لم تأتِ نتائج انتخابات مجلس النواب الهندي "لوك سابها" مُخالِفَة فقط لكافة التوقعات واستطلاعات الرأي التي رجَّحت فوز حزب بهاراتيا جاناتا بالعدد الأكبر من المقاعد، بل ربما جاءت كذلك لتصيب الحزب ورئيس الوزراء، ناريندرا مودي، بما يشبه الصدمة، في ضوء الثقة المفرطة والتوقعات المتزايدة في اكتساح الحزب منافسيه؛ إذ لم تأتِ الرياح هذه المرة بما تشتهي السفن بَعْد عدم تمكُن الحزب من الحصول على الأغلبية المطلقة مثلما حدث في انتخاباتي 2014 و2019 حينما كان بإمكانه تشكيل الحكومة منفرداً.
ونظراً لأن الحزب سيُشكل مع حلفائه حكومة ائتلافية، فإنه لا يمكن المبالغة في ذاك الافتراض القائل إن نتائج الانتخابات سوف تعيد تشكيل المشهد السياسي الهندي خلال السنوات الخمس المقبلة، لكنها، ولا شك، تبدو مقدمة لمرحلة من التغيرات الجديدة التي قد تظهر في الانتخابات التالية في عام 2029.
ويعزى ذلك إلى أن تراجُع أداء بهاراتيا جاناتا لا يمنع من أن مودي تمكَّن من أن يصبح ثاني رئيس وزراء في تاريخ الهند يحصل على 3 ولايات متتالية، وأصبح من بين رؤساء الوزراء القلائل الذين استمروا في الحكم لأكثر من 10 سنوات، ففي نهاية ولايته الثالثة سيكون ثاني أكثر رؤساء الوزراء بقاءً في هذا المنصب بعد مؤسس الهند جواهر لال نهرو، الذي استمر 16 عاماً، ومتساوياً مع إنديرا غاندي، التي استمرت في المنصب 15 عاماً.
تحولات سياسية غير متوقعة:
تبلورت مجموعة من التحولات السياسية فور إعلان النتائج، وهي تحولات ستكون لها انعكاسات على التفاعلات الداخلية في مجملها في السنوات الخمس المقبلة، وهو ما يمكن إيجازه في الآتي:
1 – إنهاء سيطرة الحزب الواحد: أول ما يلفت النظر هو تغيُر المعادلة السياسية التي أفضت إلى سيطرة بهاراتيا جاناتا في السنوات العشر الماضية على الحياة السياسية بعد تحقيقه الأغلبية المطلقة بمفرده في انتخاباتي 2014 و2019، بواقع 282 و303 مقاعد على التوالي؛ وهو ما تغيَّر في انتخابات 2024 بحصوله على أكثرية المقاعد فقط دون هذه الأغلبية المطلقة، بفوزه بـ 240 مقعداً فقط؛ أي أنه لم يستطع تجاوُز المقاعد اللازمة للفوز بالأغلبية المطلقة، وهي 272 مقعداً.
والأهم أن الحزب الحاكم فَقَدَ 63 مقعداً مرة واحدة؛ وهو ما انعكس أيضاً في تراجُع عدد مقاعد التحالف الوطني الديمقراطي الحاكم بقيادة الحزب؛ إذ حصل على 293 مقعداً، بخسارة 60 مقعداً مقارنة بانتخابات 2019، التي حصد فيها 353 مقعداً.
2- تضييق الفجوة بين التحالف الحاكم والمعارضة: هذه الخسارة السابقة تحولت بالطبع لمكسب عدد إضافي من المقاعد لصالح حزب المؤتمر وشركائه في تحالف "الهند" المعارض؛ فقد حصلت أحزاب التحالف على 234 مقعداً، بزيادة بلغت 143 مقعداً عن انتخابات 2019، التي حصل فيها تحالف المعارضة على 91 مقعداً فقط. كما أن حزب المؤتمر حصل منفرداً على 99 مقعداً، بزيادة وصلت إلى 47 مقعداً مقارنة بانتخابات 2019، التي لم يفز فيها إلا بـ 52 مقعداً فقط.
