دخلت عالمة المناخ ذات الميول اليسارية كلوديا شينباوم التاريخ بفوزها في الانتخابات الرئاسية بالمكسيك؛ لتكون أول امرأة وأول يهودية تشغل هذا المنصب في تاريخ البلاد، بعد أن حازت على أكبر نسبة من التأييد في تاريخ الانتخابات المكسيكية، 59.3% من الأصوات مقابل 27.9% لمنافستها سوتشيتل غالفيز، مُرشحة تحالف الأحزاب المعارضة المحافظة، فيما حلّ المرشح المستقل خورخي آلفاريز في المرتبة الثالثة بنسبة 10.4% من الأصوات.
وقد تعززت هذه النتيجة بفوز مُريح للحزب الحاكم وحلفائه، على مستوى الانتخابات التشريعية بغرفتيها، وفوز نوعي في الانتخابات البلدية.
تحديات داخلية:
ثمّة تحديات ومشكلات داخلية من المحتمل أن تواجهها كلوديا شينباوم، ويمكن استعراض أبرزها على النحو التالي:
1. تحسين الوضع الاقتصادي: تتولى شينباوم رئاسة المكسيك التي لا تزال في خضم تدهور الوضع الاقتصادي، ففي أواخر شهر مايو 2024، أعلن مكتب الإحصاء الوطني المكسيكي، تراجع معدل نمو اقتصاد المكسيك خلال الربع الأول من العام الحالي، ناهيك عن عجز الموازنة الذي ارتفع من 4.3% في السنوات السابقة إلى 5.9% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، تزامناً مع خسارة البيزو المكسيكي 4.3% من قيمته ليسجل 17.7 مقابل الدولار بعد فوز شينباوم مباشرة، في حين تراجعت البورصة عند الإغلاق بنسبة 6.01%.
كذلك سيكون لزاماً على شينباوم أن تعالج نقاط الضعف الهيكلية في شركة الطاقة الحكومية المكسيكية "بيميكس"، وهي شركة النفط الأكثر مديونية في العالم، والتي أصبحت تشكل عبئاً على المالية العامة. وعليه، سيعتمد مستقبل "بيميكس" على مسار الطاقة الذي تختار شينباوم اتباعه سواء أكانت ملتزمة بالسياسات الحالية أم تسعى إلى تعظيم إمكانات البلاد من النفط والغاز.
وبالرغم من تعهدات ووعود شينباوم في الخطاب الذي ألقته عقب فوزها في الانتخابات بمواصلة سياسة سلفها لوبيز أوبرادور والملقب بـ"أملو"، المتمثلة في التقشف الجمهوري والحفاظ على الانضباط المالي، واحترام استقلالية بنك المكسيك -البنك المركزي في المكسيك- فإن الانتخابات الأخيرة تسببت في صدمة في السوق؛ إذ تبدو حركة التجديد الوطني "حزب مورينا" الحاكم، الذي تنتمي إليه شينباوم وسلفها أوبرادور، وشركاؤه في الائتلاف مستعدين لأغلبية عظمى في الكونغرس؛ الأمر الذي سيجعل التغيير الدستوري أسهل ويقلل من الضوابط والتوازنات بين القوى السياسية.
2. تخفيف الضغوط الاجتماعية: تواجه الإدارة الجديدة الحاجة إلى تعزيز معدل النمو الاقتصادي في البلاد على أساس مُستدام للمساعدة على تلبية الاحتياجات الاجتماعية الملحة، ومن أبرزها ارتفاع تكاليف معاشات التقاعد، التي كانت سبباً رئيسياً في ارتفاع شعبية الرئيس المنتهية ولايته أوبرادور؛ إذ قدّم عام 2019 دفعة شاملة لمن هم فوق 65 عاماً، تبلغ قيمتها الآن 6 آلاف بيزو (361 دولاراً) كل شهريْن.
