، قائلين إنهم لا علاقة لهم بإعادة فرض نظام الحصص؛ لأن القرار صدر من أعلى محكمة في البلاد. كما كانت هناك حجة مفادها أن المحتجين يجب أن ينتظروا حتى جلسة استئناف المحكمة، التي كان من المفترض أن تُعقد في 7 أغسطس المقبل.
وربما انقلبت الأمور رأساً على عقب تصريحات رئيسة وزراء بنغلاديش، الشيخة حسينة، في 14 يوليو الجاري، والتي بدت فيها مدافعة عن القانون، قائلة: "لماذا يشعر المحتجون بهذا القدر من الاستياء تجاه المقاتلين من أجل الحرية؟ إذا لم يحصل أحفاد المقاتلين من أجل الحرية على مزايا الحصص، فهل ينبغي لأحفاد رضاكار أن يحصلوا عليها؟" وكان وصف الشيخة حسينة للمعارضين للقانون بأنهم أحفاد "رضاكار"، وهو مصطلح يُستخدم لوصف أولئك الذين يزعم أنهم تعاونوا مع الجيش الباكستاني عام 1971، بمثابة نقطة تحول أخرى في مسار الاحتجاجات، خاصةً أنها تسببت في حالة من الغضب والاستياء بين المحتجين، وأدت إلى مزيد من حشد وتعبئة المعارضين لسياسات الشيخة حسينة.
3- الصدام بدلاً من الحوار: يبدو أن الحكومة في بنغلاديش لجأت إلى الصدام والابتعاد عن الحوار أو محاولة التعاطي المرن مع مطالب المحتجين؛ وهو ما أدى إلى توسيع الاضطرابات، وسقوط نحو 151 قتيلاً حتى مساء يوم 21 يوليو الجاري. ومع اتساع نطاق الاحتجاجات، تم الإعلان عن فرض حظر التجول في جميع أنحاء البلاد، وأمرت الحكومة بنشر قوات الجيش كمحاولة لاستعادة الهدوء، علاوة على حظر التجمعات في الأماكن العامة. من ناحية أخرى، توقفت خدمات الإنترنت، وتعطلت خدمات الهاتف المحمول، مع انقطاع شبه كامل للتيار الكهربائي. ويبدو أن الحكومة لجأت لهذه الإجراءات للحد من إمكانية توظيف وسائل التواصل الاجتماعي في الحشد والتعبئة ضدها؛ إذ قال مسؤولون في الحكومة إنهم أبطأوا الاتصال بالإنترنت لوقف انتشار المعلومات المُضللة.
تأثيرات مُحتملة:
ثمة تأثيرات مُحتملة للاحتجاجات المستمرة في بنغلاديش، تتمثل أبرزها فيما يلي:
1- تقديم تنازلات حكومية: تسببت الاحتجاجات التي اندلعت من قبل في عام 2018 ضد نظام الحصص، في قيام الحكومة بتعليق العمل بالقانون؛ ومن ثم إلغاء نظام الحصص قبل أن يعود بقرار من المحكمة العليا في شهر يونيو الماضي. وقياساً على ذلك، قد تُقدم حكومة الشيخة حسينة تنازلات على خلفية الاحتجاجات الحالية، خشية خروج الأمور عن السيطرة، خاصةً أن هذه الاحتجاجات لا يمكن مقارنتها بما كانت عليه عام 2018.