ولا شك في أن المعارضة حققت نتائج أفضل كثيراً مما كان متوقعاً؛ وهو ما يعود إلى تماسُك الجبهة الداخلية وتجاوز الخلافات حول توزيع المقاعد على المرشحين كما حدث في الانتخابات السابقة، فقد أفسح حزب المؤتمر المجال أمام شركائه في تقاسم المقاعد في بعض الولايات المهمة للفوز بأكبر عددٍ من المقاعد دون التصادم مع بعضهم بعضاً.
3 - العودة لنمط الحكومة الائتلافية ودور أكبر للأحزاب الإقليمية: أنهت انتخابات 2024 عُرفاً كاد أن يترسَّخ مجدداً في الهند، وهو هيمنة حزب واحد على المشهد السياسي لفترات طويلة، كما حدث مع حزب المؤتمر الوطني في الفترة منذ عام 1947 وحتى تشكيل أول حكومة ائتلافية في عام 1977؛ أي ثلاثين عاماً؛ ومن ثم أجبرت نتائج هذه الانتخابات حزب بهاراتيا جاناتا على ضرورة العودة إلى نمط الحكومة الائتلافية، وهو ما كان يتم طوعاً مع أحزاب التحالف الوطني الديمقراطي في الأعوام العشرة الماضية.
ويمنح هذا النمط الأحزاب الإقليمية والصغيرة فرصة للتأثير في المشهد السياسي، خاصة وأنها تتحول إلى كتلة مرجحة؛ إذ شهدت الانتخابات عودة ملحوظة للأحزاب الإقليمية، التي تمكنت من تحقيق مكاسب في 5 ولايات هي (بيهار، جهارخاند، ومهاراشترا، وأوتار براديش، والبنغال الغربية). على سبيل المثال، حصل حزب شيف سينا على 9 مقاعد في ولاية مهاراشترا، وتمكن حزب ساماجوادي من الفوز بـ 37 مقعداً في ولاية أوتار براديش.
ومن بين هذه الأحزاب يبرز حزبان رئيسيان يقومان بأداء دور صانعي الملوك بالنسبة لرئيس الوزراء، مودي، فهما من ضمنا له ولاية ثالثة في ظل الاتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية جديدة، ليحظى التحالف الحاكم بالأغلبية المطلقة؛ وهما: (حزب جاناتا دال المتحد، الذي حصل على 12 مقعداً من أصل 40 مقعداً في ولاية بيهار الشرقية؛ وحزب تيلجو ديسام، الذي تمكن من الفوز بــ 16 مقعداً من أصل 25 في ولاية أنديرا براديش).
في هذا الإطار، سوف يبرز دور لرئيسي الحزبين، وهما: تشاندرابابو نايدو رئيس حزب تيلجو ديسام، ونيتيش كومار رئيس جاناتا دال، في سياسة الهند الداخلية؛ إذ يشير البعض داخل الهند إلى أن الحزبين سوف يحصلان على مساحة من التأثير السياسي في ولاية مودي الثالثة في ظل احتمال حصولهما على عدد من المناصب والحقائب الوزارية المهمة في الحكومة الهندية القادمة وعلى منصب رئاسة البرلمان.
4 – تراجُع شعبية مودي في بعض معاقله الرئيسية: إحدى إشكاليات رئيس الوزراء، مودي، أنه حوَّل بنفسه هذه الانتخابات لتكون بمثابة اختبار لشعبيته، فهو من ذكر أن حزبه سيحصل على أكبر عدد من المقاعد في تاريخ الهند، وأنه شخصياً تقع على عاتقه كل سياسات الهند في الداخل والخارج، وهو ما ظهر كأنه غرور سياسي أو امتلاك زائد للقوة، ولذلك ربما جاءت حملة مودي الدعائية بنتائج عكسية، أكدت أنه لا يحظى بتلك الشعبية المتصورة في المجمل؛ بل إن نسب التصويت له شخصياً تراجعت في قلب دائرته الانتخابية في مدينة فاراناسي، التي فاز فيها بفارق 152 ألف صوت فقط عن أقرب منافسيه، مقارنةً بفارق بلغ نصف مليون صوت في انتخابات 2019.