ويُعد هذا المبلغ وغيره من البرامج الاجتماعية عنصراً أساسياً في حصوله على نسبة تأييد وصلت إلى 55%، كما قام بمضاعفة الحد الأدنى للأجور على مدى ست سنوات؛ وقد أدت هذه السياسات مجتمعة إلى انخفاض معدل الفقر بأكثر من 7 نقاط مئوية، وفقاً لوكالة قياس الفقر الحكومية.
هذا بالإضافة إلى التحدي الذي تواجهه الحكومة المقبلة فيما يتعلق بالصحة، فوفقاً لقياس الفقر لعام 2022 الذي أجراه المجلس الوطني لتقييم سياسة التنمية الاجتماعية (كونيفال)، لم يتمكن 50.4 مليون مكسيكي في ذلك العام من الوصول إلى الخدمات الصحية، ووفقاً لبياناتهم، بين عامي 2020 و2022، زاد عدد الأشخاص الذين لا يحصلون على الرعاية الطبية بمقدار 14.7 مليون، وحتى العام الماضي، كان هناك 50 مليون شخص لا يحصلون على الخدمات الصحية من أي نوع.
وفي الشأن التعليمي، تتمثل أكبر التحديات، بحسب متخصصين، في توفير عرض تعليمي أكبر لجميع الطلاب، خاصة في التعليم المتوسط والثانوي، ومكافحة التسرب من المدارس.
3. معالجة الانفلات الأمني: يرى عدد كبير من المحللين أن انعدام الأمن هو التحدي الأكثر إلحاحاً أمام الرئيسة الجديدة؛ نظراً لارتفاع معدلات العنف؛ إذ تسجل المكسيك نحو 30 ألف جريمة قتل سنوياً؛ أي نحو 80 جريمة يومياً، وتشهد 6 ولايات من أصل 32 ولاية نحو نصف جرائم القتل.
ناهيك عن خطورة عصابات الجريمة المنظمة وشبكات المخدرات، التي جعلت الانتخابات الراهنة الأكثر دموية في تاريخ البلاد؛ إذ قُتل 37 مرشحاً أو طامحاً للترشح لمناصب مُنتخبة من يونيو 2023 إلى 1 يونيو 2024، وهو ما تجاوز عدد المرشحين الذين قتلوا أثناء العملية الانتخابية لعام 2018 (24 مرشحاً).
وفي مثل هذا السياق، جادلت بعض الجماعات النسوية بأن شينباوم لن تستطع المضي قدماً في مكافحة جرائم قتل النساء. فوفقاً للمرصد الوطني لجرائم قتل النساء؛ تُقتل أكثر من 1500 امرأة سنوياً في المكسيك بسبب جنسهنّ؛ وفي الغالبية العظمى من الحالات، يفلت القتلة من العقاب. ويُشير المنتقدون أيضاً إلى العدد الكبير من النساء المختفيات في مكسيكو سيتي، وفي جميع أنحاء البلاد، اللاتي لا يظهرن في إحصاءات جرائم القتل. ويتساءلون هل يمكن لشينباوم أن تفعل المزيد؟
4. الدور المُوسّع للجيش المكسيكي: أشارت عدّة تحليلات إلى أن شينباوم سوف تحتاج أيضاً إلى التعامل مع الدور المُوسّع للجيش المكسيكي؛ إذ اتسمت الفترات الرئاسية الثلاث الأخيرة التي دامت ست سنوات بنشر القوات المسلحة في مهام الشرطة، ولاسيما في عهد الرئيس المنتهية ولايته لوبيز أوبرادور؛ إذ شهدت المكسيك عسكرة مُتزايدة للمهام المدنية داخل وخارج المجال الأمني. واليوم، لا تتولى القوات المسلحة مسؤولية مهام الشرطة فحسب، بل اضطلعت أيضاً بأدوار في إنفاذ قوانين الهجرة، والموانئ والجمارك، وبناء مشروعات السياحة والبنية التحتية العملاقة، والمطارات وإدارة الأعمال، من بين أمور أخرى.