وفي هذا الصدد، وعلى الرغم من أنه كان من المفترض أن تبت المحكمة العليا في شهر أغسطس المقبل في قانونية نظام الحصص في الوظائف الحكومية، فإنها قرّبت موعد صدور قرارها بعد تصاعد العنف في البلاد، وقضت المحكمة يوم 21 يوليو الجاري بالحد من نظام الحصص لكن دون إلغائه. واستناداً لهذا الحكم الجديد، خفضت المحكمة العليا النسبة الإجمالية للوظائف المخصصة للفئات المحددة من 56% إلى 7% فقط. إذ ستُخصص 5% من الوظائف العامة لفئة أبناء "المقاتلين من أجل الحرية" في حرب الاستقلال عام 1971، بعدما كانت هذه النسبة تبلغ 30%. وتثير هذه الفئة استياء خريجي الجامعات؛ إذ يعدونها تُستخدم لمنح وظائف في القطاع العام لأنصار الحزب الحاكم. كما ستُخصص 1% من الوظائف العامة للمجموعات القبلية، و1% لذوي الاحتياجات الخاصة أو المواطنين الذين يعلنون عن أنفسهم على أنهم من جنس اجتماعي ثالث، وفق قانون بنغلاديش. وفي المقابل، ستُمنح 93% من الوظائف العامة على أساس الكفاءة.
لكن لم يحظ قرار خفض نظام الحصص في الوظائف العامة، بقبول المجموعة الطلابية المنظمة للتظاهرات؛ إذ أعلنت أنها لن توقف احتجاجاتها.
2- زيادة الاستقطاب السياسي: يمكن أن يؤدي استمرار الاحتجاجات الحالية إلى زيادة حالة الاستقطاب السياسي في بنغلاديش، وهو المناخ العام المسيطر على المشهد في البلاد منذ إجراء الانتخابات الأخيرة في يناير 2024، التي قاطعتها أغلب الأحزاب وفي مقدمتها حزب المعارضة الرئيسي؛ الحزب الوطني البنغالي، ومن ثم فمن المؤكد أن تستغل المعارضة الاحتجاجات الحالية للضغط على الحكومة؛ إذ أعلن أنصار الحزب الوطني البنغالي الانضمام لمطالب المحتجين وتأييدها. وعلى الرغم من أن قرار عودة نظام الحصص في الوظائف العامة كان سبباً في حالة الاستقطاب؛ فإن الصورة العامة في بنغلاديش تشير إلى أن ما حدث لم يكن سوى تعبير عن تصعيد مكتوم تشهده البلاد منذ سنوات، وربما تستمر حالة عدم الاستقرار السياسي في الفترة المقبلة.
3- تفاقم الأوضاع الاقتصادية: يمكن أن تؤثر الاحتجاجات الحالية بالسلب في الأوضاع الاقتصادية لمواطني بنغلاديش، خاصةً إذا ما استمرت لفترة طويلة؛ وهو ما يمكن أن يصيب الاقتصاد بهزة عنيفة، في ظل انخفاض معدلات النمو إلى 5.8% في السنة المالية 2023، وذلك بعدما وصل إلى أعلى مستوياته عام 2022 عند 7.1%. كما ارتفع التضخم إلى 9.7% بحلول منتصف العام الجاري؛ وهو ما ظهر في ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية والخدمات. في الوقت ذاته، انخفضت الاحتياطات الأجنبية لدى بنغلاديش من 42 مليار دولار عام 2018 إلى نحو 26.5 مليار دولار حالياً. ويشير ذلك إلى وضع الاقتصاد البنغالي المأزوم، والذي يمكن أن يتأثر سلباً بصورة أكبر مما هو عليه الآن إذا استمرت الاحتجاجات الحالية؛ على اعتبار أنها ستؤدي إلى تشتيت انتباه الحكومة عن جهودها لتحسين الأوضاع الاقتصادية.
في الأخير، تواجه حكومة الشيخة حسينة تحديات راهنة، ربما ستحتاج معها لتقديم مزيد من التنازلات، والعمل على تنفيذ إصلاحات اقتصادية وسياسية؛ بهدف تهدئة الرأي العام واحتواء الحراك الطلابي والغضب الشعبي الحالي. وقد تكون الاحتجاجات ضد نظام الحصص في الوظائف العامة بمثابة جرس إنذار شديد لهذه الحكومة، لإعادة النظر في سياساتها بشكل عام، خاصةً أن الأجواء المشحونة وحالة الاستقطاب القائمة قد تنذر بمزيد من التصعيد.