كما تأثرت شعبية مودي في ولايات تُعد معقلاً رئيسياً له ولحزبه، فعلى سبيل المثال، خَسِرَ نصف عدد مقاعده في أوتار براديش (أكثر ولايات الهند اكتظاظاً بالسكان) التي كانت أحد مفاتيح سيطرة الحزب على السياسة الهندية منذ عام 2014؛ وذلك بعد حصوله على 33 مقعداً من أصل 80 مقعداً، مقارنة بـ 71 و62 مقعداً في انتخاباتي 2014 و2019 على التوالي. كما تراجع عدد مقاعد الحزب في ولاية البنغال الغربية مع حصول الحزب على 12 مقعداً في مقابل 18 مقعداً في انتخابات 2019. ومن المفارقات التي لم تكن واردة خسارة الحزب مقعده الانتخابي في "فايز آباد" وهي الدائرة الانتخابية التي تضم معبد رام، الذي بدأ مودي حملته الانتخابية ضمنياً مع افتتاحه في شهر يناير الماضي.
الانعكاسات المحتملة على الداخل الهندي:
تشير التحولات السابقة إلى أن نتائج "لوك سابها 18" ستكون لها تأثيرات محتملة في الداخل الهندي، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ما يلي:
1 – قدرة الائتلاف الحكومي على التماسك والاستمرارية: تُسلِّط تركيبة مجلس النواب الجديد، وما سوف يتم إعلانه من تشكيل حكومة ائتلافية الضوء على اختبار جديد لرئيس الوزراء، الذي اعتاد منذ عام 2014 التصرف دون حسابات معقدة، ودون الاعتماد على أحد من خارج حزبه، ودون عَقْد صفقات مع أحزاب إقليمية يمكنها الضغط ليس فقط للحصول على حقائب وزارية أو مكاسب تنموية في ولاياتها، بل يمكنها كذلك أن تؤثر في تماسُك الائتلاف الحاكم.
يعود ذلك إلى أن رئيس حزب جاناتا دال المتحد، نيتيش كومار، معروف بتغيير تحالفاته، فقد انضم في شهر يناير الماضي لتحالف الائتلاف الحاكم بعد أن كان عضواً في تحالف المعارضة. كما أن حزب تيلجو ديسام، قد انفصل سابقاً عن التحالف الحاكم في ظل خلافات مع حزب بهاراتيا جاناتا، في عام 2018، بل وقدَّم حينذاك اقتراحاً بسحب الثقة من حكومة مودي، قبل أن يعود مجدداً للتحالف قبل انتخابات 2024 مباشرةً؛ وهو الأمر الذي يُمكِن أن يسبب مأزقاً لـمودي حال تكراره، فالانسحاب من أو الانقسام داخل التحالف لم يكن مؤثراً خلال 2014 و2019 بسبب حيازة حزب مودي الأغلبية المطلقة، ولكنه سيكون مؤثراً هذه المرة.
2 – تحديات تلبية المتطلبات المعيشية: تغلبت القضايا المعيشية على السردية القومية بالنسبة للناخب الهندي، ففي الوقت الذي اعتمدت فيه حملة التحالف الحاكم الانتخابية على الاستمرار في تصعيد الخطاب القومي، نجح تحالف المعارضة في توجيه خطاب يركز على القضايا التي تمسُ المواطن، خاصة ما يتعلق بمعالجة قضية البطالة التي تصل إلى 44.49% بين الشباب من 20 إلى 24 سنة، والسياسات الزراعية، والحاجة لتطوير البينة التحتية، علاوة على قضية التوزيع غير العادل أو المتساوي للفوائد الاقتصادية بين المناطق الريفية والحضرية.