وهكذا، ركّزت الدولة المزيد والمزيد من السلطة والتمويل في المؤسسات العسكرية المعروفة بغموضها، وافتقارها إلى الضوابط المدنية الكافية، وتاريخها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؛ وهو ما يشوّه العلاقات المدنية العسكرية ويشكل مساراً محفوفاً بالمخاطر لحقوق الإنسان، ليس الآن فحسب، بل في المستقبل أيضاً؛ ولذلك فمن الضروري بالنسبة لشينباوم التحرك نحو التجريد من السلاح وإعطاء الأولوية لتعزيز المؤسسات المدنية.
قضايا خارجية:
ستواجه الرئيسة الجديدة لدولة المكسيك عدداً من التحديات في إدارة علاقاتها الخارجية، على النحو التالي:
1. إدارة العلاقة مع واشنطن: سيتعين على شينباوم إدارة العلاقة الثنائية الحسّاسة والمُعقّدة مع الولايات المتحدة، خصوصاً فيما يتعلق بقضايا شائكة مثل: تهريب المخدرات والهجرة عبر الحدود، تزامناً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر عقدها في نوفمبر المقبل؛ إذ حرص كلٌ من الرئيس الحالي والمرشح الديمقراطي جو بايدن، وكذلك الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب على زيارة الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك مطلع مارس 2024، وألقى كلا المرشحين اللوم على الطرف الآخر في عبور مئات الآلاف من المهاجرين بصورة غير شرعية للحدود، وهو ما يعكس أهمية المكسيك في السباق الرئاسي.
في المقابل، تكمن أهمية الانتخابات بالنسبة للمكسيكيين في أن ترامب خصوصاً رفع سقف المواجهة مع لوبيز أوبرادور، سابقاً فيما يتعلق بإغلاق الحدود بين البلدين لوقف الهجرة غير النظامية. في المقابل، فإن بايدن سعى إلى استيعاب الوضع عبر برامج مُخصصة لهذا الغرض.
كذلك، ستواجه شينباوم تحدياً آخر في عام 2026 متمثلاً في إعادة التفاوض مع إدارة ترامب الثانية بشأن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (USMCA) إذا فاز بولاية جديدة، رغم أن المراقبين يعتقدون أن الرئيس جو بايدن سيكون أيضاً أكثر صرامة مع المكسيك؛ إذا فاز هو الآخر بولاية ثانية.
في هذا السياق، يعتقد بعض المحللين أن أوبرادور اتبع سياسة مُقايضة تجاه كلٍ من الرئيسيْن الأمريكيين دونالد ترامب وجو بايدن، ومن المحتمل أن يستمر هذا النهج مع شينباوم، التي كانت حذرة في تأييد أي من الشخصين في الرئاسيات الأمريكية؛ إذ قالت لصحافيين أجانب في منتصف شهر مايو الماضي: "أعتقد أن علاقاتنا ستكون جيدة، سواء مع الرئيس السابق دونالد ترامب أم الرئيس الحالي جو بايدن، إن الأمريكيين بحاجة إلينا، ونحن بحاجة إليهم".
يُعزز هذا الرأي أيضاً، حجم التجارة الضخمة بين المكسيك والولايات المتحدة؛ إذ حلّت المكسيك محل الصين رسمياً كأكبر شريك تجاري ثنائي للولايات المتحدة خلال العام الماضي، كما اقتربت التبادلات الثنائية من 900 مليار دولار، وارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر ليصل إلى 36 مليار دولار.
2. تحسين العلاقة مع دول الجوار: أشارت عدّة تحليلات إلى أن شينباوم لديها فرصة لإعادة ضبط العلاقات بشكل إيجابي مع جيران المكسيك الجنوبيين، والتي شهدت توترات عدّة خلال الفترة الماضية، كان آخرها قطع العلاقات مع الإكوادور في إبريل 2024 بعد أن داهمت الشرطة الإكوادورية السفارة المكسيكية في كيتو؛ لاعتقال نائب رئيس سابق حصل على اللجوء السياسي، وذلك من خلال عدّة مجالات أبرزها: تغير المناخ، والأمن الإقليمي، والهجرة.