ومن المتوقع أن يدفع ذلك حكومة مودي الجديدة للتركيز على الاهتمام أكثر بالقضايا المعيشية والاقتصادية، خاصةً ما يتعلق بتوفير فرص العمل؛ إذ تحتاج الهند إلى توفير 115 مليون وظيفة بحلول عام 2030، ويُرجَّح أن يتجه مودي للإعلان عن خطة جديدة للرعاية الاجتماعية وغيرها من الإجراءات والسياسات الموجهة للفئات الأكثر عوزاً. ولكن ربما يضع ذلك قيوداً على الخطة الإصلاحية التي كان يتطلع إليها مودي، خاصة في مجال العمل واستخدام الأراضي الزراعية التي يُعتقَد أن الهند بحاجة إليها لتصبح قوة تصنيعية تجذب مزيداً من الاستثمارات بعيداً عن الصين.
3 – تقويض محدود للأجندة القومية الهندوسية: يُمكِن القول إن الناخبين صوتوا في المجمل ضد استمرار سيطرة حزب سياسي واحد على الحكم، وهو الحزب الذي يعلي في خطاباته وأفعاله القومية الهندوسية على حساب القوميات والديانات الأخرى، ومع أنه لا يمكن القول إن هذه الأجندة هي السبب المباشر في تراجُع عدد مقاعد الحزب؛ لكن ثمة قيود سوف تُوضَع على مساعي مودي لاستمرار سياسة تعزيز التفوق الهندوسي بنفس القدر الذي عرفته السنوات العشر الأخيرة.
ويشير معارضو مودي إلى أن ذلك ربما يمنعه من إجراء تعديلات على الدستور تجعل الهند جمهورية هندوسية، في ظل المتغيرات الجديدة وطبيعة تشكيل الحكومة وعدم تأييد شركائه في التحالف مثل هذه السياسات. كما ثبت من جانب آخر أن زيارات مودي للولايات الجنوبية أثمرت نتائج إيجابية في الانتخابات، فمثلاً، حصل الحزب على مقعد واحد في ولاية كيرالا، للمرة الأولى في تاريخه؛ ومن ثم فربما يقلل بنفسه من حدة استخدام الخطاب القومي.
4 – تساؤلات حول مستقبل بهاراتيا جاناتا بعد مودي: هناك عاملان يقودان للحديث عن مستقبل مودي السياسي، أو ما يشار إليه في الهند بـ "حقبة ما بعد مودي"، أولهما نتائج انتخابات 2024، وثانيهما تقدمه في العُمر، وهما عاملان قد يحولان دون توليه فترة رابعة في عام 2029، بل يُثار كذلك تساؤلٌ موازٍ حول مستقبل حزب بهاراتيا جاناتا بعد مودي؛ فقد ارتبطت شعبية الحزب بشخصية مودي الكاريزمية، وربما لا يوجد شخص قادر على شغل مكانته السياسية، ولاسيما مع تراجُع الحزب في ولاية أوتار براديش؛ وهو الأمر الذي يُقوض مكانة رئيس وزراء الولاية، يوغي أديتياناث، الذي يُنظَر إليه باعتباره خليفة مُحتَمَلاً لـمودي.
ويُضاف إلى ذلك، أن تحالف المعارضة بقيادة راهول غاندي، رئيس حزب المؤتمر، اكتسب زخماً شعبياً كان مفقوداً في الأعوام الأخيرة. وعليه، سوف يَبرُز نجم غاندي بصورة قد تجعله مرشحاً بقوة للتنافس على منصب رئيس الوزراء في انتخابات 2029 إذا ما استمر تحالف المعارضة في التماسك الداخلي، وهو ما يتوقف كذلك على قدرة حكومة مودي الجديدة على التعامل مع كافة ما أفرزته هذه الانتخابات من تحولات سياسية مفاجئة.