كما أنه من المُتوقع أن يكون لسياساتها بشأن الطاقة والاستدامة البيئية، والتكامل الاقتصادي، تأثير مهم في مُستقبل المنطقة؛ ومن ثم إعادة تعريف دور المكسيك في أمريكا الوسطى، وتعزيز منطقة أكثر استقراراً وازدهاراً. كذلك، من الممكن أن يساعد تحسين وزيادة تبادل المعلومات الاستخبارية بين المكسيك ودول أمريكا الوسطى على مكافحة الجريمة المنظمة والعنف، وهما من أبرز الدوافع للهجرة.
3. مُوازنة العلاقة مع الصين: أشارت بعض التحليلات إلى أنه من المرجح أن تواصل شينباوم السياسة الودية التي انتهجها لوبيز أوبرادور تجاه الصين، وقد تسعى أيضاً إلى تعزيز التعاون مع الصين في قطاعيْ الاقتصاد الرقمي والطاقة الخضراء؛ لأن المكسيك تمتلك موارد وفيرة من الليثيوم وتحتاج إلى التحول الأخضر في قطاعيْ النفط والبتروكيماويات؛ مما يخلق فرصاً للتعاون بين البلدين في تنمية الموارد المعدنية وانتقال الطاقة. علاوة على ذلك، فإن تكنولوجيا السكك الحديدية عالية السرعة وقدرات بناء السكك الحديدية في الصين تحظى بشهرة دولية، تزامناً مع الطلب الكبير لدى المكسيك على تطوير البنية التحتية للسكك الحديدية؛ ومن ثم ستكون الشركات الصينية في وضع جيد لزيادة الاستثمار في هذا القطاع والمشاركة في بناء مشروعات السكك الحديدية في المكسيك.
ومع ذلك، جادل بعض المحللين بأنه مع استهداف بعض السياسيين الأمريكيين للسيارات الكهربائية الصينية، وإعلان إدارة بايدن في مايو عن تعريفة بنسبة 100% على السيارات الكهربائية الصينية الصنع، قد تواجه المكسيك أيضاً ضغوطاً من الولايات المتحدة بشأن إمكانية التعاون مع الصين في صناعات السيارات الكهربائية؛ وهو ما رفضه البعض مؤكدين بأن شينباوم ستتعامل مع الضغوط بشكل جيد؛ لأن السياسة المتوازنة لن تؤكد فقط موقف المكسيك المستقل على المنصة الدولية، ولكنها ستوفر أيضاً المزيد من الفرص للمكسيك في التنمية الاقتصادية والتعاون الدولي مع القوى المهمة الأخرى، بما في ذلك الصين والبرازيل والاتحاد الأوروبي.
4. موقفها من القضية الفلسطينية: كان لشينباوم مواقف عدّة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ظهر آخرها في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي بدأ في 7 أكتوبر الماضي، حينما أدانت الهجمات على المدنيين كما أشارت إلى ضرورة الاعتراف بحل الدولتين وحثّت الأمم المتحدة على العمل من أجل ترسيم الحدود بين الدولتين (الفلسطينية والإسرائيلية) من خلال المعاهدات الدولية.
غير أنها التزمت الصمت حين اتهم لوبيز أوبرادور إسرائيل علناً بارتكاب "إبادة جماعية" مُستمرة في غزة، وسعى إلى تعزيز الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وهو ما دفع البعض للتأكيد أن موقفها لن يكون مغايراً كثيراً لموقف سلفها الرئيس أوبرادور، فكلاهما يعتمد الحياد، وربما سيكون موقفها هي أكثر بروداً، رغم تنديدها بالظلم والاضطهاد في غزة، غير أن الأمر مختلف الآن، مراعاة لحساسية هويتها ومسؤوليات منصبها الجديد.
وفي التقدير، يمكن القول إن شينباوم ستحتاج في كافة الأحوال إلى تجميع فريقها الحاكم وخطط العمل الخاصة بها، والتعامل مع الضغط من أجل الإصلاحات الدستورية، والعمل على إنشاء "صورتها الرئاسية" المستقلة عن صورة سلفها ومعلمها "أملو" الذي يحظى بشعبية كبيرة، تمكنه من الاستمرار في الساحة.